*إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية
أعلن رئيس الوزراء العراقي "محمد شياع السوداني"، في 22 أكتوبر 2024، مقتل "والي العراق" في تنظيم "داعش"، "جاسم المزروعي أبو عبد القادر"، بالإضافة إلى ثمانية من قيادات التنظيم بضربة جوية في جبال حمرين بمحافظة كركوك شمال العراق.
وتشكل العملية نقطة تحول بارزة في مسار المواجهة مع التنظيم، باعتبار أنها ستفرض تداعيات مباشرة سواء على تماسك "داعش" من الداخل، أو على نمط تفاعلاته في مواجهة الاستراتيجية الأمنية الجديدة التي تتبناها الحكومة العراقية في مواجهته.
وقد جاء الإعلان عن اغتيال "والي العراق" في خضم مخاوف متصاعدة بشأن عودة نشاط "داعش"، وتوظيف التنظيم الانشغال الدولي بتطورات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان بالإضافة إلى استمرار الأزمة الأوكرانية. كما جاء في سياق اتفاق بغداد وواشنطن في سبتمبر 2024 على إنهاء مهمة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق بحلول سبتمبر 2025، وعلى أن يتم الانتقال إلى شراكات أمنية ثنائية.
دوافع عديدة
استهدفت الحكومة العراقية من وراء عملية تصفية "والي العراق" في تنظيم "داعش" تحقيق عدد من الأهداف، التي يأتي على رأسها ما يلي:
1- لجم النشاط العملياتي لتنظيم "داعش" في العراق:
ترتبط العمليات النوعية التي بدأها جهاز مكافحة الإرهاب العراقي ضد تنظيم "داعش" خلال الآونة الأخيرة، وآخرها استهداف "جاسم المزروعي أبو عبد القادر"، برغبة بغداد في تحييد تحركات التنظيم، ولجم نشاطه العملياتي الذي شهد تزايداً ملحوظاً خلال الأشهر الأخيرة في الداخل العراقي، مستفيداً من انشغال الولايات المتحدة والقوى الغربية بدعم إسرائيل في حربها على غزة، وكذلك تأهب القوات الأمنية العراقية وسط مخاوف من شن إسرائيل هجمات محتملة على العراق، خاصةً بعد تهديد "نتنياهو" خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية سبتمبر 2024 للمليشيات العراقية الموالية لإيران، ووضعه العراق ضمن ما وصفه بـ"محور الشر" المناهض لإسرائيل.
وتجدر الإشارة إلى أن القيادة المركزية الأمريكية "سنتكوم"، كانت قد كشفت في 17 يوليو 2024 عن أن تنظيم "داعش" ضاعف هجماته في العراق وسوريا منذ بداية عام 2024، وأكدت أنه يحاول إعادة تشكيل نفسه. كما أشارت تقديرات متباينة لبعض مراكز الأبحاث الغربية والإقليمية إلى أن التنظيم يزداد نشاطاً بالفعل في العراق، مستغلاً الكثير من المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، ومنها الحرب الروسية-الأوكرانية.
2- منع السيطرة الجغرافية لـ"داعش" في العراق مرة أخرى:
لا يمكن فصل تلك التحركات عن الجهود التي تبذلها حكومة "السوداني" من أجل منع "داعش" من العودة إلى السيطرة المكانية، وبخاصة في شمال البلاد على غرار ما حدث في عام 2014. ويتوازى ذلك مع توجه رئيس الوزراء العراقي خلال الآونة الأخيرة نحو التحشيد الأمني شمال البلاد في إطار السعي لاحتواء مخاطر التنظيمات الإرهابية، وقطع الطريق أمام عودة تمددها الجغرافي أو سيطرتها المكانية.
وقد ظهر ذلك على سبيل المثال في قيام الطيران الحربي العراقي في يونيو 2024 باستهداف جيوب "داعش" في محافظتي ديالى شرق البلاد وكركوك في الشمال. كما حرصت حكومة "السوداني" على التنسيق الأمني مع دول الجوار -وبخاصة سوريا- لمواجهة التمدد الجغرافي للتنظيم، وكان بارزاً، هنا، اتفاق "السوداني" والرئيس السوري "بشار الأسد" خلال مكالمة هاتفية في 5 يونيو 2024 على دعم الخطط الأمنية المشتركة على الحدود بين البلدين لمكافحة "داعش".
وفي هذا السياق، كشفت عملية اغتيال "والي العراق" وبعض معاونيه، عن قدرة الجيش العراقي على تحقيق اختراق كبير في صفوف التنظيم، وبالتالي سهولة اصطياد قيادته وعناصره الحيوية من خلال الأجهزة الأمنية، وهو ما أدى إلى انهيار السيطرة المكانية والعملياتية للتنظيم بشكل لافت، وبالتالي إضعاف قدرة التنظيم في مناطق انتشاره. ووفقاً للعديد من التقديرات، فقد أدت العمليات العسكرية المتتالية التي تعرض لها تنظيم "داعش" إلى تصاعد حدة الانقسامات داخله، وهو ما ساهم في تراجع حضوره في الداخل العراقي.
3- إثبات القدرة على استخدام تكتيكات نوعية ضد "داعش":
استخدم العراق تكتيكات عسكرية جديدة في تنفيذ عملية استهداف "والي العراق" ومعاونيه، بالإضافة إلى اتّباع أساليب غير تقليدية في تنفيذ العملية، وهو ما كشف عن رسالة مفادها أن الجيش العراقي لديه القدرة على محاصرة تنظيم "داعش" وتحييد قدراته العسكرية واللوجستية، وأنه يملك تقنيات عسكرية وخططاً استراتيجية محلية قادرة على استئصال التنظيم. كما أن العملية من وجهة نظر عراقية تكشف عن تقدم أمني مخابراتي عراقي في مواجهة التنظيم.
وفي هذا السياق، يمكن فهم إعلان قيادة العمليات العراقية المشتركة في بيان لها بعد مقتل "والي العراق"، عن أن العملية استندت إلى معلومات استخبارية دقيقة وعمل فني وميداني مستمر، بالتنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية العراقية. وأشار البيان أيضاً إلى ضبط كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد والمعدات في 8 مضافات كانت تُستخدم من قبل التنظيم، وتدميرها بالكامل، كما تم تدمير ورشة كبيرة للتفخيخ وصناعة العبوات الناسفة.
4- إيصال رسالة للتحالف الدولي بالقدرة على مواجهة الإرهاب:
تكشف الضربة الأمنية الدقيقة والمعقدة التي نُفذت في 22 أكتوبر 2024، وأسفرت عن مقتل ما يسمى "والي العراق" في تنظيم "داعش" عن التطور التقني والعملياتي والاستخباراتي للأجهزة الأمنية العراقية.
بيد أن هذه العملية تحمل في طياتها رسالة موجهة إلى التحالف الدولي، مفادها أن بغداد في التوقيت الحالي باتت قادرة على مواجهة ما يهدد أمنها القومي، وبخاصة التنظيمات المسلحة.
وهنا، يمكن تفسير تصريحات رئيس الوزراء العراقي الذي أكد في 17 سبتمبر 2024، عدم الحاجة إلى بقاء قوات التحالف الدولي في بلاده، معتبراً أن القوات العراقية باتت قادرة على محاربة فلول تنظيم "داعش" بمفردها.
ويُذكر في هذا الصدد أن الولايات المتحدة تحتفظ بحوالي 2500 جندي في العراق ضمن هياكل التحالف الدولي الذي تم تأسيسه في العام 2014.
لذا فإن حكومة "السوداني" سعت من خلال عملية اغتيال "والي العراق" إلى إثبات قدرة الأجهزة الأمنية العراقية على تحييد مخاطر "داعش" ومحاصرة تحركاته في الداخل العراقي، فضلاً عن رغبتها في التأكيد على أن انشغال العراق في التوقيت الحالي بتعزيز قدراته العسكرية، تحسباً لمواجهات محتملة بين إسرائيل والمليشيات العراقية الموالية لإيران، لا يعني تراجعه عن مواصلة استهداف تنظيم "داعش" وجيوبه.
5- تعزيز صورة العراق كجهة إقليمية فاعلة في محاربة الإرهاب:
يمكن النظر إلى عملية استهداف "والي العراق" في تنظيم داعش في إطار الأبعاد السياسية المرجوة من ورائها، خاصةً في ظل تصاعد التحذيرات العالمية من عودة نشاط التنظيم، وتزايد عملياته الإرهابية في التوقيت الحالي، ومن ثم فإن إعلان "السوداني" عن مقتل "والي العراق" ومعاونيه، يستهدف في جانب معتبر منه تعزيز صورة العراق كجهة إقليمية فاعلة في محاربة الإرهاب. كما يهدف "السوداني" من وراء هذه العمليات إلى توفير مداخيل لتطوير القيمة المكانية والاستراتيجية للعراق دولياً وإقليمياً.
6- دعم النفوذ السياسي لرئيس الوزراء العراقي داخل البلاد:
يبدو أن رئيس الوزراء العراقي "محمد شياع السوداني" يسعى إلى تعزيز حضوره على الساحة السياسية في الداخل العراقي من خلال إثبات قدرته على محاصرة التنظيمات الإرهابية التي تؤرق البلاد وتزيدها انغماساً في همها الداخلي، وخلق حالة من الاستقرار. وفي رؤية "السوداني"، فإن استهداف رؤوس تنظيم "داعش" وتقييد تحركاتها في التوقيت الحالي يمكن أن يعزز فرصه في الانتخابات البرلمانية المقرر لها العام 2025، وكذلك تعزيز نفوذه في مواجهة خصومه المحليين في الإطار التنسيقي. وفي ضوء ذلك، يمكن تفسير احتفاء "السوداني" بنجاح عملية مقتل والي العراق في تنظيم "داعش".
7- تحسين صورة العراق في الأسواق الاقتصادية العالمية:
ربما يساهم اتجاه حكومة "السوداني" نحو تنفيذ عمليات نوعية ضد عناصر "داعش" في إيصال رسالة للأسواق الأجنبية، مفادها أن العراق قادر على حماية المصالح الأجنبية على أراضيه، وتأمين الاستثمارات الأجنبية في المشاريع العراقية، وبخاصة في مناطق تواجد الثروات الطبيعية. ومن جهة أخرى يرغب "السوداني" في التأكيد على أن العراق في التوقيت الحالي يختلف عما كان عليه قبل سنوات، وأن الجيش العراقي قادر ليس فقط على مواجهة التنظيمات الإرهابية، وإنما حماية مصالح الشركاء على أراضيه.
ومن هنا، لا تستبعد اتجاهات عديدة أن تؤدي العمليات الأمنية النوعية للجيش العراقي ضد "داعش" في تحسين صورة البلاد في الأسواق الاقتصادية الدولية، وتوفير بيئة محفزة لجذب الاستثمارات الأجنبية، وبخاصة الشركات الأجنبية، التي سحبت في وقت سابق موظفيها، وأوقفت مشاريعها خوفاً من أعمال العنف في العراق.
ارتدادات محتملة
وختاماً، يمكن القول إن "السوداني" يسعى إلى توظيف مقتل "والي العراق" في تنظيم "داعش" ليس فقط لتعزيز مكانة العراق في محيطه الإقليمي والدولي، وإنما أيضاً تعزيز موقعه الداخلي، لا سيما مع اقتراب الاستحقاق البرلماني المقرر له العام 2025، خصوصاً وأن هذه العملية قد يترتب عليها ارتدادات، على مستوى تنظيم "داعش" نفسه، وتنامي فرص تحييد وجوده ولجم تحركه العملياتي وأنشطته في البلاد.