*انترريجيونال للدراسات الاستراتيجية
د. منى سليمان:أعلنت وزارة الداخلية التركية، يوم 4 نوفمبر 2024، إقالة ثلاثة من رؤساء البلديات المنتخبين المؤيدين للكرد بثلاث بلديات بجنوب شرق البلاد (ماردين، وباتمان، وشانلي أورفة) عقب إدانتهم بارتكاب جرائم تتعلق بالإرهاب ذات صلة بحزب "العمال الكردستاني"؛ وذلك بعد الزخم الذي أحدثه رئيس حزب الحركة القومية الشريك بتحالف الشعب الحاكم "دولت بهجلي" عبر دعوته الزعيم الكردي المعتقل بتركيا منذ ربع قرن "عبد الله أوجلان" إلى الإعلان عن نبذ العنف وحل القضية الكردية سلمياً، وهي الدعوة التي رحب بها الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" رغم تأكيده استمرار استهداف "الكردستاني"، بينما تباينت ردود أفعال الأحزاب التركية عليها، وكان أعنفها تبني "الكردستاني" تنفيذ تفجير إرهابي بأنقرة استهدف شركة الصناعات الدفاعية "توساش" في 23 أكتوبر 2024 لتأكيد استمرار "النضال المسلح" للكرد. وتنتظر الساحة السياسية التركية الخطوات التنفيذية لهذه الدعوة التي سيكون لها ارتدادات إقليمية؛ نظراً إلى الارتباطات بين "العمال الكردستاني" بأفرعه في العراق وسوريا وإيران، وبين ارتدادات دولية؛ نظراً إلى الدعم الأمريكي والأوروبي للكيانات والجاليات الكردية.
أبعاد متعددة
يُعَد "عبد الله أوجلان" (75 عاماً) "البطل القومي الكردي" الذي أسس حزب "العمال الكردستاني" عام 1978 على مبادئ ماركسية اشتراكية، ويهدف إلى إقامة دولة كردية مستقلة جنوب تركيا، وتزعَّمه بعد ذلك وخاض "نضالاً مسلحاً" للحصول على حقوق الكرد ضد مؤسسات الدولة التركية لمدة عقدين؛ ما أسفر عن مقتل 40 ألف شخص، ثم اعتُقل من نيروبي في فبراير 1999، واحتُجز في حبس انفرادي في سجن بجزيرة "إيمرالي" بغرب تركيا، وتمت محاكمته وصدر حكم بإعدامه، ثم خُفِّف عام 2004 إلى السجن مدى الحياة، وقد فشلت كافة المحاولات السابقة للإفراج عنه مقابل نزع سلاح "الكردستاني" ووقف العمليات الإرهابية ضد تركيا؛ فقد دعا "أوجلان"، عامَي 2012 و2013، إلى بدء حوار مع أنقرة مقابل وقف إطلاق النار في ظل "عملية سلام" لحل القضية الكردية بتركيا، وبدأت عملية سلام قصيرة عام 2013 منحت الكرد بعض الحقوق، مثل (تدريس اللغة الكردية بالمدارس)، بيد أن أنقرة لم توافق على ذلك، ثم جاءت دعوة "بهجلي" التي تمهد لبدء حوار تركي كردي وعملية سلام جديدة للإفراج عن "أوجلان"، وقد تعددت ردود الأفعال عليها كما يلي:
1– مطالبة "بهجلي" أوجلان بإعلان نبذ العنف:
تمثل دعوة "بهجلي" تحولاً جذرياً في المشهد السياسي التركي؛ لأنه رئيس أكبر حزب قومي، وهو حزب "الحركة القومية" الشريك بتحالف "الشعب" الحاكم، وكان يتخذ موقفاً متشدداً ضد التصالح مع الكرد أو تقديم أي تنازلات لهم، بل طالب من قبل بتوقيع عقوبة الإعدام على "أوجلان" نتيجةَ تورطه في أعمال إرهابية، ثم تحول موقفه تماماً؛ ففي مطلع أكتوبر 2024، وعند افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان التركي، بادر "بهجلي" بمصافحة تاريخية لأعضاء حزب "المساواة والديمقراطية الشعبية" الكردي للمرة الأولى، وفي 22 من الشهر نفسه أعلن في اجتماع الكتلة البرلمانية لحزبه أنه "لا حل للأزمة الكردية في تركيا بدون إعلان أوجلان تصفية الجماعة الكردية المسلحة. وعلى أوجلان أن يأتي ويتحدث باجتماع كتلة حزب المساواة والديمقراطية الكردي ويعلن أن الإرهاب قد انتهى".
وكرر "بهجلي" دعوته، ونشر رسالة بمناسبة ذكرى تأسيس الجمهورية التركية، أوضح فيها أن "تركيا ليس لديها معضلة عرقية أو طائفية، وليس لديها مشكلة كردية"، وأكد أنه "إذا كان هناك تركي لا يحب الكرد فهو ليس تركياً، وإذا كان هناك كردي لا يحب الأتراك فهو ليس كردياً.. الأتراك والكرد يواجهون عدواً مشتركاً".
2– دعم "أردوغان" لتحركات بهجلي:
دعم "أردوغان" موقف حليفه "بهجلي" من الدعوة لبدء حوار مع "أوجلان" لوقف العنف الكردي، وأكد أن "توحيد الجبهة الداخلية ستواجه التنظيمات الإرهابية. دعونا نقم بتنمية وتعزيز هذه الأخوة الممتدة لألف سنة"، ويقصد الأخوة بين الكرد والأتراك الذين تشاركوا أرض الأناضول منذ قرون.
وثمة عدد من الدوافع لـ"أردوغان" ليوافق حالياً على حل القضية الكردية بتركيا، قد يكون أبرزها الحصول على الدعم الكردي في أي استحقاق انتخابي قادم بعد تراجع شعبية حزبه وخسارته الانتخابات المحلية الأخيرة التي أجريت في مارس 2024، وكذلك إعادة هيكلة المشهد السياسي التركي الداخلي، والقضاء على التهديد الإرهابي الكردي في العراق وسوريا، وتوحيد الجبهة التركية الداخلية لمواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية الجديدة بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المستمرة منذ عام ونيف واحتمالات توسعها إقليمياً؛ ما سيؤدي إلى تهديد للأمن القومي لكافة دول المنطقة.
3– ترحيب كردي حذِر بدعوة بهجلي:
رحبت الرئيسة المشاركة لحزب "الديمقراطية والمساواة للشعوب" الكردي "تولاي حاتم أوجولاري"، في أكتوبر 2024، بدعوة "بهجلي"، ودعت إلى إلغاء العزلة المفروضة على "أوجلان" فوراً باعتبار ذلك بدايةً للمفاوضات الديمقراطية للتوصل إلى حل المشكلة الكردية؛ لأننا "لا نتسول الحل من أحد"، وأكدت أن "السبيل لحل الأزمة الكردية وأدوات الحل والمخاطبين منه؛ كل ذلك واضح ومعروف.. السلام غير المجتمعي لن يحقق السلام الفعلي"، ووصفت المفاوضات الديمقراطية والسلام بأنه يجب أن يكون "مشرِّفاً"، وأكدت استعداد الحزب لتقديم المبادرة من أجل "السلام المشرِّف". وجدير بالذكر أن الحزب دائماً يدعو إلى الإفراج عن القيادات الكردية المعتقلة بتركيا، كما يدعو إلى بدء مفاوضات سلام داخلية لحل القضية الكردية وحصول الكرد على حقوقهم كاملة، مساواةً بأي مواطن تركي.
4– فتح "أوجلان" باب الحوار مع النظام:
استقبل "أوجلان" أول زيارة عائلية له منذ عام 2020 في أكتوبر 2024 قام بها نجل شقيقه النائب بالبرلمان التركي عن حزب "الديمقراطية والمساواة" الكردي "عمر أوجلان"، وأكد الزعيم المعتقل أن "صحته جيدة"، ورحَّب بدعوة "بهجلي" للإفراج عنه، وأكد أن لديه "السلطة النظرية والعملية اللازمة لنقل النضال الكردي من العمل المسلح والعنف إلى القانون والسياسة". ورهن "أوجلان" بدء "عملية سلام" جديدة بشرطين؛ هما (وجود دولة ضامنة لاتفاق السلام، وتوفر الضمانات القانونية). ويهدف "أوجلان" من الترحيب بدعوة "بهجلي" إلى الحصول على الإفراج عنه وفق قانون "حق الأمل" التركي الذي ينص على أن أي معتقل يُحكَم عليه بالسجن مدى الحياة، من حقه طلب العفو الرئاسي عنه للعودة إلى المجتمع بعد فترة معينة من قضاء العقوبة، وإذا تم الاتفاق بين السلطات التركية و"أوجلان" فإنه يمكن الإفراج عنه.
تحديات جيوسياسية
جددت دعوة رئيس حزب الحركة القومية "دولت بهجلي" للإفراج عن الزعيم الكردي المعتقل "عبد الله أوجلان"، الآمال بحل القضية الكردية سلمياً، بيد أن هناك العديد من التحديات التي ستواجه الخطوات التنفيذية لها، ومنها ما يلي:
1– استمرار الاستهداف التركي للكرد:
غداة تفجير أنقرة الذي تبناه حزب "العمال الكردستاني" ليبرهن على رفضه مبادرة الإفراج عن "أوجلان"، أعلنت وزارة الداخلية التركية اعتقال أكثر من 170 شخصاً بتهمة الارتباط بالحزب، وشنت أنقرة هجمات جوية ضد 500 هدف للحزب في شمال العراق وسوريا، فضلاً عن اعتقال رئيس بلدية "إسنيورت" بإسطنبول "أحمد أوزر"، واتهامه بالارتباط بالحزب وارتكاب جرائم إرهابية، بالإضافة إلى إقالة ثلاثة من رؤساء البلديات المنتخبين المؤيدين للكرد في(ماردين، وباتمان، وشانلي أورفة) عقب إدانتهم بارتكاب جرائم تتعلق بالإرهاب؛ ما يؤكد استمرار الاستهداف التركي لحزب "العمال الكردستاني" في داخل وخارج تركيا؛ ما سيعيق بدء التفاوض مع "أوجلان".
2– تباين مواقف الأحزاب التركية:
تباينت مواقف الأحزاب التركية من دعوة "بهجلي"؛ حيث انتقد زعيم حزب "الجيد" التركي "مساوات درويش أوغلو" دعوة الإفراج عن "أوجلان"، ووضع صور الجنود الأتراك الشهداء الذين قُتلوا بنيران "العمال الكردستاني" على مقاعد البرلمان، وحمل "درويش أوغلو" حبلاً لتذكير "بهجلي" بتحديه للرئيس "أردوغان" قبل عدة سنوات باتخاذ قرار إعدام "أوجلان"، بينما أبدى رؤساء حزبَي "الرفاه من جديد" و"النصر" موقفاً غير واضح من الدعوة، وفضَّلت بعض الأحزاب عدم التعليق على الدعوة حتى يتم الإعلان عن الخطوات التنفيذية لها.
3– تعنت الشعب الجمهوري:
أوضح رئيس حزب "الشعب الجمهوري" أكبر أحزاب المعارضة "أوزغور أوزال" أن "هناك مفاوضات تُدار من خلف الأبواب المغلقة ويتم تراشق الأحاديث حولها"، وأكد أن حزبه يؤيد أي محاولة لإحلال السلام بالبلاد وحقن الدماء وإنهاء الإرهاب، بيد أنه أشار إلى ضرورة عدم إقصاء البرلمان من المفاوضات المقبلة لحل القضية الكردية، وضرورة أن يتم "توافق مجتمعي" لحل القضية الكردية، كما دعا للإفراج عن الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي "صلاح الدين دميرطاش" المعتقل بسجن "أدرنة" منذ عام 2016، كجزء من حل القضية الكردية. جدير بالذكر أن بعض التفسيرات اتهمت "بهجلي" بأنه يسعى إلى تهميش دور "دميرطاش" كزعيم سياسي كردي عبر الدعوة للإفراج عن "أوجلان"، رغم أن "دميرطاش" له شعبية كبيرة بين الأوساط الكردية، لا سيما بعد اعتقاله بتهم تتعلق بالإرهاب والارتباط بحزب "العمال الكردستاني"، ورفض "أردوغان" العفو عنه.
4– تمسك حزب العمال الكردستاني بالنضال المسلح:
على الرغم من تأكيد "أوجلان" امتلاكه القوة والتأثير لإنهاء القضية الكردية، فإن القائد الحالي للحزب في "جبل قنديل" بشمال العراق "جميل بايك"، أكد أن القيادات العسكرية للحزب "هي من يتخذ هذا القرار، وليس القائد العام له أوجلان"؛ ما يؤكد أن القيادات المسلحة لحزب العمال الكردستاني، رغم احترامها "لأوجلان" ورغبتها في حل القضية الكردية، تتمسك بالنضال المسلح لتحقيق ذلك. جدير بالذكر أن قيادات حزب "العمال الكردستاني" تتمركز في منطقة "جبال قنديل" بشمال العراق، وتنتشر عناصره بشمال العراق وسوريا وجنوب تركيا؛ لذا تدعو تركيا إلى إقامة منطقة آمنة في سوريا وحزام أمني في العراق بعمق (30 كيلومتراً) لمحاربة الإرهاب والقضاء على العناصر الكردية، وقطع الصلة بين كافة التنظيمات الكردية في الدول الثلاث.
5– الدعم الأمريكي للكرد:
أوضح قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) "مظلوم عبدي" نهاية أكتوبر 2024 استعداده لبدء حوار سياسي مع تركيا، ونفى تورط قواته في الهجوم الإرهابي بأنقرة، وأكد أنهم "مستعدون لحل المشاكل من خلال إقامة حوار مع تركيا مع ضرورة إيقاف الغارات العسكرية". جدير بالذكر أن ثمة ارتباطات بين (قسد) وحزب العمال الكردستاني في تركيا والعراق، وأن هناك تعارضاً تركياً أمريكياً في التعامل مع التنظيمات الكردية المسلحة؛ حيث ترى واشنطن أنها ساهمت في محاربة "داعش" والتنظيمات الارهابية، وتمثل "قوات موالية" لها على الأرض، بينما تصنف تركيا أغلبها "تنظيمات إرهابية"، ودوماً تطالب أنقرة واشنطن بوقف الدعم الأمريكي لتلك التنظيمات، ورغم هذا فإن من المنتظر أن ترحب الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي "الناتو" والاتحاد الأوروبي بأي مبادرة لحل القضية الكردية سلمياً في تركيا؛ نظرا إلى أن ذلك سيتبعه منح المواطنين الكرد حقوقهم الكاملة، وتهدئة المشهد التركي الداخلي.
مما سبق، نرى أن الدعوة للإفراج عن الزعيم الكردي "عبد الله أوجلان" أحدثت زخماً سياسياً بالمشهد التركي، وأن الخطوات التنفيذية لها إذا تقررت ستمر بمفاوضات (تركية–كردية) طويلة ومعقدة في كافة معطياتها وآلياتها، وستنعكس إيجاباً على الداخل التركي وكذلك على دول الجوار (العراق، وسوريا، وإيران) والكيانات الكردية بها، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي سيكون لهما دور في تلك المفاوضات، وربما تستضيف الولايات المتحدة أو أيُّ دولة منه الاتحاد الأوروبي تلك المفاوضات التركية الكردية التي ستحدد نتيجتُها مستقبلَ القضية الكردية والكيانات السياسية والعسكرية المرتبطة بها في المنطقة.