*د . عبد الحميد الموافي
مما لا شك فيه ان اعمال الاغتيال السياسي او التصفية الجسدية للخصوم هي من أقدم أساليب الصراع السياسي المعروفة بين الدول والجماعات المتصارعة، وهو ما لمسناه ونلمسه في حالات كثيرة لا نزال نعيش تداعياتها اليوم وغدا وربما في الاسابيع او الاشهر القادمة، وذلك بالنظر الى ما يترتب على عمليات الاغتيال من فقد لقادة أو زعماء يتركون مواقعهم فجأة بكل ما يترتب على ذلك من فقد وخسارة على الجانب الذي يتعرض لمثل هذه الأعمال التي تتطلب الرد عليها والانتقام لضحاياها بكل ما يتطلبه ذلك من اعداد ورصد وتجهيز المعلومات الضرورية والموثوقة التي يمكن الاعتماد عليها والتي تضمن نجاح المهمة التي تتكلف عادة الكثير من الوقت والنفقات والكتمان والجهد المقرون بالسرية البالغة كما هو معروف في علوم الجاسوسية والتي تكشف عن نفسها عادة في النتائج التي تتمخض عنها وتتركها على هذا الجانب او ذاك.
وفي هذا الاطار فإنه من المعروف ان الصراع بين اسرائيل وحزب الله اللبناني، ولا سيما في السنوات الاخيرة كان يبدو متقارب القوة بين الجانبين مع الوضع في الاعتبار الفوارق العملية والملموسة بين اسرائيل كدولة تركز الى حد بعيد اهدافها على التقدم التكنولوجي وتوظيفه لتحقيق اهدافها وبين حزب الله الذي يعد في النهاية تنظيما حزبيا لا يقارن بدولة كاسرائيل والذي يعتمد بالاساس على جهود بدأت بمحاكاة الميليشيات في البداية واستفادت من العلاقة مع ايران وقوى اخرى لتطوير قواها وقدراتها القتالية والفنية في مجال تصنيع وتطوير اسلحتها التي بدأت في التوسع في امتلاكها لاسباب عديدة ومعروفة لحماية نفسها وطائفتها وبناء قوة ردع تتجاوز قوة الدولة اللبنانية.
كما اكد حزب الله ذاته في مناسبات عديدة وهو ما شجعته ايران لأسباب تخدم مصالحها المباشرة وغير المباشرة حتى لو كلفها ذلك الصدام مع سوريا في بعض الاحيان وكذلك حماية لطرق الامداد السورية كنوع من الحماية لوجود حزب الله في جنوب لبنان من ناحية، وحماية لطرق الامداد السورية للحزب بالسلاح السوري، خاصة بعد استقرار وتطور العلاقة واتساع سبل التعاون السوري الايراني بعد احداث عام 2011 في سوريا واعتماد دمشق بدرجة متزايدة وملموسة على الدعم الايراني العسكري والاقتصادي والذي تم ترجمته في شكل اتفاقيات تعاون بين البلدين بأشكال مختلفة لتحقيق مصالحهما المشتركة، والتي تقاطعت معها العلاقات المتوترة مع سوريا وايران لأسباب مختلفة حتى الآن على الأقل.
وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة تطورت واتسعت العلاقات السورية الايرانية التى امتدت لتشمل العلاقات الوثيقة مع ايران جانبا من التعاون بشكل ما مع العراق من خلال الجماعات ذات العلاقة الوثيقة مع الدولة الايرانية ايدبولوجيا وعقائديا وبالطبع اقتصاديا وعسكريا بما في ذلك تصنيع السلاح وخاصة الصواريخ .. ولعله من الاهمية بمكان الاشارة الى ان سوريا قد استفادت ولا تزال من العلاقات الوثيقة مع لبنان خاصة في ظل انتقال اعداد كبيرة من السوربين الى لبنان وتردد ان ايران تسعى بشكل ما الى الربط البري مع ساحل البحر الابيض المتوسط وتطوير شبكة الطرق من اجل امدادات السلاح عبر العراق ، أي عبر النقل بالطرق البرية وذلك بشكل أسهل بعد ذلك، خاصة وان الاتساع الذي وصلت اليه العلاقات السورية الايرانية يسجل اتساعا مضطردا وبما يخدم المصالح الايرانية.
وليس مصادفة أن تبحث ايران والعراق وسوريا مشروعا مشتركا لنقل النفط العراقي من شط العرب الى شاطئ سوريا على البحر المتوسط وهو ما سيخدم الدول الثلاث وربما دول خليجية اخرى قد تنضم اليه في حين يؤثر بالسلب اذا نجح على قناة السويس التي تأثرت بالأحداث الجارية في البحر الأحمر في الاشهر الاخيرة من ناحية ثانية.
جدير بالذكر ان المنطقة العربية بوجه عام تشهد تطورات وتوترات غير مسبوقة خاصة منذ اندلاع المواجهات المسلحة بين حركة حماس الفلسطينية واسرائيل يوم السابع من اكتوبر العام الماضي والتي لا يبدو انها ستتوقف قريبا بسبب تمسك كل طرف بموقفه المتمسك باستمرار القتال حيث يرى فيه مصلحة ما بالنسة له ولم تجد الوساطات العديدة في تقريب المواقف او التوصل الى صيغة مقبولة من كليهما حتى الآن.
كما أن اغتيال اسرائيل للأمين العام لحزب الله اللبناني في 27 سبتمبر الماضي في الضاحية الجنوبية لبيروت المقر الرئيسي لنصر الله يشكل نقطة تحول رئيسية ليس فقط لحزب الله ولكن ايضا بالنسبة للمنطقة وما يمكن ان تشهده من تطورات سوف تؤثر عليها لفترة طويلة قادمة وفي هذا الاطار يمكن الاشارة الى عدد من الجوانب لعل من اهمها أولا، انه من الواضح ان طهران التي تنظر الى نفسها على انها القوة القائدة لقوى المقاومة في المنطقة، سواء بحكم علاقاتها الوثيقة مع القوى والاطراف المحسوبة على قوى المقاومة في المنطقة، وقيامها برعايتها ماليا وتسليحيا وبشكل عملي ومتصل واعترافها ايضا بذلك، فضلا عن حديث طهران عن شغل فراغ القوة في المنطقة واستعدادها لذلك من خلال دعم قواها وقدراتها الذاتية واستعدادها لتجميع قوى المقاومة معها وخلفها يشير الى نحو واضح الى انها ترى في نفسها القوة القادرة والراغبة في الاضطلاع بهذا الدور وانه لا ينافسها فيه لا اسرائيل ولا تركيا ومن شأن هذا التفكير أن يفتح المجال أمام تنافس هاتين القوتين وغيرهما من اجل القيام بدور اقليمي بارز ومؤثر في احداث وتطورات المنطقة وتفاعلات دولها مع بعضها البعض من جهة ومع القوى الاخرى المؤثرة بشكل او بآخر من جهة ثانية.
وحتى الآن على الاقل فان المنافسة ظهرت بوضوح مع اسرائيل التي تسعى الى حجز دور مؤثر ومعترف به من دول المنطقة برغم ان ذلك لن يكون سهلا او بدون عوائق وتحديات خاصة وان هناك قدرا من التقارب في القوة بين الدول المعنية بذلك. ويبدو ان اسرائيل قد استشعرت بعض القوة سواء من خلال نجاحها في تفجيرات اجهزة البيجر، وما سببته من هزة عنيفة لحزب الله، وكذلك بعد نجاح سلسلة اغتيالات لقيادات حزب الله ووصولها الى اغتيال الامين العام للحزب حسن نصر الله يوم الجمعة 27 سبتمبر وبالتالي خسارة شخصية قيادية قوية ومؤثرة في الحزب من الصعب تعويضها بسهولة ومن الطبيعي ان تهتز قيادة الحزب بعد اغتيال نصر الله خاصة وانه تم اغتيال نحو ثلاثين شخصية مخضرمة من قيادات الحزب ومن انساقه القيادية خلال ايام قليلة وعبر مخطط مرسوم جيدا للأسف الشديد .
ثانيا، انه من المرجح ان اقدام اسرائيل على اعتماد الاغتيال السياسي والتصفية السريعة للقيادات كأسلوب للتخلص من معظم قيادات حزب الله في الاسابيع الاخيرة سيؤثر على الصراع بين القوى المتنافسة في المنطقة وبالطبع على حسابات القوة بالنسبة لكل منها، وهو ما يمكن ان يؤجل ولو نسبيا قرارات كل منها بتعجيل المواجهة او رغبة في اعادة الحسابات للتيقن من النتائج والاحتمالات في الظروف المختلفة، خاصة وان هناك قيادات في حزب الله لديها قناعات بوجود اختراق للنظام الامني لحزب الله وربما الوصول في ذلك الى مستويات سمحت بوقوع عدة اغتيالات متتابعة خلال ايام قليلة بغض النظر عن نتائج التحقيقات في تلك العمليات التي طالت الامين العام للحزب حسن نصر الله.
من جانب آخر فانه من المرجح ان نتائج التحقيقات في عمليات الاغتيالات لن تعلن كلها ولا حتى معظمها تحسبا وتجنبا لما يمكن ان يترتب على ذلك من نتائج واثارة مزيد من الشكوك والانقسامات والخلافات بين قوى المجتمع اللبناني. ولم تكن مصادفة ان يتحدث البطريرك الماروني عن ان اغتيال نصر الله قد فتح جراحا قديمة وهي اشارة نتمنى الا يقع المجتمع اللبناني في حبائلها لان اسرائيل ستعمل بكل حهدها من اجل اثارة الصراع مرة اخرى بين قوى المجتمع اللبناني بكل السبل الممكنة، خاصة وان الساحة مهيأة تماما بين اللبنانيين لإشعال حريق لبنان مرة اخرى، فالحرب الاهلية استمرت خمسة عشر عاما من عام 1974 حتى 1989 وتقع على عاتق عاتق كل اللبنانيين العمل للحفاظ عليه متماسكا. كما ان النجاح في تجاوز هذا التحدي من شأنه أن يجنب لبنان مخاطر جمة هو في غنى عنها اليوم وغدا ولأن لبنان يعاني من هشاشة سياسية واجتماعية وبالطبع اقتصادية فان مسؤولية كبيرة تقع على عاتق كل ابنائه فهل يستطيع مواجهة هذا التحدي ؟!!
*صحيفة"عمان"-سلطنة عمان