حسابات بارزاني الخاطئة والحالمة واتهاماته للاخرين
*محمد خروب
حسمت العملية «النظيفة» والمفاجِئة التي لم تستغرق سوى تسع ساعات ببسط سيطرة الحكومة المركزية على مدينة كركوك، حقول نفط ومطار ومؤسسات عامة، الجدل الذي اندلع بعد استفتاء الخامس والعشرين من أيلول الماضي، الذي أصرّ رئيس اقليم كردستان المنتهية ولايته مسعود بارزاني على إجرائه ضارباً عرض الحائط بكل «النصائح» المُخلصة التي قدمها له كثيرون، وبخاصة في الداخل الكردي وتحديدا الحزب المنافس له وحليفه في السلطة منذ عقدين «الاتحاد الوطني» الذي آلت قيادته المؤقتة الى أرملة الرئيس السابق جلال طالباني السيدة هيرو احمد، بعد رحيل زوجها، وعبر المكتب السياسي الذي يقود هيئته العاملة الملاّ بختيار احد اقرب القادة من السيدة هيرو.
وبصرف النظر عن الإتهامات التي سارع بارزاني وقادة حزبه الى توجيهها لـِ»قادة» في الاتحاد الوطني، بـ»تسليم» كركوك للحشد الشعبي والجيش العراقي، ووضعِهم في خانة «الخونة» والتهديد بمحاكمتهم في محاكم كردستان، مما عكس حجم المرارة التي لحقت بمعسكر بارزاني بعد الهزيمة المدوية التي لحقت به عسكريا وسياسيا وخصوصا معنويا، فإن ارتفاع حدة الانتقادات اللاذعة والعلنية لبارزاني وخطوته الطائشة وغير المحسوبة بالإصرار على اجراء الاستفتاء، التي بدأت تنتشر في فضاء اقليم كردستان، تعكس انهيار مكانة بارزاني وتراجع دوره واحتمالات اقصائه او دفعه الى الاستقالة، بعد تحميله شخصيا مسؤولية ما لحق بالإقليم والشعب الكردي من خسائر وانكسارات، كان يمكن تجنبها بتوسل بعض الحكمة وبُعد النظر والخيال السياسي الذي افتقر اليه بارزاني والدائرة الضيقة المحيطة به، التي ظنت ان ضعف حكومة بغداد ورحيل الرئيس طالباني قد وفّرت لمخططه رياح إسناد تُمكِّنه المساومة على «الاستقلال» من موقع القوة، وبخاصة في استمالة جناح من اجنحة الاتحاد الوطني المعارِض لبقاء الزعامة في بيت طالباني (من خلال زوجته ونجله بافل) كذلك بعد انشقاق القيادي برهم صالح وتشكيله حزبا جديداً، كان من سوء حظ هذا السياسي المعتدل والبراغماتي، انه جاء في غمرة تحولات دراماتيكية في المشهد الكردي برحيل طالباني وعودة كركوك (وما ادراك ما كركوك في عُرف الكرد التي يعتبرها كثيرون منهم، مثابة القدس للفلسطينيين وشعبها)، الى حضن الدولة العراقية، وما يعنيه ذلك من «شطب» تصنيفها كمنطقة «مُتنازَع عليها».
إتهامات بارزاني لإيران بأنها «قادت» عملية اجتياح كركوك عبر الحرس الثوري الإيراني وبقيادة الجنرال إقبال بور، واعتبار ما جرى بأنه «إعلان حرب»، فضلاً عن تهديده رئيس الوزراء العراقي حيدر العِبادي بأنه «سيدفع ثمناً باهظاً»، تعكس ضمن امور اخرى، حجم المأزق الذي بات فيه وعليه رئيس اقليم كردستان، الذي رفض كل محاولات التوسّط والدعوات الى التهدئة وتقديم منطق الحوار على منطق العِناد والحرب، ظنّاً منه (بارزاني) ان عملية عسكرية يقوم بها الجيش العراقي والحشد الشعبي مُستبعَدة، في ظل انشغاله بمحاربة داعش وارتفاع حدة الخلافات بين العِبادي وبعض المكونات السياسية والدينية العراقية، وبخاصة تلك «الشيعية» المُتحالِفة تاريخياً (اي منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003) مع الكرد، والتي عملت بتنسيق كامل ولافت طوال السنوات التي تلت قيام اول حكومة في ظل الاحتلال الأمريكي وحتى وقت قريب، الأمر الذي عندما حدث (التحرّك العسكري باتجاه كركوك) خلط حسابات بارزاني (الخاطئة والحالِمة كما يجب وصفها) وأحاله الى زعيم يعاني مرارة الهزيمة وتحمّل مسؤولية ضياع وتبدّد كل المكاسب «الهائلة» التي كانت تحققت للكرد بعد العام 2003، وخصوصا بعد التاسع من حزيران 2014 إثر اجتياح داعش للموصل واغتنام بارزاني الفرصة للسيطرة على كركوك والاستيلاء على عتاد الجيش العراقي المنسحب منها، وإجبار آلاف الجنود العراقيين على مغادرة المدينة بلباس مدني وفي شكل مهين، انتقدته شخصيات سياسية وحزبية كردية، مُحذِّرة من مغبة سلوك عدائي كهذا على نسيج العلاقات مع المؤسسة العسكرية العراقية.
الانقسام السياسي الافقي والعامودي الذي بدأ يفرض نفسه على المشهد الكردي داخل الاقليم وخارجه، مُرشَّح للتعمق، بعد ان بدأ التراشق الإعلامي وحرب التصريحات بين الاتحاد الوطني وحركة التغيير من جهة والحزب الديمقراطي بزعامة بارزاني... يشق طريقه مُتصاعِدا، اذ دعت السيدة هيرو احمد «بعدم الاستماع الى من تسبب بالأزمة»، ردّا على اتهامات حزب بارزاني لجناح في الاتحاد بالخيانة، في اشارة الى بارزاني نفسه فيما سارعت حركة التغيير (كوران) للدعوة إلى «حل حكومة كردستان وتشكيل حكومة انقاذ وطني، واستقالة المسؤولين عما وصلت اليه الأمور في كردستان وخصوصاً في كركوك»، والاشارة واضحة الى ان بارزاني هو المقصود ايضا.
ليست مُهِمة التصريحات الغاضبة التي تفوح منها رائحة التهديد والوعيد التي يُطلِقها قادة في معسكر بارزاني الواقع تحت ضغط المفاجأة والهزيمة السياسية والمعنوية المدوية التي لحقت بمشروعه الانفصالي، الذي ظن انه بات في متناول يده، بعد ان حصل على ضوء اخضر من عواصم اقليمية ولوبيّات اخرى عبر المحيطات، في تفاهمات ووعود بقيت «سِرّيّة» حتى الآن، لكنها ستُكشف لاحقاً. كذلك ليس مهما ما قاله احد قادة حزب بارزاني بان «الحوار مع بغداد.. انتهى» وتبجّحه بأن لدى حزبه القوة لـِ»تدويل» القضية... بعد فقدان كركوك، لان المشهدين الاقليمي والدولي (دع عنك المشهد الكردي نفسه) يشيان بان «الجاني» هو الذي سيدفع الثمن هذه المرة، وهذا ما اكدته الحقائق الميدانية وخريطة التحالفات الجديدة في العراق الآخذة في التشكّل والبروز – على نحو مفاجئ وصادم لبارزاني نفسه، الذي كان دعا كرد الإقليم لانتخابات «رئاسية» وإخرى برلمانية أوائل الشهر الوشيك...فأين هو الآن مِن وَهمٍ آخر...كهذا؟.
[email protected]
*صحيفة (الراي) الاردنية 18/10/2017 :
17/10/2024
|