×

  بحوث و دراسات

  التحدّيات أمام سلطة الحكم الجديدة في دمشق



 

*مركز روج افا للدراسات الاستراتيجية

منذ جلاء الفرنسيين عنها في 17نيسان 1946 مرّت سوريا بسلسلة من الفوضى والانقلابات العسكرية، ثم بفترة الوحدة مع مصر/1958-1961/ حتى الانفصال، حدث الانقلاب البعثي في 8 آذار 1963 وحرب حزيران 1967، ثم حَكم آل الأسد سوريا منذ الانقلاب في 16 تشرين 1970 إلى 8 كانون الأول 2024 حيث الهروب المخزي لبشار الأسد.

 

مَن أسقط حكم الأسد؟

يبدو أنّ هذا الانتصار الكبير والسريع لهيئة تحرير الشام (النصرة) وسيطرتها على دمشق خلال عشرة أيام دون مقاومة تُذكَر تقف وراءها قوة عالمية عُظمى، وكافة المراقبين يرون أنّ إسرائيل وأمريكا تقفان خلف ذلك، خاصة بعد إنهاء القوة الإيرانية وأذرعها في لبنان وسوريا، وبالتالي؛ لتركيا دور ثانوي في الاستفادة من ذلك وتمرير أجنداتها؛ ففي البداية نأت تركيا بنفسها – وأبدت تخوّفها حين سيطرت “هتش” على حلب – وكانت روسيا وإيران لحينها لا تزالا قويّتَين في سوريا. اتّضح من اجتماع الدوحة بين وزراء خارجية دول (تركيا وإيران وروسيا) في7/12/2024 وفق مسار أستانا، لينضمّ إليهم المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، اتّفق المجتمعون على سيادة سوريا ووحدة أراضيها، والحثّ على الحوار بين الحكومة السورية والمعارضة، في حين كانت الأخيرة قد سيطرت على حماة بعد حلب وتتقدّم نحو حمص ودمشق،  لذا؛ حتى لحظة سقوط دمشق كان الرئيس التركي يأمل اللقاء بالنظام السوري والتوافق حول تسليم المعارضة ومحاربة الإدارة الذاتية معاً، أمّا بعد سقوط دمشق وهروب الأسد، تبنّت تركيا الانتصار ونسبت الفضل لنفسها، وراحت تدفع بمرتزقتها نحو الإدارة الذاتية لاحتلال مناطق جديدة من تل رفعت والشهباء ومنبج، وتهدّد كوباني المدينة التي أسقطت أسطورة داعش.

 

أفراح سقوط دمشق

بعد توالي سقوط المدن والقرى السورية بيد المعارضة المسلّحة من خلال عملية سمّتها (ردع العدوان) بقيادة هيئة تحرير الشام (هتش) تم تتويجها فجر يوم الأحد 8/12/2024 بإسقاط نظام بشار الأسد، وقد احتفل الشعب السوري بكافة أطيافه – ماعدا الموالين والمستفيدين – بعد/50/ عاماً من القهر والذلّ والطغيان تحت ظلام حكم البعث، انتصر الشعب وفرح وتنفّس الصعداء بعد سقوط حكومة البعث والأسد وتماثيله، لتعمّ الاحتفالات في ساحة الأمويين بدمشق وكافة المدن السورية، وتناقلت وكالات الأنباء أنّ بشار الأسد قد غادر دمشق إلى جهة غير معلومة، ليتّضح بعد ذلك أنّه التجأ إلى روسيا عبر مطار “حميميم” الروسي. وقد زاد من حنق العالم على وحشية النظام البائد اقتحام وفتح السجون، وخاصة سجن صيدنايا سيِّئ الصيت، وتحرير السجناء ومشاهدة بقايا الناس الأحياء الأموات، وكذلك العثور على العديد من المقابر الجماعية.

 

ردود الأفعال العربية والدولية:

لبحث التطوّرات في سوريا عُقِد اجتماع في 13/ كانون الأول الجاري في مدينة العقبة الأردنية بعد أيام من إسقاط نظام بشار الأسد، حضرته مجموعة الاتصال الموسّعة التابعة لجامعة الدول العربية، وفي اليوم التالي انضمّت إليه كلّ من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبريطانيا والأمم المتحدة؛ وفي نهاية الاجتماع دعا المجتمعون إلى حوار سوري شامل وضرورة تشكيل حكومة سورية جامعة تمثّل جميع مكوّنات الشعب، كما أدانوا التوغّل الإسرائيلي في الجنوب السوري، ووجدوا أنّ القرار الأممي /2254/ لم يعد صالحاً بعد سيطرة (هتش) – المصنّفة “إرهابيا”- على الحكم في دمشق، وأنّه لابدّ من قرار جديد من مجلس الأمن الدولي لمراعاة التطوّرات حول ذلك؛ دَعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى ضرورة ألّا تشكّل سوريا مصدر تهديد لجيرانها، وطلبت الحفاظ على حقوق الأقليات والنساء.

 كما عقد مجلس الأمن يوم الثلاثاء 17/12 أول اجتماع له بعد سقوط الأسد، وأعلن عن الالتزام القويّ بسيادة سوريا واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها، ودعا المجلس إلى التوجّه نحو عملية سياسية سورية تلبّي تطلّعات المواطنين وتستند إلى مبادئ القرار/2254/ بشكل ديمقراطي، في حين تحدّث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا “غير بيدرسون” إلى الاجتماع فقال: الكثيرون يشعرون بالقلق إزاء المستقبل.

 وأبدت بعض الدول العربية (مصر، العراق، الأردن، الإمارات العربية) قلقها من سيطرة الإخوان المسلمين، المدعومة تركياً وقطرياً وذات خلفية تعود لتنظيم “القاعدة”، على الوضع في سوريا، وطلبت من دول العالم عدم الإسراع بالاعتراف، والانتظار لحين انقشاع زوبعة غبار سيطرة (هتش) على الوضع في سوريا ومعرفة نواياها.

 أمّا إسرائيل، التي تدّعي أنّ لها الفضل الأكبر في الإطاحة بنظام الأسد بإنهاء حليف سوريا الرئيسي إيران في لبنان وسوريا، فتتخوّف من أسلحة وعتاد الأسد وأن تستخدمها جماعة متشدّدة ضدّها، فقامت بتدميرها بشكل كامل، وتموضعت في جبل الشيخ وتمدّدت إلى الجنوب من دمشق تحسّباً لأي طارئ.

 

الأطماع والدور التركي المفتاح:

قال الرئيس الأمريكي المنتخب “ترامب” أن تركيا تقف وراء الأحداث التي شهدتها سوريا، وقال عن الرئيس التركي أنّه رجل ذكي للغاية، وأنّ تركيا قامت بعملية استيلاء “غير ودّية” ودون إزهاق عدد كبير من الأرواح في سوريا – مع أنّه كان يريده أن تكون في عهده – وتحقّق الذي كان ينتظره الأتراك منذ آلاف السنين؟

واعتبر ترامب أنّ تركيا ستمتلك قدرة التحكّم بمجريات الأحداث وبيدها المفاتيح في سوريا، مؤكداً أنّ في سوريا الكثير من الأمور غير الواضحة؛ فهل تصريح ترامب في عبارة (غير ودّية) – والذي يُؤوَّل بتفسيرات عديدة – يدلّ على أنّ تركيا قد تصرّفت لوحدها دون العودة لأمريكا، وتريد التحكّم لوحدها بسوريا، أم أنّه – ترامب – مرتاح لدور تركيا مع إسرائيل في إضعاف إيران وتراجع الروس لمنافع في أوكرانيا؟

فهل من المعقول أنّ الدولتين لا علاقة لهما بذلك؟ فجميع التحليلات تشير إلى الضوء الأخضر منهما (أمريكا وإسرائيل)، لتُبعِدا الشُبهات عنهما أنّهما قد تعاملا مع قوة مصنّفة على لائحة الإرهاب العالمية ومطلوب رأس زعيمها، فالرئيس بايدن قال عنه: “لنرى الأفعال لا الأقوال”، أي يبدو أنّ “الجولاني” كان قد وعدهم بأنّه سيغيّر من أيديولوجيته الإسلامية المتشدّدة، ووعدهم بإقامة دولة مدنية تحترم التنوّع وحقوق الإنسان، وهنا سارع أردوغان لإرسال وزير خارجيته ورئيس استخباراته إلى دمشق لكسب المنافع وقطع الطريق أمام الاستحقاقات الكردية، فهل سيصطدم أردوغان مع “قسد” – القوة الحليفة لأمريكا – في حرب شاملة، وسيحلّ هذا التناقض بشكل ما بعد وصول ترامب للحكم في 20/يناير كانون الثاني /2025؟ فبعد سقوط دمشق نرى كيف أنّ أردوغان قد دفع بمرتزقته لاحتلال تل رفعت والشهباء ومن ثم منبج ليرتكبوا فيها جرائم ضدّ الإنسانية، واليوم يهدّد كوباني المحرّرة، المدينة التي كان يأمل أردوغان أن تسقط بيد داعش.

النظام التركي لا يُخفي أطماعه في الشمال السوري ويعمل بشتّى الوسائل لضمّها مثل لواء إسكندرون ويحلم بتحقيق الميثاق الملّي، واليوم أُتيحت له الفرصة الذهبية للتدخّل وفرض الهوية التركية – ليس على المناطق المحتلّة فحسب – بل على نظامها التعليمي في كامل سوريا، دعك من الهيمنة الاقتصادية ومنافع الاستثمارات والإعمار، فتعلن عن استعدادها لتشكيل الجيش وتدريبه وحتى في إعداد العقد الاجتماعي والدستور؛ وما تهديدها للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا إلّا مقدّمة لاحتلالات جديدة قد تصل للشمال العراقي، فهل ستستطيع الحكومة الجديدة الناشئة في دمشق وضع حدّ لتركيا وإيجاد الحلّ المناسب لإخراج الجيش التركي وحلّ مرتزقة تركيا ممّا يُسمَّى (الجيش الوطني)؟!

 

من حكومة الإنقاذ في إدلب إلى حكومة تصريف الأعمال لسوريا

كما بدا أنّ نظام الحكم “الجولاني” الذي كان في إدلب برئاسة “محمد البشير” سوف يُطبَّق هو نفسه على سوريا، وبنفس الأشخاص والأسلوب والذهنية لتصريف الأعمال حتى بداية آذار/2025 بدون ضمّ العديد من أطياف المعارضة والمكوّنات السورية المختلفة، فعندما ننظر إلى تشكيلة الحكومة – وإن كانت مؤقّتة لتصريف الأعمال – نجد أنّها من طيف واحد وغير مدروس؛ فمثلاً كيف يمكن لمهندس زراعي أن يصبح وزيراً للدفاع مع إقصاء المئات من الضباط الخبراء من المنشقّين؟!

وكذلك كيف يمكن استبعاد قوات “قسد”، التي تمتلك قوام الجيش المنظّم، والتي دحرت تنظيم داعش الإرهابي؟

وكذلك كيف يمكن تعيين شقيق قائد العمليات وزيراً للصحة؟ وتعيين امرأة واحدة فقط في تشكيل الحكومة، وهي لمكتب شؤون المرأة – ومن الطبيعي ألَّا يكون رجلًا -؟ ويبدو أنّ معظم الوزراء ملتحون ولديهم خلفية ثقافية إسلامية متشدّدة. بطبيعة الحال؛ هذه الحكومة مؤقّتة ولأجل التحضير لحكومة انتقالية – وربّما حكومة تكنوقراط – تحت إشراف أممي كما أعلنه اجتماع العقبة في الأردن.

وكيف ستصبح هيئة تحرير الشام سلطة جديدة وتنتقل من جماعة مصنّفة على أنّها إرهابية – حيث شوهدت العديد من التصرّفات المتشدّدة والعنيفة وشعارات داعش على أكتاف بعض عناصرها – إلى حكم دولة تسعى إلى الدعم والاعتراف الدولي؟! فهل سيستطيع الشرع إقناع بعض فصائله المتشدّدة بالاعتدال؟ هل الزيارات العربية وزيارات ممثّلين دوليين ووفد رفيع من وزارة الخارجية الأمريكية إلى دمشق، وفتح بعض السفارات، وإلغاء الجائزة الأمريكية لمن يُدلي بمعلومات عن مكان “أبو محمد الجولاني” ستكون تمهيداً لرفع اسمه وهيئته من تصنيف لائحة الإرهاب، ومن ثم نشر الأمن والرخاء كي يعود المهجَّرون من أصقاع العالم؟ هذا ما ستكشفه لنا قادم الأيام.

 

التحدّيات أمام إدارة “الشرع”

بعد إبراز شخصيته ذات الكاريزما والبراغماتية في التحوّلات، من السهل على الشرع تغيير مظهره في اللباس المدني، لكن الأصعب هو التحوّل من ذهنية الجماعة إلى ذهنية بناء الدولة، ومن سياسة وأسلوب حكومة الإنقاذ في إدلب إلى حكومة لكافة أنحاء سوريا بكل طوائفها وتنوّعاتها؛ فهل سيستطيع “الشرع” التخلّص من العنف والتشدّد والتطرّف في تطبيق الشريعة – كما نراه في تواجد فصائل غير سورية متشدّدة وربّما يُمنح عناصرها الجنسية السورية مكافأة لهم – وإلزام كلّ المجتمعات السورية متنوّعة الإثنيات والثقافات بتطبيق تلك الشريعة، أم أنّه سيحترم الخصوصيات ويترك الاختيار الحرّ للمكوّنات الأخرى؟! فسوريا لا يمكن أن تُدار كإمارة إسلامية – كما صرّح الشرع أنّ سوريا ليست كأفغانستان – بعد أن ظهر علمها خلف رئيس حكومة البشير، بالإضافة إلى أناشيد إسلامية جهادية في صباح دوام طلاب المدارس الابتدائية، وإجبار الطلاب وأساتذة كلية الطب في جامعة دمشق على أداء صلاة الغائب، وموضوع رفقة المحارم مع النساء وغطاء الرأس، وحرق شجرة الميلاد في السقيلبية عشية الاحتفال بعيد الميلاد، والأحداث الأخيرة التي شهدتها مناطق حلب والساحل في الاعتداء على الطائفة العلوية والتخوّف من تحوّلها إلى حرب أهلية طائفية في سوريا؛ فهل يمكن تغيير ذهنية (هتش) بنفس السهولة التي غيّر قائدها اسمه من (الجولاني إلى الشرع) بحجّة تقدّمه بالعمر وأصبحت لديه خبرة – كما صرح لشبكة (CNN) الأمريكية؟ وهل براغماتيته مؤقّتة لحين نيل الشرعية ومن ثم يعود لتطبيق الشريعة المتشدّدة؟

يتأمّل المراقبون الدوليون بحذر تصرّفاتهم المقبِلة في التغيير من حكم الاستبداد إلى الديمقراطية؛ فالثورة في سوريا أساساً بدأت تحت شعار الحرية والديمقراطية، وقدّم الشعب السوري في سبيل ذلك التضحيات الجِسام وآلاف الشهداء.

 

ترقّب وقلق

لن يقبل السوريون بعد اليوم أن يعيشوا ويتحوّلوا من حكم مُستبِدّ إلى حكم مُستبِدّ آخر، كما يُقال: “كالمستجير من الرمضاء بالنار”. وهناك ترقّب حذِر لدى جميع المراقبين الدوليين والمكوّنات والطوائف السورية والنساء لطبيعة نظام الحكم الجديد في سوريا؛ فلم يُسمَع من القادة الجدد أية كلمة مريحة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأي. فهل يُعَدُّ تعيين امرأة – بذهنية رجل – في إدارة مكتب شؤون المرأة كافياً لإحقاق حقوق النساء وحريّتهنّ؟!

إذاً؛ على الحكام الجدد أن يأخذوا بعين الاعتبار أنّ المجتمع السوري متنوّع عرقياً ودينياً وثقافياً، وما كان يتم تطبيقه في “إمارة إدلب” – بالرغم من ظهور معارضة له هناك أيضاً – لا يمكن تطبيقه على كافة أنحاء سوريا؛ فالمكوّنات الأخرى المنفتحة وما تسمعه من ممارسات مسؤولي بعض المحافظات الذين يضيّقون على حياة المواطنين، وخاصة النساء، تجعلهم ينفرون من التصرّفات العنيفة للفصائل المسلّحة، خاصة في الأيام الأولى وما شهدته من انفلات أمني وفوضى، وتناقض ما بين القرارات الارتجالية المتناقضة الخاصّة بالحياة المجتمعية؛ من فرض الشروط على التحرّك ولباس النساء والتحشّم والعمل الوظيفي وعدم الاختلاط، وخاصة رفض النساء القاضيات، وبين القرارات الأخرى الداعية لعدم المساس بالحرية المجتمعية ضمن الأخلاق، وأنّ الحرية الشخصية مكفولة للجميع؛ لذا؛ بات الناس يعيشون قلقاً ويتخوّفون من القادم.

 

إقليم شمال وشرق سوريا والإدارة الذاتية

كانت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا دوماً ما تدعو إلى الحوار، وأنّ يبتعد حكام دمشق – أيّاً يكونوا – عن سياسة الاقصاء والتهديد، وأنّ سوريا يجب أن تكون لكل السوريين مع احترام خصوصية كلّ مكوّن، وتحقيق العدالة للجميع دون التفرّد بالقرار وإقصاء الآخر، وأنّ سياسة الحلّ السلمي والحوار والتفاهمات هي التي ستوصل السوريين إلى برّ الأمان؛ فمناطق شمال وشرق سوريا اتّخذت منذ بداية الثورة (النهج الثالث) ما بين النظام وما تُسمّى بالمعارضة الإخوانية، وجاهدت في الدفاع عن الأمن والسلم الأهلي ضدّ كلّ المعتدين، وحارب أبناؤها تنظيم “داعش” وقدّمت آلاف الشهداء، وهزمت تنظيم داعش وخلَّصت البشرية من وحشيته. تبنّت إدارتها الذاتية الديمقراطية براديغما “الأمة الديمقراطية” وأخوّة الشعوب والتعدّدية، واحترام كافة مكوّناتها وتحقيق العدالة للجميع، ولتثبت أنّها تشارك الفرحة مع السوريين، رغم أنّ الشعب الكردي كان قد أعلن الثورة على نظام البعث منذ /2004/ حين كان الآخرون يُسبِّحون بحمد النظام لسنوات طوال، وكانت مناطق الإدارة الذاتية محرّرة من سيطرة النظام منذ إعلان ثورتها في عام 2012، ولتثبت كذلك أنّها مع قواتها الحامية “قسد” تسعى لتحرير وتوحيد الوطن ولا تدعو إلى الانفصال؛ قرّرت الإدارة الذاتية رفع علم الاستقلال فوق مؤسساتها الرسمية واحتفلت به، ولا تنفكّ تنادي بوحدة الأراضي السورية. لذا؛ يتطلّب من الحكام الجدد في دمشق، ولأجل بناء الدولة العصرية الديموقراطية الحرة، أن تتوافق مع الإدارة الذاتية وقسد وكافة المكوّنات، وتحترم الخصوصيات وتبتعد عن الحكم المركزي الصارم، وتقبل بإدارة كلّ منطقة لشؤونها بالطريقة التي تناسب مجتمعاتها، تحت هوية سورية واحدة جامعة، وكما يتطلّب منهم المسارعة إلى عقد مؤتمر وطني واسع يضم كافة أطياف المجتمع السوري دون إقصاء أحد؛ وذلك لبحث تلك الأمور دون إملاءات خارجية.

حتى الآن لم تحدث أيّ صدامات بين إدارة العمليات العسكرية وقوات سوريا الديمقراطية وقوات حماية المجتمع في حلب وباقي المناطق، بل جرت تفاهمات ودّية في تسليم المطار والتعاون معاً في إخراج المدنيين المحاصَرين في الشهباء، وكذلك تسليم إدارة مدينة دير الزور؛ إلّا أنّ بعض التصريحات من القيادة الجديدة حول تسليم الأسلحة وضرورة بسط سيطرتها على أنحاء البلاد لا تريح السكان في مناطق الإدارة الذاتية والتي ترى أنّها مع قوّتها العسكرية الحامية جزء من سوريا، وأنّها ستتوافق مع حكومة دمشق الحالية عندما يتم الاتفاق على شكل النظام الجديد ضمن دستور ديمقراطي يضمن الحقوق الأساسية للشعب الكردي الذي يمثّل ثاني أكبر قومية في البلاد.

 

المطالب الدولية من الحكام الجدد في سوريا

نتيجة موقع سوريا الجيوسياسي وتأثيرها على دول الجوار والقوى الإقليمية والعالمية وتناقض المصالح الداخلية والخارجية، يبدو أنّ مجمل المطالب التي تأملها القوى والمجتمع الدولي كي تصبح سوريا نموذجاً للتغيير في الشرق الأوسط الجديد، تتركّز في النقاط التالية:

**أن تكون سوريا دولة تعدّدية تضمّ جميع الأطراف والمكوّنات السورية من دون تمييز؛ وذلك كطريقة لضمان الاستقرار، وخاصة حقوق الكرد وغيرهم من المكوّنات السورية.

**أن تكون سوريا لجميع السوريين، وتوفير فرص متساوية لجميع المواطنين، والمشاركة في الحياة السياسية، وخلق بيئة سليمة لعودة اللاجئين.

**ضمان حرية المرأة في التعليم والعمل السياسي وحمايتها في المجتمع السوري الجديد.

**أن تكون سوريا دولة علمانية، وتفصل السلطة الدينية والسلطة السياسية عن بعضيها، لضمان حرية المعتقد والتعبير.

**كتابة دستور جديد يتضمّن حقوق كلّ المكوّنات والطوائف.

**بناء جيش سوري موحّد بعيداً عن الفصائلية الميليشياوية والطائفية تحت قيادة مركزية.

**إزالة دور إيران في سوريا بالكامل، وألَّا تكون سوريا ملاذاً للإرهابيين والجماعات المتطرّفة.

**بعد انقضاء الفترة الانتقالية؛ يجب إجراء انتخابات حرّة تحت إشراف الأمم المتحدة.

فهل سيستطيع الحكام الجدد الابتعاد عن الإملاءات التركية، والانتقال من الحكم المركزي المطلَق إلى التعدّدية، والاعتراف بالإدارة الذاتية الديموقراطية في شمال وشرق سوريا، وكذلك في الساحل والجنوب السوري، واحترام الخصوصيات المتنوّعة في إحياء تراث تلك المكوّنات ضمن حق حرية المعتقَد والتعبير، ومنع التمييز الديني والطائفي؟!

 

المهام السريعة والمطلوبة من الحكام الجدد

نتيجة الانهيار والسقوط السريع للنظام القمعي في سوريا، وفرحة المقاتلين وكل الشعب السوري بزوال الطاغية؛ حدثت حالة من الفوضى العامّة والفلتان الأمني في البلاد، كما حدثت تجاوزات ومظاهر غير حضارية بحق بعض شرائح المجتمع، ويجب وضع حدّ لذلك؛ من خلال تعيين عناصر شرطة مدنية لضبط الأمن والتعامل مع المواطنين بكل احترام ودراية، وإخراج المظاهر المسلّحة من المدن.

 وحتى نستطيع القول أنّ الثورة قد انتصرت وسيعمّ الأمن والأمان والعدالة في ربوع سوريا بعد زوال حكم الطاغية، ولرأب الصدع الذي أحدثته الحرب في سوريا بين كافّة المكوّنات الإثنية والدينية السورية المتنوّعة، يجب على (إدارة العمليات العسكرية والسياسية) القيام بما يلي:

 

أولاً: بشأن نظام الحكم

يجب القيام بخطوات عملية بعيداً عن الأيديولوجية الجهادية والجماعة الإسلامية، وبالتحديد عدم فرضها على باقي الجغرافيا السورية والمكوّنات المختلفة والمتنوّعة، وكذلك العمل على عدم ربط الأطراف بالمركز بالشكل القويّ الصارم، وعدم ممارسة المركزية المتشدّدة، ومنح الصلاحيات لتدير شؤونها الداخلية بنفسها، أي يكون نظام الحكم في البلاد نظاماً برلمانياً لامركزياً متناغماً بين اللامركزية الجغرافية والإدارية، وأن يتم التوافق على اسم الدولة والعلم والنشيد الوطني بحيث يعبّر عن جميع المكوّنات، وألَّا تُفرض الشريعة الإسلامية المتشدذدة بالقوة – كما نظام الملالي في إيران – بحيث تُحترَم حقوق وحرية المرأة، كما قال السيد احمد الشرع: “سوريا لن تكون أفغانستان” في إشارة إلى حرية تعليم المرأة وغيرها، وأن يُثبَّت ذلك ضمن دستور جديد.

 

ثانياً: بشأن الفصائل المسلحة وإنشاء جيش سوري موحَّد:

على إدارة العمليات العسكرية أن تدعو كافة الفصائل المسلّحة (وخاصة في الشمال السوري الواقع تحت النفوذ التركي) – التي تمارس الجرائم وتنتهك حقوق الإنسان – للاندماج في جيش سوري جديد وموحّد وتلتزم بتعليمات وتوجيهات القيادة الجديدة، وأن تتبع مصالح وأجندة الإدارة السورية الجديدة بعيداً عن الاملاءات التركية، وكذلك يجب عقد حوارات مع قيادة (قسد) حول كيفية انضمامهم إلى الجيش السوري؛ فهي تضمّ أكثر من مئة ألف مقاتل، وهم مدرَّبون ومنظّمون بشكل جيّد – وهي ركن أساسي من التحالف الدولي – وقوة منضبطة تتبع لمجلس قيادة موحّدة، وحمت مناطقها لأكثر من عشر سنوات بكل وحداتها المتنوّعة، ومن الممكن أن تكون تلك القوات نواة للجيش السوري الجديد.

 

ثالثاً: بشأن الإدارات الذاتية (المحلية والمجتمعية)

حتى نستطيع القول أن الثورة قد انتصرت، على القيادة الجديدة ممارسة المرونة والانفتاح على الحوار لإيجاد حلول سياسية لقضايا المجتمع المختلفة – بعد سنين طويلة من تداعيات الحرب -، وعليها أن تبدأ بالاعتراف بحق الشعب الكردي في تعلّم وممارسة لغته الأم واعتبارها اللغة الرسمية الثانية في البلاد وترسيخ ذلك في الدستور الجديد، وحقّهم في اختيار النظام المناسب لهم حسب العقد اجتماعي الذي وافقت عليه كافة المكوّنات الأخرى المتواجدة في تلك المناطق، واحترام خصوصيات باقي الفئات على الجغرافيا السورية الأخرى في حقّهم – من خلال مبادئ فوق دستورية – في إدارة وتنظيم مجتمعاتهم بالطريقة المناسبة للحفاظ على تراثهم وثقافتهم، من التركمان والأرمن والمسيحيين والإيزيديين والدروز والعلويين وغيرهم، في اتباع هيكلية نظام الأقاليم أو الولايات أوالمحافظات (حسب ما يتّفق عليه السوريون في المؤتمر الوطني العام).

 

رابعاً: الهوية الوطنية الجامعة

أظهرت بعض الأنباء أنّ هناك مشاورات تقوم بها الحكومة الجديدة لأجل التحضير لعقد مؤتمر للحوار الوطني، ليختار مجلسا انتقاليا لإعداد دستور جديد لسوريا، ولكن لم يتم الإعلان بعد عن كيفية اختيار المدعوّين، ويجب أن يكون بتمثيل ومشاركة جميع المكوّنات السورية بلا استثناء، لرسم مستقبل البلاد، كما يعلنها مراراً قائد الإدارة السورية الجديدة السيد أحمد الشرع، كما يلزم الإقرار في المؤتمر بمبادئ المواطنة المتساوية وتبنّي دستور (عقد اجتماعي) مؤقّت – لحين كتابة دستور دائم – في الفترة الانتقالية والتي ربما قد تطول؛ يضمن هذا العقد المساواة بين جميع المواطنين السوريين، بغضّ النظر عن القومية والدين والمذهب، والاعتراف بالتنوّع الإثني والثقافي واللغوي في البلاد، فالمجتمع قال كلمته في تظاهرة ساحة الأمويين في دمشق حول علمانية الدولة ومشاركة النساء في السياسة، حيث دعا إليها “تجمّع الشباب المدني” في 20/12 من شهر كانون الأول الجاري للمطالبة بدولة ديموقراطية مدنية، ورفع المتظاهرون لوحات كُتِبت عليها الشعارات التالية: (نريد دولة ديموقراطية لا دينوقراطية – نحو دولة قانون ومواطنة – لا وطن حراً دون نساء أحرار). (2) فالعقد الاجتماعي عليه التأكيد على الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكافة المكوّنات بما يضمن المشاركة الفعّالة للجميع في إدارة شؤونهم الخاصة والعامة في كل البلاد؛ بحيث لا يتم إلغاء وصهر الهوية الإثنية والثقافية الخاصة مقابل الهوية الوطنية العليا الجامعة.

 

خامساً: بشأن مسألة حلّ القضية الكردية ونموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية

بما أنّ الكرد هم ثاني قومية كبرى في البلاد، وهم جزء ومكوّن تاريخي وأساسي من النسيج السوري – كما أكّده القائد الجديد -، حينها لا يمكن النظر إليهم على أنّهم أقلية – أساساً مصطلح الأقليات هو انتقاص – بل لهم تاريخ طويل وساهموا في حضارات المنطقة، ولهم باع كبير في مقارعة كافة المستعمرين والغزاة وفي بناء واستقلال سوريا، لذا؛ يتطلّب أن يتم الحوار والتفاهم معهم بالشكل الذي يضمن حقوقهم الأساسية ضمن الوطن السوري المشترك للجميع، وأن يكون لهم دور في بناء دستور عصري وجديد – وليس ترقيع القديم – بما يعكس ثقلهم الاجتماعي والسياسي والعسكري والاقتصادي. لذا؛ يلزم الدخول في حوار سريع ومباشر مع ممثّلي الإدارة الذاتية الحالية في شمال وشرق سوريا، لإيجاد صيغة لدمج تلك المناطق في عملية وحدة البلاد وبناء العملية الإنمائية والاقتصادية لوضع مركبة البناء والإصلاح في سوريا على سكّة الانطلاق نحو التصالح والتسامح والسلم الأهلي المجتمعي.

بناءً على المستجدّات؛ يُطلَب من الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا أن تعقد مؤتمرها الوطني الكردي، وترتّب بيتها الداخلي، وتشكّل وفدها الجامع مع كافة المكوّنات في شمال وشرق سوريا بأسرع ما يمكن، وبيان مطالبها للإدارة الجديدة وللمجتمع الدولي، وعلى “قسد” الإسراع في التفاهم مع الإدارة الجديدة في دمشق والوصول لطبيعة العلاقة بينهما، لوضع حدّ للتهديدات التركية المهيمنة على الأراضي والشأن السوري، وسدّ ذريعتها للتدخل السافر في شؤون سوريا الداخلية، لتكون الإدارة الذاتية الديمقراطية الناجحة نموذجاً عصرياً يمكن تعميمه على كامل الأراضي السورية.

 

سادساً: بشأن التهديدات التركية وتدخّلها في الشأن السوري:

لأنّ رياح التغيير في المنطقة تهبّ لصالح الكرد؛ فإنّ النظام التركي الذي لديه الفوبيا الكردية، يقف في وجه تلك الرياح، فيقوم بشتّى الوسائل كي لا يحصل الكرد على حقوقهم العادلة، ولا تنفكّ الدولة التركية عن تهديداتها، وكانت تستميت للقاء الأسد لأجل ذلك، فهي اليوم من أولى الدول التي تتسارع للذهاب إلى دمشق، وتحضّ حكومة دمشق على إنهاء الإدارة الذاتية وقوات قسد، بحجّة إنشاء منطقة عازلة على طول حدودها مع سوريا، وترى تركيا أن ّوجود قوات سوريا الديمقراطية (قسد) خطر يهدّد أمنها القومي – مع أنّ قوات (قسد) لم تطلق طلقة واحدة من جانبها على تركيا- وترى أنّها إرهابية وانفصالية، مع أنّه لا قسد ولا مسد (الممثل السياسي لقسد)، ولا الإدارة الذاتية – التي تضمّ كافة المجتمعات والمكونات هناك – ليس في أجنداتها الانفصال أو التقسيم، وهي التي حمت مناطقها والعالم من هجمات “داعش” الإرهابية وقضت عليهم جغرافياً، وضحّت لأجل ذلك بخيرة شبابها؛ بل ترى أنّها جزء من الوطن السوري وقوات حمايتها هي داعمة لجيش سوريا الجديدة، والاقتصاد الغنيّ لمناطقها إنّما هو ملك لكافة الشعب السوري وسيوزّع عليهم بشكل عادل ومتساوٍ (كما يصرّح  قادتها). وعلى الدولة التركية الجارة أن تبتعد عن سياسة الوصاية والهيمنة على كيفية بناء وتأسيس سوريا الجديدة الخارجة من هول حربها المدمِّرة لكلّ شيء والغارقة في مشاكلها، وعلى تركيا ألَّا تتصرف كمندوب سامٍ يملي شروطها ويفرض هيمنتها وأجنداتها العثمانية الجديدة، وخير ما تقوم به تركيا هو الانسحاب من الأراضي السورية التي تحتلّها وترك السوريين لبناء وطنهم كما يشاؤون ويحلّوا مشاكلهم بأنفسهم دون تدخّل خارجيّ.

*المراجع

-وكالة “نورث بريس” 18/12/2024

-المرصد السوري لحقوق الإنسان 20/12/2024


28/12/2024