بغداد - لم يخل التصعيد الكبير الجاري في المنطقة، على الرغم مما أثاره من مخاوف للحكومة العراقية من أن تُورّط الفصائل الشيعية الموالية لإيران العراق في الحرب الدائرة في غزة وإسرائيل ولبنان، من وجه إيجابي للحكومة ذاتها التي يترأسها محمّد شياع السوداني.
وساهم التصعيد الذي بلغ ذروته مع بداية شهر أكتوبر بالتزامن مع الذكرى الخامسة لما بات يعرف في العراق بانتفاضة تشرين في إشارة إلى أعتى احتجاجات شعبية كانت قد تفجّرت سنة 2019 في وجه نظام الأحزاب الدينية الحاكمة في البلاد، بتبريد حماس الشارع للتظاهر والاحتجاج مجدّدا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة، وصَرَف اهتمام العراقيين نحو متابعة التطورات الخطرة وخصوصا في لبنان.
كما ساهم في تهدئة الأجواء المشحونة بالصراعات بين القوى المشكّلة للحكومة وخصوصا المنضوية ضمن الإطار التنسيقي الشيعي والذي اتّجهت قياداته نحو تأجيل صراعاتها استجابة للظرف الدقيق ومخافة أن تتطور الأحداث لتشمل الداخل العراقي وتهدّد بذلك تجربة حكم تلك القوى ذاتها.
وكان من أبرز تأثيرات الحرب في المنطقة على الداخل العراقي تغطيتها على سلسلة من العثرات والفضائح كانت تفجّرت خلال الفترة القليلة الماضية بشكل متسلسل في وجه حكومة السوداني وجعلت الأخير في وضع صعب إزاء بعض خصومه الداخليين الأقوياء الذين لم يخفوا رغبتهم في التعجيل بالإطاحة بحكومته.
وتزعّم هذا التوجّه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون الذي دعا إلى إقالة الحكومة وتنظيم انتخابات برلمانية مبكّرة، وذلك سعيا منه لقطع مسار الصعود السياسي للسوداني وتقليل حظوظه في الفوز بولاية ثانية على رأس الحكومة إذا أجريت الانتخابات في موعدها المحدّد سلفا أواخر السنّة القادمة.
وعكست تصريحات لقيادي في ائتلاف المالكي تبدّل مزاج أقطاب الإطار التنسيقي بما في ذلك المالكي العضو البارز فيه، باتّجاه التهدئة والتخلّي عن خلخلة استقرار الحكومة في هذا الظرف الإقليمي الدقيق.
واستبعد حيدر اللاّمي القيادي في الائتلاف أن تؤدي المشكلات الموجودة داخل ائتلاف إدارة الدولة (ائتلاف موسّع من قوى شيعية وسنية وكردية تشكّل بعد الانتخابات النيابية الماضية لدعم ترؤس السوداني للحكومة) الإطاحة بالحكومة.
وأقّر في تصريحات لوسائل إعلام محلية بوجود “مشكلات قائمة عكرت الجو السياسي داخل الائتلاف مثل ظهور شبكة التجسس في مكتب رئيس الوزراء”، لكنّه استدرك بالقول إنّ “المشكلات الموجودة في الوسط السياسي ليست قوية بحيث تقود إلى الإطاحة بالحكومة وإسقاطها”.
ويشير اللاّمي بذكره شبكة التجسّس إلى إحدى المشكلات العويصة التي واجهت حكومة السوداني مؤخرّا وتضافرت مع مشاكل أخرى لتطلق توقّعات بإمكانية سقوط الحكومة.
وتمّ قبل عدّة أسابيع الكشف عن وجود شبكة تجسّس على السياسيين والبرلمانيين يديرها موظفون من الدائرة القريبة من رئيس الحكومة، وترافق ذلك مع حدوث تطورات في قضية ما بات يعرف محليا بسرقة القرن المتمثلة بعملية اختلاس ضخمة لأموال الأمانات الضريبية والتي تطورت إلى صراع داخل منظومة القضاء بعد أن ثارت شكوك في ضلوع مسؤولين كبار في الدولة بمختلف سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية في السرقة التي نسفت من الأساس وعود حكومة الإطار بمحاربة الفساد وإنهاء ظاهرة نهب المال العام وهدره.
ولم توفّر الاتهامات رئيس الوزراء نفسه بالمسؤولية عن إطلاق سراح المتهم الرئيسي في القضية والسماح له بالسفر إلى الخارج قبل استكمال الفصل في قضيّته واسترداد الأموال التي قام باختلاسها.
وبالإضافة إلى التعقيدات السياسية، لم تعد المؤشرات الاقتصادية والمالية مواتية لتمادي حكومة السوداني في الإنفاق الضخم الذي انخرطت فيه أملا في تحقيق وعودها بتحسين الأوضاع الاجتماعية والخدمية بأقصى سرعة وبشكل غير مدروس جعل ما أطلقته من مشاريع إلى حدّ الآن رهنا للمتغيرات في سوق النفط المصدر الرئيسي للموارد المالية للعراق.
وترتهن حكومة السوداني في استقرارها وبقائها لتوافق أقطاب الإطار التنسيقي الذي تشكّل إثر الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أكتوبر 2021 وأفرزت تيار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر فائزا بثلاثة وسبعين مقعدا من مجمل مقاعد البرلمان البالغ عددها ثلاثمئة وتسعة وعشرين مقعدا، وبالتالي مؤهلا للحصول على امتياز تشكيل الحكومة.
لكن تحالف عدد من الأحزاب والفصائل الشيعية ضده حال دون ذلك، وأسند تشكيل الحكومة إلى السوداني الذي لم يكن موضع غضب جماهيري باعتباره لم يكن من قيادات الصفّ الأول بينما كان يحظى بسمعة جيّدة من خلال نجاحات نسبية حققها خلال قيادته لعدد من الوزارات أبرزها وزارة الشؤون الاجتماعية في عهد حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي.
وتحذّر أوساط سياسية عراقية من أنّ تفكك الحكومة العراقية وحلّها في هذا الظرف بالذات سيقود البلاد إلى حالة فراغ قد تطول نظرا إلى ما ظهر خلال العديد من المحطات السياسية والمناسبات الانتخابية من صعوبات في إعادة تشكيل الحكومات واختيار من يقودها بسبب صراعات القوى الطامحة لحكم البلد والطامعة في ما ينطوي عليه ذلك من مكاسب سياسية ومادية كبيرة.
ويرجو السوداني المتجه نحو تجاوز تداعيات قضيتي التجسس وسرقة القرن والتخلّص من ضغوط قيادات الإطار التنسيقي على حكومته، أيضا أن يعبر بالبلاد إعصار الأحداث المتفجرة في الشرق الأوسط.
وترجم بيان صدر عن مكتبه مخاوفه من وصول الحرب إلى العراق في حال بادرت الفصائل المسّلحة التي تعلن انتماءها لما يعرف بمحور المقاومة بقيادة إيران إلى الانخراط بشكل أكبر في الحرب بين الصراع المسلح المتصاعد في المنطقة.
وقال السوداني في بيانه “في ظلّ التداعيات الخطيرة التي تشهدها المنطقة، نوجّه رسالتنا إلى كلّ الأصدقاء، وبالخصوص الرئيس الامريكي جو بايدن، ودول الاتحاد الأوروبي، بأننا نقف على أعتاب منزلق خطير قد يجرّ المنطقة والعالم إلى حروب مستمرة، ويهزّ الاقتصاد العالمي”.
وأكّد أن المنطقة “تمثل الرئة التي يتنفس منها العالم بالطاقة”، مطالبا بـ”مضاعفة الجهود” من أجل “إنقاذ المنطقة من شرور حرب لا تُبقي ولا تذر”.
وتكمن إحدى مشاكل الحكومة العراقية في وجود قوى عصية عن الضبط تنازعها سلطة القرار، بما في ذلك قرار السلم والحرب. ويتعلّق الأمر بالميليشيات المسلّحة المرتبطة بإيران وغالبا ما تخضع لأوامرها.
وسيكون العراق إزاء ورطة كبيرة في حال اقتضت المصلحة الإيرانية إشراك الفصائل العراقية بشكل مباشر في الحرب الدائرة بين إسرائيل من جهة وحزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية من جهة مقابلة.
ولم يعد ذلك أمرا مستبعدا بعد التهديدات التي أطلقتها تلك الفصائل باستهداف منابع النفط والمصالح والقواعد الامريكية في المنطقة.
ويدرك السوداني أن إسرائيل تعمل على تفكيك المجموعات المسلحة المعادية، ليس فقط في غزة والضفة الغربية ولبنان، ولكن أيضا في اليمن والعراق.
وبادر منذ التصعيد الإسرائيلي في لبنان إلى محاولة امتصاص حماس الفصائل المسلّحة للانخراط في الحرب، وأظهر قدرا كبيرا من التعاطف مع اللبنانيين وأمر بتسهيل دخول اللاجئين منهم إلى العراق واستيعاب أبنائهم في مؤسساته التعليمية.
لكن ذلك لن يعني الكثير للميليشيات الولائية في حال تلقت تعليمات من طهران بالتصعيد ضد إسرائيل والولايات المتّحدة بغض النظر عن أيّ تبعات لذلك على العراق وسكّانه، بل حتى على الميليشيات نفسها.
*تقرير لصحيفة"العرب"اللندنية