*الباحثة رانيا مكرم
*مركز المستقبل للابحاث والدراست المستقبلية
في أول زيارة خارجية له منذ توليه منصبه في 28 يوليو 2024، قام الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بزيارة رسمية إلى العراق على رأس وفد سياسي واقتصادي كبير؛ تلبيةً لدعوة الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد، ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني؛ في زيارة بدأت يوم 11 سبتمبر الجاري واستمرت لمدة ثلاثة أيام، قام خلالها بزيارة ست محافظات عراقية هي: العاصمة بغداد والبصرة وكربلاء والنجف وأربيل والسليمانية. ووقّع خلالها بزشكيان 14 مذكرة تفاهم في مجالات عدة؛ إذ هدفت الزيارة إلى تعزيز علاقات إيران مع العراق سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وكان الاقتصاد هو العنوان العريض لهذه الزيارة، كمحاولة للفكاك من تداعيات العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني؛ نظراً للأهمية الاستراتيجية للعراق بالنسبة لطهران كسوق مهمة للسلع الإيرانية.
وإلى جانب عدد من كبار المسؤولين العراقيين، التقى بزشكيان في اجتماعات رسمية رجال أعمال عراقيين وإيرانيين ناشطين في القطاع الخاص في البلدين.
وجاءت تلك الزيارة وسط توترات عدة تشهدها منطقة الشرق الأوسط، على خلفية استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكثر من 11 شهراً، وما ارتبط بها من أحداث مثل اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، في أواخر يوليو الماضي، وهي الأحداث التي ألقت بظلالها على مباحثات الجانبين الإيراني والعراقي.
فيما سبق زيارة بزشكيان وقوع انفجار مساء يوم 10 سبتمبر الجاري بالقرب من مطار بغداد الدولي في موقع قريب من قاعدة مخصصة للمستشارين العسكريين التابعين للتحالف الدولي؛ بسبب سقوط صاروخين من طائرة مُسيَّرة، دون تسجيل إصابات.
ووصفت كتائب حزب الله العراقية المتحالفة مع إيران، هذا الهجوم بالمشبوه، وأنه يهدف إلى التشويش على زيارة بزشكيان.
توقيت الزيارة:
على الرغم من تأكيد مصادر عراقية أن زيارة بزشكيان للبلاد كان من المُفترض أن يقوم بها الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، وأن مهمة الزيارة قد انتقلت إلى الرئيس الحالي بعد وفاة رئيسي في حادث تحطم طائرته في 19 مايو الماضي؛ فإنه لا يمكن اعتبار أن توقيت الزيارة وكونها الأولى للرئيس الإيراني الجديد اعتباطياً؛ إذ يرغب بزشكيان في تأكيد محورية العراق في السياسة الخارجية الإيرانية، كما يريد أن يرسل رسائل انفتاح إيران على دول الجوار، ولاسيما مع الدور الذي أداه العراق خلال السنوات الماضية في التمهيد لعودة العلاقات الإيرانية مع عدد من دول المنطقة وتحديداً السعودية، فضلاً عن السعي لإنهاء الخلافات والملفات العالقة مع إقليم كردستان العراق.
وهذا ما أكده بزشكيان في حملته الانتخابية مراراً؛ لتكون رمزية زيارته الأولى حاضرة في هذا الإطار، وخاصةً أنه فضّل زيارة العراق قبل توجهه إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع الأخير من سبتمبر الجاري.
وكما هي العادة عقب اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني السابق الجنرال قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، قام بزشكيان فور وصوله لمطار بغداد الدولي بالتوجه إلى محل اغتيال سليماني؛ في إشارة إلى تقدير دوره في العراق، وربما محاولة لتأكيد بزشكيان التزامه كرئيس بدور الحرس الثوري في رسم سياسات العلاقات مع العراق، كونه فاعلاً رئيسياً فيها، ولاسيما في ظل الحديث عن عدم ارتياح الحرس الثوري لسياسة الفريق الدبلوماسي فيما يخص إدارة العلاقات مع العراق، في ظل حيوية وأهمية العامل الأمني، والتوترات الحدودية مع إقليم كردستان العراق.
وفي هذا السياق، فقد قام العراق بعدة إجراءات مهمة لصالح إيران عشية زيارة بزشكيان، منها: مطاردة المعارضة الكردية الإيرانية المُسلحة، وإبعاد تمركز حزب الكادحين الثوري الإيراني "كومله" المُسلح عن الحدود الإيرانية، وهو ما أدانه الحزب، منتقداً إجبار مسلحي الأحزاب الكردية المعارضة وكوادرها على إخلاء مقارها قسرياً في منطقة زركويز جنوبي السليمانية والمحاذية للحدود الإيرانية، ونقلهم إلى منطقة سورداش في غرب السليمانية.
علاوة على استكمال محادثات عراقية أمريكية حول برنامج انسحاب القوات الأمريكية من العراق، وهو مطلب مهم للغاية بالنسبة لإيران، وتدفع العراق للتنسيق بشأنه مع الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي، وذلك على الرغم من تأكيد العديد من التقارير الأمريكية أن هذا الانسحاب لن يكون قريباً، وأنه سيظل مرهوناً بالوضع الأمني ومدى الاستقرار في المنطقة، وأن الانسحاب الأمريكي في ظل استمرار حرب غزة سيكون مستبعداً في الوقت الحالي، ولاسيما أن هذه الحرب قد دفعت المليشيات المدعومة من إيران للانخراط فيها، ومن بينها بعض الفصائل العراقية.
الأمن والاقتصاد:
في ظل أهداف زيارة بزشكيان التي أُعلنت من الجانب الإيراني، والمُتمثلة في توطيد العلاقات مع العراق، وتطوير مجالات التعاون في مختلف المجالات؛ فإن هذه الزيارة استطاعت تحقيق ما سعت إليه رمزياً وعملياً.
فقد سعى بزشكيان إلى التنقل بين أهم المحافظات العراقية، في الوسط والشمال والجنوب، وهي خطوة غير مسبوقة على هذا النحو؛ إذ يُعد بزشكيان أول رئيس إيراني يزور إقليم كردستان العراق، كما أنه التقى ممثلي أغلب أطياف المجتمع العراقي؛ في إشارة واضحة إلى اهتمام طهران بالعراق ككل وليس المكون الشيعي فقط؛ وهو ما حاول إظهاره في زيارته لمحافظة البصرة وارتدائه العباءة العربية.
وعلى هامش تلك الزيارة، وقّعت إيران والعراق 14 مذكرة تفاهم ثنائية، في مجالات وقطاعات مختلفة، شملت؛ الاقتصاد، والتعاون التدريبي، والشباب والرياضة، والتبادل الثقافي والفني والآثاري والتربية، والتعاون الإعلامي، والاتصالات، وفي مجال تفويج المجاميع السياحية الدينية، والتعاون في مجال المناطق الحرّة العراقية الإيرانية، وفي الزراعة والموارد الطبيعية، والبريد، والحماية الاجتماعية، والتدريب المهني والفني، وتطوير القوى العاملة الماهرة، والتعاون بين الغرف التجارية.
بيد أنه من اللافت أن أياً من هذه الاتفاقيات ومذكرات التفاهم لم تحمل إشارة إلى ملف المياه الخلافي بين البلدين، على الرغم من دعوة الرئيس العراقي، عبداللطيف رشيد، إيران إلى إطلاق مياه الأنهر الحدودية المشتركة والتوصل إلى تفاهمات مُرضية للجميع حول تقاسم المياه.
ولعل أبرز النتائج التي ترتبت على زيارة بزشكيان للعراق، تتمثل فيما يلي:
1- تأكيد أولوية الأمن:
يُعد ملف أمن الحدود مع العراق والبالغ طولها 1200 كيلومتر، منها 450 كيلومتراً مع إقليم كردستان العراق، إحدى أهم أولويات إيران الأمنية، ولاسيما مع تمركز المعارضة الإيرانية الكردية المُسلحة في كردستان العراق، ومن أهمها أحزاب "حدكا" و"كومله"، و"بيجاك"، وقدرة هذه الأحزاب على اختراق الداخل الإيراني بشكل كبير من خلال تجنيد عناصر هناك، والقيام بعمليات مُسلحة على الحدود وفي العمق الإيراني أيضاً.
واتهمت طهران هذه الجماعات بتأجيج التظاهرات التي شهدتها البلاد في سبتمبر 2022 على خلفية مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني خلال فترة احتجازها من قِبل "شرطة الأخلاق"؛ الأمر الذي دفع إيران إلى شن هجمات عدة على مقرات هذه الأحزاب في كردستان العراق، واستخدام أسلحة بالستية لم يتم استخدامها من قبل في هجمات مماثلة في كردستان العراق، كان آخرها تنفيذ هجوم صاروخي للحرس الثوري الإيراني في 21 نوفمبر 2022 على مواقع الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني؛ إذ أصابت ثلاثة صواريخ مواقع حزبية، من بينها مستشفى تابعاً للحزب في منطقة كويه سنجق، أسفر عن وقوع قتلى وجرحى.
وتسبب ذلك في توتر العلاقات بين طهران وبغداد من جانب، وبين طهران وأربيل من جانب آخر، حتى تم توقيع اتفاقية أمنية بين البلدين في 19 مارس 2023، تتضمن التنسيق في مجال حماية الحدود المشتركة، كان من أبرز بنودها نزع أسلحة جماعات المعارضة الإيرانية المُسلحة، الموجودة في إقليم كردستان، وإخلاء ثكناتها العسكرية.
وفي هذا الإطار، أعلن مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي، يوم 10 سبتمبر الجاري، إغلاق أكثر من 77 مقراً للمعارضة الإيرانية في الشريط الحدودي بين إقليم كردستان وإيران، وتسليم أسلحتها الثقيلة إلى قوات البشمركة، ونقل أعضائها إلى ستة مخيمات أربعة منها في أربيل واثنان في السليمانية، والتنسيق مع الأمم المتحدة لنقلهم وإعادة توطينهم في بلد ثالث.
ويأتي الاستباق العراقي لزيارة الرئيس بزشكيان بتنفيذ عمليات مكثفة لإبعاد الجماعات المُسلحة عن الحدود مع إيران، في أعقاب ضغوط مارستها الأخيرة على حكومة إقليم كردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد، لعدة أشهر.
2- تخفيف التوتر مع كردستان العراق:
على الرغم من التوترات التي شهدتها العلاقات بين طهران وحكومة إقليم كردستان العراق؛ بسبب الهجمات المتتالية للحرس الثوري على مقرات المعارضة الإيرانية؛ فقد لاقت زيارة بزشكيان إلى أربيل والسليمانية صدى واسعاً لدى الأحزاب الكردية المتحالفة مع طهران، كونها زيارة غير مسبوقة لرئيس إيراني.
وفي هذا الإطار، أشار المتحدث باسم الاتحاد الوطني الكردستاني، سعدي أحمد بيره، إلى أن زيارة الرئيس الإيراني إلى السليمانية مهمة للغاية، وأن الاتحاد الوطني الكردستاني يسعى لإقامة علاقات متوازنة وقوية مع دول الجوار، ولاسيما إيران، وأن الفرص مُتاحة لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين إقليم كردستان وإيران.
وتجدر الإشارة إلى أن التبادل التجاري بين إقليم كردستان العراق وإيران يصل إلى ستة مليارات دولار سنوياً.
وخلال الزيارة، دعا بزشكيان رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البارزاني، إلى زيارة إيران، وهو ما لاقى احتفاءً واضحاً من قِبل القيادات الكردية، ولاسيما البارزاني الذي لم يقم بزيارة إيران منذ 12 عاماً، كما تعهد بزشكيان بحل المشكلات مع إقليم كردستان العراق.
في الوقت الذي أكد فيه رئيس الإقليم، نيجيرفان بارزاني، عدم السماح باستخدام أراضي كردستان لتهديد أمن إيران، قائلاً: "هناك مشكلات مع إيران، ونحن عازمون على حلها".
3- تعزيز العلاقات الاقتصادية:
يُعد العراق أكبر شريك اقتصادي وتجاري لإيران، ولاسيما في ظل العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني، وحصول العراق على استثناء من العقوبات الأمريكية النفطية على إيران؛ إذ يصل حجم التبادل التجاري سنوياً إلى 10 مليارات دولار. وخلال زيارة بزشكيان، أوضح البلدان أنهما يطمحان إلى رفع مستوى التبادل التجاري بينهما بنسبة 100% بحلول عام 2027، ليبلغ نحو 20 مليار دولار سنوياً.
فيما تسعى إيران إلى الوصول بشكل أفضل إلى باقي أموالها المُجمدة لدى العراق، والبالغة نحو 11 مليار دولار، بعد حصولها على جزء منها في مقابل صادرات نفطية وكهرباء للأخير؛ إذ لم تتمكن بغداد من سداد مستحقات إيران من تصدير الكهرباء والغاز بسبب العقوبات الأمريكية على التعاملات الإيرانية البنكية، وذلك على الرغم من ادعاء عدة تقارير أن العراق ينتهج سُبلاً بديلة لتسديد المستحقات الإيرانية؛ ومن ثم الالتفاف على العقوبات الأمريكية.
في الوقت الذي ينفي فيه العراق ذلك، مؤكداً أنه يقوم بتسديد الديون المستحقة لطهران دون خرق قيود العقوبات الأمريكية المفروضة عليها.
وتشير زيارة الرئيس الإيراني غير المسبوقة منذ 100 عام إلى محافظة البصرة الحدودية مع بلاده، إلى أهمية هذه المحافظة كمنفذ تجاري لإيران التي تسعى لزيادة صادراتها وتنشيط تجارتها الخارجية مع شركاء مضمونين من دول الجوار، والحلفاء الدوليين مثل: الصين والهند وروسيا؛ كوسيلة للفكاك من قبضة العقوبات الأمريكية وتداعياتها الخانقة للاقتصاد الإيراني.
ويُعد منفذ الشلامجة الحدودي بين البصرة وخرمشهر، أحد أهم معابر السلع الإيرانية إلى العراق، والطريق الأكثر استخداماً لنقل الزوار الإيرانيين إلى العتبات المقدسة في العراق، وهو ما أشار إليه بزشكيان خلال لقائه محافظ البصرة، أسعد العيداني، مؤكداً ضرورة إحياء مشروع تطوير النقل البري بين الشلامجة والبصرة، المُتمثل في مشروع خط قطار بين المحافظتين عبر الحدود، ووصف المشروع بأنه الخطوة الأولى لتقوية التقارب أكثر بين البلدين.
ختاماً،
نجح الرئيس بزشكيان إلى حد كبير في توظيف زيارته للعراق لتحقيق الأهداف المرجوة منها، ولاسيما على الصعيدين الأمني والاقتصادي، مع إضافة بعض اللمسات التي يمكن أن تميزه كرئيس ذي توجه إصلاحي؛ يسعى لتحسين الصورة الذهنية لإيران لدى دول جوارها، فبدا أكثر بشاشة أثناء التصوير مع المسؤولين العراقيين على اختلاف انتماءاتهم، ولاسيما أثناء تجوله في شوارع البصرة بسيارة تحمل أرقام أربيل؛ ما يعكس تحسناً ملحوظاً في العلاقات مع كردستان العراق، وكذلك إبدائه ترحيباً بارتداء العباءة العربية التي أهداها له محافظ البصرة.
ويتوقف نجاح هذه الزيارة اقتصادياً، على مدى قدرة العراق على الوصول لتفاهمات مع الولايات المتحدة بشأن الأموال الإيرانية المُجمدة لديه، وكذلك على مدى قدرة طهران وبغداد على إدخال مذكرات التفاهم الاقتصادية المُوقعة بينهما حيز التنفيذ في وقت قريب.
*خبيرة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية