×

  الاعلام و التکنلوجیا

  اختراق الاتصالات وانعكاسات تفجيرات البيجر



*الباحث محمد فوزي

انترريجيونال للدراسات الاستراتيجية

سقط المئات من عناصر حزب الله اللبناني قتلى ومصابين نتيجة اختراق أمني كبير حدث لجهاز "البيجر"، وهو وسيلة الاتصال الرئيسية التي يعتمد عليها عناصر وقيادات الحزب. وقد حملت العملية الأخيرة تأكيداً على اعتبارين رئيسيين، الأول أن هجوم "البيجر" جاء كحالة من الحالات النادرة والقليلة التي يتقاطع فيها العامل السيبراني مع العامل المادي، وهو ما يمكن تسميته بـ"الحرب السيبرانية الحركية"، والتي لا يؤدي فيها الهجوم السيبراني فقط إلى إحداث أعطال أو شلل في بعض مرافق البنى التحتية، وإنما يمتد ليشمل أضراراً مادية وعسكرية مباشرة.

أما الاعتبار الثاني فهو التأكيد على أن التصعيد بين حزب الله اللبناني وإسرائيل وصل إلى نقطة شديدة التقدم، على اعتبار أن هذه العملية لا تقل أهمية عن الهجوم الذي حدث على الضاحية الجنوبية لبيروت واغتيال القيادي العسكري الأهم بحزب الله اللبناني فؤاد شكر في يوليو 2024. وتطرح هذه العملية العديد من الدلالات المهمة حول أبعادها وتداعياتها المحتملة خصوصاً على مسار التصعيد بين الجانبين.

 

أبعاد العملية

ثمة العديد من المؤشرات المهمة التي تعزز من كون هذه العملية هي أحد أهم الاختراقات الأمنية التي استهدفت حزب الله اللبناني، جنباً إلى جنب مع كونها تعبر عن ارتفاع مستوى التصعيد بين إسرائيل والحزب ليشمل أبعاداً جديدة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

 

1- حصيلة ضحايا كبيرة لاختراق "البيجر":

أدى الانفجار الذي حدث لآلاف أجهزة "البيجر" التي يحملها عناصر وقواعد حزب الله في كل من لبنان وسوريا إلى حصيلة كبيرة من الضحايا، فوفقاً لما أعلنته السلطات اللبنانية فقد سقط في العملية ما لايقل عن 11 قتيلاً وأكثر من 4000 جريح بينهم نحو 200 في حالة حرجة، موزعين على 100 مستشفى في لبنان. وتعكس هذه الأرقام بعض الدلالات الرئيسية، أولها أن هذه العملية هي عملية ذات طابع استخباراتي وسيبراني كانت لها انعكاسات مادية كبيرة، وثانيها أن العملية تعد الأكبر تجاه حزب الله اللبناني، وربما تزيد في الأهمية والنوعية عن أي عمليات تمت ضد الحزب منذ 8 أكتوبر 2023 وحتى اليوم.

 

2- تحميل الجانب اللبناني إسرائيل مسؤولية الحادث:

 كان لافتاً في التعاطي اللبناني مع الحادث، أن مسألة تحميل إسرائيل مسؤولية هذه العملية هي محل اتفاق بين كافة الاتجاهات اللبنانية بمختلف توجهاتها. فعلى مستوى حزب الله، أعلن الحزب في بيان أولي أن الأجهزة الأمنية في الحزب تُجري حالياً تحقيقاً واسع النطاق أمنياً وعلمياً من أجل معرفة الأسباب، كما حمّل الحزب في بيان لاحق له إسرائيل المسؤولية الكاملة عن الهجوم، واصفاً ما حدث بأنه "عدوان آثم".

 ومن جهتها، اعتبرت الحكومة اللبنانية عبر وزارتي الإعلام والخارجية أن "العملية الأخيرة هي نتاج هجوم سيبراني إسرائيلي"، معتبرين أن "الهجوم يأتي برسم من المجتمع الدولي"، ومنددين بالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان.

 

3- امتناع إسرائيل عن الكشف عن مسؤوليتها عن الهجوم:

 رغم أن إسرائيل لم تعلن رسمياً مسؤوليتها عن الهجوم، إلا أن العديد من المؤشرات تدفع باتجاه كونها المسؤولة عن العملية، وأول هذه المؤشرات أن النهج الإسرائيلي عموماً في مثل هذه الحالات يكون أميل إلى تبني التكتم والتعتيم على العملية، بمعنى عدم تبني العملية على المستوى الرسمي مع الاحتفاء بها من قبل دوائر محسوبة على الحكومة الإسرائيلية.

 وثانيها أن العملية تمت وسط حالة من التصعيد غير المسبوق بين الحزب وإسرائيل منذ 8 أكتوبر 2023، وكان المتغير الأهم في الأسابيع الأخيرة، هو توسيع الطرفين تدريجياً لقواعد الاشتباك بينهما، وتجاوز هذه القواعد في حالات عديدة، مما يعني عملياً أن هذه العملية جزء من هذه الحالة.

 وثالثها أن العملية جاءت في سياق إسرائيلي داخلي يشير إلى التوجه نحو تنفيذ عملية نوعية ضد الحزب.

 

4- الترويج لسيناريو الاختراق السيبراني لأجهزة البيجر:

 كما سبقت الإشارة، يمكن وصف هذه العملية بأنها تأتي في إطار "الحرب السيبرانية الحركية"، على اعتبار أن أهدافها لم تشمل فقط تعطيل بنى تحتية وتكنولوجية أو اختراقها، وإنما امتدت لتشمل أهدافاً عسكرية وإلحاق أضرار مادية كبيرة. وفي هذا الإطار ليس محلاً للصدفة أن تنفجر كل هذه الأجهزة دفعة واحدة، ويظل التساؤل الرئيسي في هذا الصدد مرتبطاً بالكيفية التي تمت بها عملية الاختراق. وللإجابة عن هذا التساؤل يشير البعض إلى إمكانية استخدام برامج خبيثة أدت إلى ارتفاع درجة حرارة البطاريات بصورة كبيرة وانفجارها. ويشير البعض إلى أن الاختراق تم عبر إرسال كميات ضخمة من المعلومات بالشكل الذي فاق قدرة الجهاز ما أدى إلى انفجاره.

 

5- طرح البعض احتمال تفخيخ أجهزة البيجر قبل تسليمها لحزب الله:

بالرغم من ترويج البعض لسيناريو الاختراق السيبراني لأجهزة البيجر؛ فإن ثمة افتراضاً آخر يفيد بأن هذه الأجهزة كانت عبارة عن متفجرات وألغام تم بيعها للحزب خلال الأشهر الخمسة الماضية، ما يعبر أيضاً عن اختراق أمني كبير لحزب الله؛ حيث أشارت تقارير إلى احتمالية قيام الموساد بتفخيخ أجهزة اتصال "حزب الله" قبل أن تصل إلى عناصره بمادة "PETN" المتفجرة، وأنّ الانفجار تم عبر إرسال رسالة مشفرة إلى الجهاز. وكان وزن المتفجرات المزروعة بين بطاريات أجهزة الاتصالات لم يتجاوز حوالي 20 جراماً.

 

6- تعامل إسرائيلي "حذر" مع العملية:

 كانت هناك حالة من الحشد في الداخل الإسرائيلي على مستوى التعامل مع العملية الأخيرة في لبنان، وقد تجسد ذلك في أكثر من مستوى ومؤشر، الأول هو إصدار "نتنياهو" تعليمات لأعضاء حكومته بعدم الإدلاء بأية تصريحات بخصوص العملية في لبنان، والثاني هو تأكيد إعلام عبري أن "نتنياهو" جمد حالياً قرار إقالة وزير الدفاع، يوآف غالانت، وتوجّه كلاهما معاً مع قادة الجيش وأركان الحرب إلى مقر القيادة السري تحت الأرض لإدارة التطورات المقبلة، والثالث هو ما نشره إعلام عبري بخصوص تلقي جنود وضباط في جيش الاحتياط الرمز رقم 8 الذي يُلزم بالحضور إلى القواعد العسكرية، وقامت الجبهة الداخلية بإجراءات تأهّب غير عادية يتم من خلالها إنعاش أوامر الاحتياط وإعداد الملاجئ، وتمت عملية إعداد للملاجئ والمناطق المحمية في حيفا وبقية المدن.

 

التداعيات المحتملة

تدفع هذه العملية الأخيرة وما أحدثته من خسائر بشرية وأمنية بالنسبة لحزب الله اللبناني، باتجاه العديد من التداعيات السلبية، خصوصاً على مستوى زيادة منسوب المواجهات بين الحزب وإسرائيل، ويمكن بيان أبرز هذه التداعيات على النحو التالي:

 

1- إضعاف صورة حزب الله وإيران:

بالرغم من ترويج حزب الله وإيران امتلاكهما إمكانيات كبيرة قادرة على إلحاق خسائر كبيرة بإسرائيل، فإن تفجيرات البيجر تعكس حالة كبيرة من الضعف بالنسبة للحزب، وكذلك إيران التي لم تكن لديها القدرة على التعرف الاستباقي على هذا الاختراق وتجنب حدوثه. وبالتالي ستكون هناك مخاوف كبيرة في الوقت الراهن داخل حزب الله بشأن حدود الانكشاف أمام تل أبيب، وما إذا كانت إسرائيل باتت قادرة على استهداف المزيد من القيادات داخل الحزب.

 

2- إرباك أنظمة الاتصال الخاصة بحزب الله:

 اعتمد حزب الله على أجهزة البيجر لاعتبارات متعلقة بسماتها؛ حيث إنها أجهزة تعتمد على تقنية قديمة ولا تتصل بشبكة الإنترنت كما لا تتضمن تقنيات الاتصال المعقدة مثل الهواتف الذكية، وهو الأمر الذي يقلل من احتمالات تتبعها والتنصت عليها. ولكن مع هجمات 17 سبتمبر 2024، بدا أن هذه الأجهزة ليست عصية على الاختراق، وهو أمر سيؤدي إلى إرباك في أنظمة الاتصال الخاصة بالحزب؛ إذ إنه سيكون مطالباً بالبحث عن أنظمة جديدة.

 

3- رد محتمل من حزب الله اللبناني:

 أحد الانعكاسات الرئيسية للعملية الأخيرة في لبنان ترتبط بشكل رئيسي باحتمالية دفعها باتجاه المزيد من التصعيد، وتوسيع قواعد الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل، خصوصاً وأن الحزب في ضوء هذه العملية، وكذا عدم رده حتى اللحظة على اغتيال فؤاد شكر في يوليو الماضي، بات مطالباً بالرد بما يناسب حجم وطبيعة هذه العمليات، خصوصاً وأن عدم الرد يدفع باتجاه إحراج الحزب أمام قواعده، جنباً إلى جنب مع كونه يؤدي عملياً إلى تراجع منظومة الردع التي حرص الحزب على التكريس لها مع إسرائيل منذ 8 أكتوبر 2023.

 

4- إمكانية توجه إسرائيل نحو المزيد من التصعيد:

يمكن القول إن أحد الارتدادات الرئيسية لهذه العملية، سوف يتمثل في تبني إسرائيل وحكومة "نتنياهو" المزيد من التصعيد تجاه لبنان، وذلك في ضوء بعض الاعتبارات الرئيسية؛ أولها أن إسرائيل سوف تسعى إلى التعامل الاستباقي مع رد حزب الله أو اتخاذ هذا الرد كذريعة لتوسيع العمليات، وثانيها أن إسرائيل وعبر اختراقها لمنظومة الاتصالات الخاصة بالحزب، والعملية الأخيرة التي تمت، باتت على الأرجح تملك قاعدة معلوماتية كبيرة بخصوص قواعد وقيادات الحزب، ما يمثل أرضية خصبة يمكن من خلالها تنفيذ المزيد من العمليات النوعية، وثالثها أن هناك مصلحة مباشرة لحكومة "نتنياهو" في إطالة أمد الحرب في غزة وتوسيع نطاقها الجغرافي لتشمل ساحات أخرى كلبنان، على اعتبار أن ذلك يؤدي إلى إطالة العمر السياسي لهذه الحكومة، في مواجهة الضغوط الداخلية المتنامية.

 

5- محاولة توظيف إسرائيل الهجوم في ترميم صورتها:

 أفضت عملية "طوفان الأقصى" إلى تقويض صورة المؤسسات الأمنية والاستخباراتية وقدرات الردع التي لطالما روجت تل أبيب لها. ولذا قد تسعى إسرائيل إلى استخدام عملية تفجير أجهزة البيجر للترويج لقدرتها على تنفيذ عمليات نوعية ضد خصومها، وبالتالي العمل على ترميم قدرات الردع الإسرائيلية، وخاصة أن التفجير يرسل رسائل تحذيرية لطهران وحزب الله حول قدرة إسرائيل على تنفيذ هجمات غير متوقعة ضدهما، وربما يعقد ذلك من حسابات إيران وحزب الله بشأن حدود الصراع مع إسرائيل.

 

سيناريوهات خطيرة

 

ختاماً، يمكن القول إن هذه العملية وما حملته من تداعيات تدفع باتجاه أحد السيناريوهين؛ فإما أن تكون العملية إحدى حلقات الصراع المتنامية بين الحزب وبين إسرائيل، ما يستدعي المزيد من التصعيد وتوسيع قواعد الاشتباك دون الوصول إلى سيناريو الحرب المفتوحة. والثاني هو الوصول إلى حافة الهاوية أو الحرب المفتوحة. لكنّ ترجيح أيّ من السيناريوهين سوف يتوقف على مجموعة من الاعتبارات والمحددات الرئيسية، أولها موقف الداخل الإسرائيلي وكذا المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من هذا القرار، وثانيها مدى فاعلية الضغوط الغربية على كل من حزب الله وإسرائيل من أجل تجنب سيناريو الحرب المفتوحة، وثالثها الموقف الإيراني من مسألة الحرب المفتوحة، خصوصاً وأن إيران تعمل على تجنب هذا السيناريو منذ بداية الحرب، لكن العملية الأخيرة بالتأكيد سوف تدفع باتجاه المزيد من التصعيد النوعي بين الحزب وإسرائيل.


21/09/2024