×

  رؤى حول العراق

  تركيا تريد إعادة ربط العراق وسوريا معاً



*د.سونر جاغابتاي

 

*معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى

لم تكن الأحداث التي شهدها الهلال الخصيب منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 في صالح المصالح الأمنية التركية. إذ أسفرت الصراعات الأهلية في العراق التي أعقبت الغزو، وصعود تنظيمي "القاعدة" و "الدولة الإسلامية" ("داعش")، والحرب الأهلية السورية، كلها مجتمعة، عن حالة من عدم الاستقرار الإقليمي استمرت لأكثر من عقدين من الزمن، شملت العديد من الهجمات الإرهابية ضد تركيا.

وفي الوقت نفسه، استغل "حزب العمال الكردستاني" - الذي صنفه "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو") كياناً إرهابياً والذي يحارب أنقرة منذ عقود - اللامركزية في العراق لترسيخ وجوده على طول الحدود (بين تركيا والعراق) في "منطقة كردستان" شبه المستقلة.

وعلى الحدود الجنوبية الأخرى لتركيا، أدت الحملة المتعددة الجنسيات ضد "داعش" إلى قيام شراكة بين الولايات المتحدة و"وحدات حماية الشعب" - الجناح السوري المسلح لـ "حزب العمال الكردستاني" الذي تولى لاحقاً دوراً قيادياً في "قوات سوريا الديمقراطية" واكتسب السيطرة على مناطق واسعة من الحدود. وقد أصبحت هذه الشراكة أكبر عائق أمام إعادة ضبط العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا.

واليوم، ومع توقع انخفاض الوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا بشكل كبير، تهدف أنقرة إلى تعزيز إعادة المركزية الناعمة في كلا الجارين، سعياً لتحقيق أهداف أوسع نطاقاً تتضمن كبح عدم الاستقرار على حدودها وحرمان "حزب العمال الكردستاني" من أي مساحة للقيام بعملياته.

ويتناول الجزء الأول من هذا التقرير كيف تؤثر هذه الأهداف على السياسة التركية في سوريا. وسيتناول الجزء الثاني التداعيات على العراق.

 

مصافحة مع نظام الأسد؟

تتمثل الفكرة الأساسية لاستراتيجية تركيا في سوريا بالقضاء على "وحدات حماية الشعب" (التي تعتبرها تركيا تهديداً أمنياً مستقبلياً نظراً لعلاقتها مع "حزب العمال الكردستاني")، مع إنهاء الحرب في نهاية المطاف. ويشير ذلك إلى استراتيجية ملتوية قد تشمل مفاوضات متزامنة مع دمشق وواشنطن. وتسيطر الولايات المتحدة و"وحدات حماية الشعب"/"قوات سوريا الديمقراطية" حالياً على أجزاء من شمال شرق سوريا، وستكون تركيا حريصة على تنسيق مستقبل هذه المناطق مع واشنطن.

 ومع ذلك، تعتقد أنقرة في نهاية المطاف أن إعادة مركزية سوريا تخدم مصالحها على أفضل وجه في الأمد البعيد، لذا سيكون نظام الأسد هو المحاور الرئيسي لها في حل القضايا الأساسية، بدءاً من إعادة توطين بعض اللاجئين السوريين البالغ عددهم حوالي 3 ملايين شخص في تركيا وصولاً إلى معالجة مصير "وحدات حماية الشعب" والوجود العسكري التركي في شمال سوريا.

 

المطالب الصعبة:

 إن الطلب الأساسي لتركيا من نظام الأسد هو قمع "وحدات حماية الشعب" وإعادة المناطق التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" إلى سيطرة النظام. وفي هذا السياق، تريد أنقرة من الأسد أن يسعى إلى تحقيق "إعادة المركزية الناعمة" - أي إعادة قوات النظام وحكمه إلى شمال البلاد مع منح عناصر غير عنيفة من المعارضة السورية إمكانية الوصول إلى السلطة المحلية (بما في ذلك الجماعات الكردية، طالما أنها ليست "وحدات حماية الشعب").

 وأخيراً وليس آخراً، تريد أنقرة من الأسد إعادة بعض اللاجئين السوريين على الأقل الذين يقيمون في تركيا منذ أكثر من عقد من الزمن. وفي المقابل، يريد الأسد من القوات التركية مغادرة سوريا.

إن التحدي الذي يواجه هذا التسلسل هو أن العديد من السوريين البالغ عددهم نحو 6 ملايين شخص والذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها تركيا في شمال سوريا لا يريدون عودة نظام الأسد في الوقت القريب، إن كان ذلك سيحدث على الإطلاق.

 وبالمثل، لا يرغب العديد من اللاجئين في تركيا العودة إلى بلادهم، مما دفع أنقرة إلى اللجوء إلى ثغرات قانونية مختلفة لإخراجهم (على سبيل المثال، تم ترحيل البعض إلى المناطق التي تسيطر عليها تركيا في سوريا بسبب مخالفات بسيطة مثل تلك المتعلقة بالمرور). ومنذ آذار/مارس 2023، أدت هذه التكتيكات إلى تقليص عدد السوريين في تركيا من 3.7 مليون شخص إلى ما يزيد قليلاً على 3 ملايين.

 

"منطقة رمادية" في الشمال الغربي.

إن أحد المخاوف الرئيسية التي تراود أنقرة هو أن يؤدي الانسحاب السريع من شمال سوريا إلى انهيار أمني مماثل لانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. وهذا السيناريو، بالإضافة إلى خلق المزيد من تدفقات اللاجئين إلى تركيا، قد يتيح لـ"هيئة تحرير الشام" - الجماعة العنيفة المرتبطة بتنظيم "القاعدة" والتي تسيطر على أراضٍ في شمال غرب سوريا - الاستفادة من السخط الشعبي وشن هجمات إرهابية، سواء داخل تركيا أو ضد القوات التركية خلال انسحابها من سوريا.

 

ولتجنب هذا السيناريو، قد تطلب أنقرة من الأسد إقامة "منطقة رمادية" انتقالية في شمال سوريا، حيث توفر القوات العسكرية التركية والمليشيات الحليفة لها القانون والنظام.

 وفي هذه المنطقة المقترحة، ستحظى جماعات المعارضة غير العنيفة ببعض الوصول إلى السلطة المحلية، في حين ستقدم دمشق خدمات عامة رئيسية مثل التعليم، والمرافق، وتسليم البريد، وما إلى ذلك. إن الهدف النهائي هو إنهاء الحرب الأهلية وإعادة السيطرة الكاملة للنظام في شمال البلاد بمرور الوقت، مع تقديم ضمانات لجماعات المعارضة السلمية.

وبطبيعة الحال، سوف تهدف "هيئة تحرير الشام" إلى إفساد هذه الاستراتيجية من خلال التمرد على أي اتفاق تبرمه أنقرة مع الأسد.

ومع ذلك، فمن المفارقات أن محاربة "هيئة تحرير الشام" قد تصبح أول اختبار للتعاون السوري-التركي منذ بداية الحرب، مما قد يقرّب الجارتين بصورة أكثر.

 وبالنظر إلى روابط الجماعة بتنظيم "القاعدة"، فقد تتدخل قوى خارجية لمساعدة تركيا في إخماد تمرد "هيئة تحرير الشام" - بما في ذلك الولايات المتحدة وحتى الحلفاء الأوروبيين الذين يظلون قلقين من خطر تدفقات جديدة للاجئين من سوريا (انظر أدناه حول مخاوف الولايات المتحدة بشأن المبادرات التي تعود بالنفع على الأسد).

 

تسوية فسيفسائية في الشمال الشرقي.

 حتى في الوقت الذي تجري فيه تركيا محادثات مع الأسد، فستواصل أيضاً الانخراط مع الولايات المتحدة حول مستقبل شمال شرق سوريا، وسط احتمال تقليص واشنطن لوجودها العسكري هناك أو الانسحاب تماماً. وتتصور أنقرة فترة انتقالية يتم فيها تقسيم شمال شرق سوريا بشكل غير رسمي إلى مناطق نفوذ يديرها نظام الأسد وتركيا، بينما تقدم الولايات المتحدة مساعدة فنية غير مباشرة (انظر أدناه).

وحالياً، يلعب الوجود العسكري الأمريكي الصغير في شمال شرق سوريا دوراً حيوياً من خلال الشراكة مع "قوات سوريا الديمقراطية" لمنع عودة تنظيم "الدولة الإسلامية".

وكجزء من هذا الجهد، تحتفظ قوات "وحدات حماية الشعب" وعناصر أخرى من "قوات سوريا الديمقراطية" بسجون ومعسكرات احتجاز تضم حوالي 70,000 من مقاتلي "داعش" وأفراد أسرهم، وكثير منهم من الأجانب الذين ينتظرون إعادتهم المتأخرة إلى بلدانهم. كما تشعر واشنطن بالقلق إزاء طموحات إيران المتنامية في المنطقة.

 

وللتوفيق بين كل هذه التحديات، من المرجح أن تشارك تركيا في محادثات متزامنة حول مناطق النفوذ المتعايشة:

**بالنسبة لبعض مناطق شمال شرق سوريا - وخاصة "وادي نهر الفرات الأوسط" - ستتعاون أنقرة مع الولايات المتحدة لتسوية التفاصيل الخاصة بالنظام الذي سيخلف الوجود الأمريكي، مع سعي القوات التركية إلى منع عودة تنظيم "داعش" بمساعدة القبائل العربية الصديقة لتركيا والمخابرات الأمريكية (وربما القوات الخاصة الأمريكية).

**بالنسبة لبقية شمال شرق سوريا، ستجري أنقرة محادثات مع دمشق حول ترتيب عودة النظام وإنهاء سيطرة "وحدات حماية الشعب"، كجزء من تسوية أوسع نطاقاً لإنهاء الحرب.

وستكون النتيجة على المدى القريب نوعاً من "الفسيفساء" السياسية، حيث تتناسب المكونات السياسية المختلفة معاً في جميع أنحاء شمال شرق سوريا. أما الهدف على المدى الطويل، فهو عودة النظام السوري بأكمله إلى المنطقة بأسرها.

 

اللعب المزدوج لروسيا.

من خلال الضغط على الولايات المتحدة للتخلي عن "وحدات حماية الشعب"، يمكن أن تثير تركيا ردود فعل سلبية في واشنطن، خاصة إذا لم تكن الإدارة الأمريكية المقبلة مستعدة لمغادرة سوريا على عجل. ولتخفيف هذه التوترات، قد تَعْرض أنقرة إقامة وجود عسكري تركي في أجزاء رئيسية من شمال شرق سوريا.

إن أحد العوائق أمام هذا الاقتراح هو إيران، التي تظل داعماً خارجياً رئيسياً للأسد وتسعى بشدة لتوسيع نفوذها في شمال شرق سوريا. وفي الواقع، قد يعطّل الوجود العسكري التركي بشكل كبير "الجسر البري" الإيراني الذي يربط سوريا بالعراق ولبنان. ومع ذلك، قد يكون للراعي الرئيسي الآخر للأسد - روسيا - رأي أكبر في هذه القضايا.

وفي أحد السيناريوهات، قد تقرر الإدارة الأمريكية المقبلة الضغط من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار مع روسيا في أوكرانيا، مما قد يؤدي إلى تمكين واشنطن وموسكو وأنقرة من إيجاد تسوية مؤقتة في سوريا. ولكن إذا استمرت الحرب في أوكرانيا، وفشلت تركيا في التوصل إلى تفاهم منفصل مع الولايات المتحدة بشأن "وحدات حماية الشعب"، فسوف تتجه أنقرة إلى نظام الأسد. ففي نهاية المطاف، تستنير سياسة تركيا تجاه شمال شرق سوريا بسياستها الأوسع نطاقاً تجاه سوريا، وليس العكس.

وفي هذا السيناريو الأخير، من المرجح أن يحث فلاديمير بوتين دمشق على التوصل إلى تسوية مؤقتة مع أنقرة. ومن المفترض أن يتطلب ذلك عودة قوات الأسد إلى شمال شرق سوريا والتزامها بالقضاء على "وحدات حماية الشعب" بمساعدة تركيا وروسيا والقبائل العربية الصديقة لتركيا.

 وإذا قاومت "وحدات حماية الشعب" هذا التحرك واندلعت اشتباكات مسلحة، فستواجه القوات الأمريكية خياراً غير مرغوب فيه بين إطلاق النار على القوات التابعة لحليفة "الناتو"، تركيا، أو الانسحاب من شمال شرق سوريا رغماً عنها.

وبالإضافة إلى إلحاق الضرر المحتمل بعلاقات تركيا مع الولايات المتحدة، فإن هذا النهج لـ "الأمر الواقع" يحمل في طياته خطراً كبيراً يتمثل في تسهيل عودة ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" - ويرجع ذلك جزئياً إلى فقدان المساعدة الأمريكية الحيوية، ولكن أيضاً لأن التنظيم الجهادي سيستغل المعارضة المحلية لعودة نظام الأسد. وبناءً على ذلك، ستفضل أنقرة العمل مع واشنطن على صياغة نموذج حكم انتقالي لشمال شرق سوريا.

 

التداعيات على السياسة الأمريكية

كما توضح التعقيدات المذكورة أعلاه، لا توجد خيارات سياسية سهلة للولايات المتحدة في سوريا. ومن المفهوم أن تتردد واشنطن والعديد من الحكومات الأجنبية الأخرى في الموافقة على أي اتفاقيات تعيد تأهيل نظام الأسد أو تمكّنه من إعادة فرض سيطرته الكاملة، خاصة في ظل استمراره في ممارسة العنف ضد الشعب السوري ومساهماته العديدة في عدم الاستقرار الإقليمي.

أما فيما يتعلق بـ "وحدات حماية الشعب"، فإن بعض المسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية سيدفعون باتجاه الحفاظ على هذه الشراكة حتى لو كان ذلك على حساب إعادة ضبط العلاقات مع تركيا، مستشهدين بالعلاقة التي طوّرتها القوات الأمريكية مع هذه الجماعة على مر السنين، والفائدة التي تقدمها كمكون أساسي في عمليات "قوات سوريا الديمقراطية" ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، وضرورة إدارة السجون ومخيمات الاعتقال في شمال شرق سوريا بشكل فعال.

ومع ذلك، فمن شأن هذه الاستراتيجية أن تُعرّض الولايات المتحدة لخطر الاستبعاد من أي اتفاق محتمل بين أنقرة ودمشق في شمال شرق سوريا.

 وقد تؤدي أيضاً إلى تنفير تركيا، التي تمتلك ثاني أكبر جيش في "حلف شمال الأطلسي" وتُعد شريكاً رئيسياً للولايات المتحدة في العديد من الجبهات الأخرى - ضد إيران في الشرق الأوسط، وفي منافسة القوى العظمى مع روسيا والصين في أفريقيا وغيرها من المناطق.

وكما أشير أعلاه، فسوف تستغل موسكو وبسرعة أي جمود بين الولايات المتحدة وتركيا حول هذه القضايا، وربما إلى حد دعم حملة عسكرية مشتركة بين سوريا وتركيا في شمال شرق سوريا. وهذا من شأنه أن يحقق أيضاً هدف بوتين الأوسع نطاقاً المتمثل في تفكيك حلف "الناتو" من خلال جذب تركيا إلى دائرته.

إن الاختيار السياسي الأكثر حكمة بالنسبة لواشنطن هو الحفاظ على "الهيمنة" على شمال شرق سوريا من خلال وضع حد للتكهنات بشأن انسحاب أمريكي وشيك، ومساعدة تركيا في التخطيط لـ "اليوم التالي" لمغادرة الولايات المتحدة في نهاية المطاف. ويشمل ذلك وضع خطط لإدارة سجون ومعسكرات "داعش" ومنع التنظيم من العودة مجدداً.

كما نوقش في الجزء الأول من هذا التقرير، تتسم استراتيجية تركيا في سوريا بتعقيدها إلى حد ما، وقد تشمل مفاوضات متزامنة مع نظام الأسد والولايات المتحدة، مع المخاطرة بإلحاق الضرر بالعلاقات مع واشنطن في حال فشل التنسيق بين الحكومتين.

 وعلى النقيض من ذلك، فإن استراتيجية أنقرة تجاه العراق - والتي تتلخص في الترويج للأموال التركية على الأسلحة الإيرانية - أكثر وضوحاً ومن المرجح أن تحظى بدعم الولايات المتحدة.

وفي هذا السياق، طرحت أنقرة مشروع "طريق التنمية"، وهو شبكة تجارية مقترحة تمر عبر العراق وتركيا، وتربط الأسواق الآسيوية والأوروبية عبر المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط.

وفي البداية، كان المشروع منافساً "للممر الاقتصادي الهند - الشرق الأوسط - أوروبا" الذي اقترحته الولايات المتحدة، والذي يمتد من الهند عبر شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام إلى أوروبا.

 لكن حرب غزة والهجمات البحرية المستمرة التي يشنها الحوثيون أثارت مخاوف أمنية بشأن الشحن التجاري عبر البحر الأحمر، مما عزز فجأة آفاق مشروع "طريق التنمية" على حساب "الممر الاقتصادي الهند - الشرق الأوسط - أوروبا".

ومع دعم مالي لمشروع "طريق التنمية" من دول الخليج، يتوقع صناع السياسات الأتراك أن المسارات الأولية لـ "طريق التنمية" قد تبدأ بالعمل في وقت مبكر من عام 2027. على واشنطن أن تفكر في دعم هذه المبادرة أيضاً، خاصة إذا كانت بحاجة إلى موازنة النفوذ الإيراني في بغداد بعد الانسحاب الأمريكي الجزئي أو الكامل من العراق.

 

إعادة إعطاء الأولوية لبغداد...

يخدم "طريق التنمية" عدة أهداف استراتيجية طويلة الأمد لتركيا في العراق. فمع زيادة نفوذ إيران في بغداد بعد الإطاحة بصدام حسين، تراجع نفوذ تركيا شمالاً إلى "إقليم كردستان العراق"، وتحديداً إلى المناطق التي يسيطر عليها "الحزب الديمقراطي الكردستاني".

ولكن في الآونة الأخيرة، قررت أنقرة تحسين العلاقات مع بغداد كجزء من استراتيجيتها الأوسع نطاقاً لتعزيز إعادة المركزية في العراق. ومن بين الخطوات الأخرى التي اتخذتها تركيا هذا العام، إرسال رئيس استخباراتها ووزيري الدفاع والخارجية إلى بغداد، مما أسفر عن توقيع عدة اتفاقيات ثنائية.

ووافقت بغداد على إعطاء الضوء الأخضر لمشروع "طريق التنمية" وتصنيف عدو أنقرة - "حزب العمال الكردستاني" - كـ"منظمة محظورة". (ومن الجدير بالذكر أن عدة دول أخرى قد صنفت بالفعل "حزب العمال الكردستاني" كمنظمة إرهابية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي). وفي المقابل، وعدت تركيا بتخصيص الموارد المائية المشتركة بشكل "عادل ومتساوٍ"، وخاصة نهري دجلة والفرات، اللذين ينبعان من تركيا ويتدفقان إلى العراق.

 

...دون التخلي عن "الحزب الديمقراطي الكردستاني"

حتى إذا نجحت تركيا في إعادة ضبط العلاقات مع بغداد، فإن ذلك لا يعني أنها ستتخلى عن شركائها الكرد، الذين تعتبرهم شركاء اقتصاديين مهمين ولاعبين رئيسيين في مواجهة "حزب العمال الكردستاني". وكما في سوريا، تركز سياسة إعادة المركزية التركية على "النعومة"، إذ تدعو إلى إعادة الحكومة المركزية فرض سلطتها في جميع أنحاء البلاد مع الحفاظ على الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق.

ومن المرجح أيضاً أن يستخدم المسؤولون الأتراك علاقاتهم الاقتصادية مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني" كوسيلة ضغط لتحفيز "الاتحاد الوطني الكردستاني" - القوة السياسية الرائدة الأخرى في "إقليم كردستان" - على مكافحة "حزب العمال الكردستاني". (يساهم "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بالفعل في هذا الجهد).

 وتحقيقاً لهذه الغاية، اتخذت تركيا مؤخراً إجراءات اقتصادية ضد "الاتحاد الوطني الكردستاني"، مثل تعليق رحلات "الخطوط الجوية التركية" إلى معقل الحزب في السليمانية.

وتعتقد أنقرة أن عقود البناء المربحة للبنية الأساسية الخاصة بكل من الميناء والطريق السريع والسكك الحديدية لمشروع "طريق التنمية" سوف تجذب في النهاية النخب في كل من بغداد و"حكومة إقليم كردستان" إلى فلكها، بينما تسعى أيضاً للحصول على دعم الولايات المتحدة لتعزيز النفوذ التركي كقوة لموازنة النفوذ الإيراني. وإذا تحققت جميع هذه الأهداف، فمن المرجح أن تطلب أنقرة من بغداد قبول وجود عسكري تركي في شمال العراق لمنع تسلل "حزب العمال الكردستاني" عبر الحدود.

 وفي الوقت نفسه، سوف تطلب من "الاتحاد الوطني الكردستاني" حرمان "حزب العمال الكردستاني" من ملاذ آمن على أراضيه، التي تجاور المناطق العسكرية التركية المقترحة (مع ملاحظة العقبات الإيرانية المحتملة أمام هذه الخطة كما هو موضح أدناه). وفي المقابل، سوف تعمل تركيا على دمج العراق في اقتصادها العالمي وربطه بالأسواق الأوروبية عبر طريق التجارة الجديد.

 

التداعيات على السياسة الأمريكية

تتوافق المصالح الأمريكية والتركية بشكل أكثر ارتياحاً وسهولة في العراق مقارنة بسوريا، لذلك من المفترض أن يجد الشريكان صعوبة أقل في التعاون هناك. ويُعد مشروع "طريق التنمية" جزءاً أساسياً من هذا الجهد.

فبالإضافة إلى العائدات المربحة على المدى القصير من عقود البناء، والوعد بالاندماج الاقتصادي مع الأسواق الأوروبية والعالمية على المدى الطويل، سيوفر طريق التجارة المقترح محوراً من شمال العراق إلى جنوبه، أي من الحدود العراقية التركية إلى الخليج العربي - بمعنى آخر، سيقطع "الجسر البري" من الشرق إلى الغرب والذي ساعد إيران في تزويد نظام الأسد و"حزب الله" و"حماس" بالأسلحة لسنوات.

وفي ضوء المشهد الاستراتيجي الإقليمي الحالي، يجب على واشنطن أن تفكر في دعم هذا المشروع وخطط أنقرة الأوسع نطاقاً في العراق، حيث أن كليهما يخدم الهدف الرئيسي المتمثل في موازنة النفوذ الإيراني.

بالطبع، سوف تتأثر كل هذه الجهود بما يحدث في سوريا المجاورة، وهي الساحة الرئيسية الأخرى للتنافس الإيراني-التركي.

وإذا توصلت واشنطن وأنقرة إلى اتفاق بشأن مستقبل شمال شرق سوريا كما هو موضح في الجزء الأول، فمن المؤكد أن طهران ستتخذ خطوات لتقويض الاستراتيجية التركية الشاملة في الهلال الخصيب.

 فبالإضافة إلى الضغط على نظام الأسد لرفض أي اتفاق واسع النطاق مع أنقرة، يمكن لطهران الاستفادة من علاقاتها الطويلة الأمد مع "الاتحاد الوطني الكردستاني" لعرقلة الخطط التركية ضد "حزب العمال الكردستاني" في العراق.

كما يمكن لإيران أن تستخدم حلفائها في بغداد لتخريب مشروع "طريق التنمية" سياسياً، إما بإبطاء عملية البناء أو تأخير تنفيذ المشروع. وبالمثل، قد يتم تكليف الميليشيات الشيعية المدعومة من طهران بزيادة ضغوطها السياسية وهجماتها الحركية على الجهات الفاعلة التي تدعمها تركيا، بما في ذلك "الحزب الديمقراطي الكردستاني" والفصائل السياسية المختلفة التي تدعم "طريق التنمية".

ومن خلال مساعدة تركيا في مواجهة مثل هذه التحركات، بإمكان الحكومة الأمريكية تحقيق عدة أهداف أوسع نطاقاً - بدءاً من تعزيز المنافسة بين القوى العظمى في الهلال الخصيب (حيث تُعد أنقرة حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة ضد طهران وشريكاً متزايد الأهمية مع روسيا) إلى فتح نافذة للتعاون الثنائي والتي ولّدتها التطورات الأمريكية - التركية الأخيرة (على سبيل المثال، إرسال طائرات "إف-16" لأنقرة بعد موافقتها على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي).

 * زميل أقدم في برنامج الزمالة "بايير فاميلي" ومدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن.


12/10/2024