×

  سوريا و الملف الکردي

  عمر طاشبينار: الولايات المتحدة وتركيا والكرد: أولويات متضاربة في سورية الجديدة



 

*مركز الامارات للسياسات

 

نقاط أساسية:

**تتطلب مقاربة مسألة "قوات حماية الشعب" الكردية-"قسد" من واشنطن استخدام استراتيجية متعددة الأوجه توازن بين أهداف مكافحة الإرهاب مع ضرورة الحفاظ على علاقات ثنائية قوية مع أنقرة.

**اتسمت إدارة بايدن بالوضوح في دعمها لـ "قسد"، حيث تمحور تصورها للتهديد الرئيس في سورية حول "داعش". لكنَّ عودة ترمب تُثير الآن تساؤلاً حول المدة الزمنية التي ستواصل فيها واشنطن تقديم دعمها.

**إذا تمكّن أردوغان من إقناع ترمب بأن قوة مُشتركة من الجيش التركي والجماعات السورية الموالية لأنقرة يُمكن أن تخوض المعركة ضد "داعش" وتحتوي خطر عودة الجهاديين، فإن من المرجح أن تفقد "قسد" الدعم الأمريكي.

**ستجد الإدارة السورية الجديدة نفسها مُشتّتة بين الأولويات المُتضاربة لواشنطن وأنقرة. ومع أنَّه سيكون لدى واشنطن نفوذ في قضايا حاسمة، مثل رفع العقوبات، إلا أن النظام الجديد في دمشق قد يكون أكثر ميلاً نحو أولويات تركيا.

 

مستقبل العلاقات

بعد رحيل نظام الأسد وتولي حكومة تقودها «هيئة تحرير الشام» زمام الأمور في دمشق، فإن مصير تنظيم «داعش» والكرد في سورية سيؤثر كثيراً في طبيعة النظام السوري الجديد، وفي مستقبل العلاقات الأمريكية-التركية أيضاً.

وقد دخل «الجيش الوطني السوري»، المدعوم من تركيا، في مواجهة مع «قوات سورية الديمقراطية» (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، والتي أدت دوراً حاسماً في دحر تنظيم «داعش» واحتوائه. وتَعتبر أنقرة «قسد» امتداداً لـ «حزب العمال الكردستاني» المحظور في تركيا، والذي تَعتبره واشنطن تنظيماً إرهابياً أيضاً، إلّا أنها تُفرِّق بين المجموعتين الكرديتين ويسمح هذا التفريق لواشنطن بتبرير دعمها لـ «قسد» في سورية.

ووضعت المليشيات الكردية في خلال معظم الحرب في سورية السيطرة على مناطقها في مُقدمة أولوياتها وليس القتال ضد نظام الأسد. واعتَبرت الولايات المتحدة الكرد في سورية حلفاءَ طبيعيين في الحرب ضد تنظيم "داعش" الذي احتل مساحات واسعة من سورية والعراق عام 2014. وعملت واشنطن على تدريب وتسليح "وحدات حماية الشعب" الكردية التي اتحدت مع فصائل أخرى لتشكيل "قسد".

واستفادت "قسد" من الفوضى - التي شكلتها الحرب في سورية والحرب ضد "داعش"– للسيطرة على نحو 25-30% من الأراضي السورية الواقعة شمال شرقي الفرات. وتمنح سيطرة "قسد" على أجزاء مهمة من شمال شرقي سورية، بما في ذلك حقول النفط المهمة والأراضي الزراعية، نفوذاً جوهرياً في المشهد الجيوسياسي السوري.

وتمكَّن كرد سورية - الذين يصل عددهم إلى 2.5 مليون نسمة، بنسبة نحو 10% من سكان البلاد – من تحديد المناطق الخاضعة لهم في خلال الحرب، إلّا أنهم يخشون على وضعهم في عهد حكومة ما بعد الأسد بقيادة "هيئة تحرير الشام"، سيما في ظل قلقلهم من توقف الولايات المتحدة عن دعمهم، في تكرار للتجربة التاريخية للكرد التي توضح كيف استخدمتهم القوى الكبرى ثم تخلت عنهم عند انتفاء الحاجة إليهم.

 

المقاربة الأمريكية بين كرد سورية وأنقرة

تتطلب مقاربة مسألة "قوات حماية الشعب" الكردية-"قسد" من واشنطن استخدام استراتيجية متعددة الأوجه توازن بين أهداف مكافحة الإرهاب مع ضرورة الحفاظ على علاقات ثنائية قوية مع أنقرة.

 ويتضمن هذا انخراطاً دبلوماسياً متواصلاً، وتعاوناً عسكرياً استراتيجياً، وفهماً دقيقاً للمشهد الجيوسياسي الإقليمي. ويُضيف التحول الجيوسياسي الأخير في سورية مستوىً جديداً من التعقيد بالنسبة لواشنطن فيما يتعلق بما إذا كانت "قوات حماية الشعب" الكردية-"قسد" ستتمكن من الاحتفاظ بسلاحها ووضعها شبه المستقل في إطار دستوري. وأوضح مظلوم عبدي، قائد "قسد"، أنه مستعد لحل "قسد" وضم قواتها، التي يصل قوامها إلى 100 ألف مقاتل، للجيش السوري الجديد بقيادة السلطات الجديدة في دمشق، لكنَّه يرغب أولاً في التفاوض حول حقوق الكرد الذين يشكلون نسبة 10% من سكان سورية. وأضاف عبدي: "نريد أن تكون سورية لا مركزية تستند إلى مبادئ الديمقراطية التعددية وتشكيل مجالس محلية تتقاسم بعض هذه الصلاحيات بالاتفاق مع السلطة المركزية".

وفي الوقت الذي تدرك الولايات المتحدة إسهام القوات الكردية في تعزيز الأمن الإقليمي من طريق دورها في محاربة "داعش" في سورية، إلّا أن ذلك لا يصل إلى حد تبني شبه استقلال كردي في المشهد السياسي السوري الناشئ.

 ويبدو أن المقاربة الأمريكية تركز على الحفاظ على الأمن والاستقرار، ومنع عودة "داعش"، وإدارة العلاقات الإقليمية المعقدة بدلاً من دعم ترتيبات سياسية محددة داخل سورية.

وقد سارعت إدارة بايدن إلى الدخول في حوار مع "هيئة تحرير الشام"، وهي ترغب في الحفاظ على نفوذ على النظام الجديد في دمشق. وكان وفد أمريكي برئاسة باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية لشون الشرق الأوسط، قد التقى أحمد الشرع في 20 ديسمبر، وأفادت تقارير إعلامية بأن وفداً من وزارة الخارجية الأمريكية يضم ممثلين من إدارة ترمب المنتخبة قد زار دمشق مؤخراً أيضاً.

تُدرك السلطة الجديدة في دمشق بقيادة أحمد الشرع أن شرعيتها الدولية تتعزز بإزالة هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية، ورفع العقوبات المفروضة على سورية للبدء بعملية إعادة الإعمار.

ومع أن إدارة بايدن اتخذت خطوات إيجابية تجاه إدارة الشرع من طريق إلغاء المكافأة المالية التي كانت عرضتها سابقاً لمن يساعد في القبض عليه، وتخفيف وزارة الخزانة الأمريكية العقوبات على الأنشطة والخدمات الأساسية في سورية لمدة ستة أشهر، إلا أن التوجه في واشنطن لا يزال يرتكز على الانتظار لرؤية الأفعال على الأرض، وسيعتمد الكثير من الخطوات على الأرضية المشتركة التي سيتم التوصل إليها مع الإدارة الجديدة في سورية.

 ففي حال تفجُّر صراع أهلي أو إقامة نظام إسلامي غير شامل ولا يحترم حقوق الأقليات والمرأة، فإن من غير المرجح أن ترفع واشنطن الهيئة من قائمة الإرهاب أو أن تتلقى سورية أي مساعدات أو استثمارات ضرورية لإعادة بناء سورية ولعودة ملايين اللاجئين الموجودين في الشرق الأوسط وأوروبا إلى بلادهم. كما أن المطالب الأمريكية تشمل ضمان عدم قدرة إيران على استخدام سورية جسراً لدعم "حزب الله" في لبنان.

 

 

أولوية تركيا في سورية

 

تنقسم أولوية تركيا في سورية إلى شقين:

 

أولاً،

اعتراف "هيئة تحرير الشام" بأن "قوات حماية الشعب" الكردية كيان غير شرعي وحلها نهائياً. وتخشى أنقرة من أن إقامة حكم ذاتي للكرد في سورية قد يغذي المشاعر الانفصالية في أوساط الكرد في تركيا الذين يفوق عددهم عدد الكرد في سورية كثيراً، لذلك فإن أنقرة مصممة على عدم التهاون مع مجموعة تخوض معها حرب منذ 40 سنة في أن تصبح السلطة المهيمنة عبر الحدود. ومع أن "قسد" لا تُشَكِّلُ تهديداً عسكرياً لتركيا، إلّا أن نجاحها سيعني هزيمة لأنقرة. ويبدو أن تركيا منفتحة على صيغة مستقبلية تسمح بدمج القوات الكردية ضمن الجيش السوري في سياق دولة موحدة في سورية تتمتع بوحدة أراضيها ووحدتها الوطنية.

 

ثانياً،

 ترغب أنقرة في عودة أكثر من 4 ملايين مواطن سوري لجأوا إلى أراضيها منذ عام 2012. كما يبدو أن تركيا تستغل استعداد زعيم "حزب العمال الكردستاني" عبدالله اوجلان المسجون لديها لنزع سلاح الحزب وجناحه في سورية، "قوات حماية الشعب" الكردية، مقابل عفو محتمل عنه. لذلك فإن هذا السيناريو الذي يُعَدُّ حُلماً بالنسبة لأردوغان سيمثل تقدماً جوهرياً وذلك بعودة السوريين إلى بلادهم وإلقاء "قوات حماية الشعب" الكردية و"حزب العمال الكردستاني" السلاح.

ولعل من غير المؤكد إذا ما كان مظلوم عبدي، قائد "قوات حماية الشعب" الكردية، سيحذو حذو أوجلان بالدعوة إلى إلقاء السلاح، لأن التنظيم السوري يتمتع بالاستقلال العملياتي عن الحزب ويَعتبر أوجلان زعيماً شرفياً. ويُعَدُّ عبدي قائداً عسكرياً أثبت قدرات لافتة في الحرب ضد "داعش" وتمكن لغاية الآن من الحفاظ على دعم القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى.

 

منظور واشنطن لتهديد "داعش"

اتسمت إدارة بايدن بالوضوح في دعمها لـ "قسد"، حيث تمحور تصورها للتهديد الرئيس في سورية حول "داعش". ونقلت شبكة "سي إن إن" عن مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان قوله في 22 ديسمبر 2024 إن "أكبر مصدر للقلق هو عودة ظهور داعش".

 لكنَّ عودة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب تثير الآن تساؤلاً حول المدة الزمنية التي ستواصل فيها واشنطن تقديم دعمها. وكان ترمب في خلال فترة رئاسته الأولى قد أصدر أوامره بسحب القوات الأمريكية من شمال سورية، ما ترك "قسد" عرضة لتوغل من جانب تركيا التي تحتفظ بآلاف الجنود في شمال سورية وشنّت عدة هجمات ضد المسلحين الكرد على مدى العقد الماضي.

 واحتج كبار المسؤولين الأمريكيين على ذلك القرار، بما في ذلك وزير الدفاع آنذاك جيمس ماتيس، الذي قدم استقالته.

وكشف "البنتاغون" في 19 ديسمبر 2024 عن وجود نحو 2,000 جندي أمريكي في شرق سورية، وهو رقم يصل إلى أكثر من ضعف عدد القوات البالغ 900 جندي المعلن سابقاً.

وستواجه إدارة ترمب المقبلة اختباراً مبكراً في مجال السياسة الخارجية حول الاحتفاظ بوجود القوات الأمريكية في كل من سورية والعراق. وتستعد واشنطن خلال عام 2025 إلى تقليص وجودها العسكري في العراق من طريق وقف مهمة التحالف الدولي هناك بحلول سبتمبر 2025، في الوقت الذي ستبقى فيه بعض القوات لغايات التعاون الأمني القائم بين الدولتين.

 وتواصل القوات الأمريكية الموجودة في سورية مهمتها دون موعد محدد لنهاية هذه المهمة. وأشار ترمب مرة أخرى في نهاية ديسمبر 2024 إلى عدم رغبته في استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سورية بقوله على موقع "إكس": "يتعين ألّا يكون للولايات المتحدة أي علاقة بذلك. لا تتورطوا!"

ويمكن القول إن الرئيس المنتخب ترمب سيتلقى إحاطة من قادة القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى حول الحاجة إلى الاحتفاظ ببعض الوجود العسكري في العراق وسورية لضمان عدم تَحوّل تنظيم "داعش" مرة أخرى إلى تهديد كبير. وبسبب الهجمات الإرهابية البارزة، مثل الهجوم الأخير في نيو أورليانز في الولايات المتحدة، والهجمات السابقة في عام 2024 في إيران وروسيا وأفغانستان، والمُخطّطات الإرهابية التي أُحبِطَت، تُركّز الكثير من وسائل الإعلام العالمية الآن مرة أخرى على تنظيم "داعش". ويقول كولين كلارك من مجموعة صوفان (Soufan Group)، وهي شركة استشارية تُركّز على قضايا الأمن العالمي: "يؤكّد هجوم نيو أورلينز الإرهابي ببساطة ما كان يقوله الكثيرون في أجهزة مُكافحة الإرهاب في خلال العام الماضي، وهو أن داعش لا يزال يُشكّل تهديداً عنيداً ومُستمراً ولن يتلاشى ببساطة".

 ويشعر البنتاغون بقلق بالغ من أن تنظيم "داعش" في سورية يُعيد بناء نفسه ببطء وصبر. وحتى مع انحسار قوة التنظيم في سورية على مدى السنوات الخمس الماضية، فقد حافظ التنظيم على وجوده على نحو مُستمر في صحراء البادية الوسطى من البلاد، وأظهر من حين لآخر مؤشّرات على عودة ظهوره.

 وفي يناير 2022، اقتحم مقاتلو داعش سجناً في الحسكة، ما أدّى إلى اندلاع معركة استمرت 10 أيام قُتل فيها المئات من مقاتلي التنظيم، لكن تم تحرير المئات من أفراد التنظيم أيضاً.

 ولا يزال التنظيم يضم عدة آلاف من المُقاتلين، ومن المُرجّح أن يستغل الفوضى الحالية لتجنيد أعضاء جُدد، بما في ذلك على الأرجح مُقاتلين متشددين شاركوا في الهجوم الأوسع لهيئة تحرير الشام، ولكنهم يختلفون مع توجّه زعيم التنظيم أحمد الشرع نحو الاعتدال والاندماج والبراغماتية. فمنذ سقوط نظام الأسد، شنَّ الجيش الأمريكي عدة غارات جويّة ضد مواقع داعش في سورية. وفي الموجة الأولى من الغارات في أوائل ديسمبر، هاجمت قاذفات من طراز "بي 52"، ومُقاتلات من طراز "إف-15"، و"إيه-10 وورثوغ" 75 هدفاً ضم قادة وعناصر ومُعسكرات تدريب تابعة لداعش.

وبعد أسبوع، قتلت الغارات الجوية الأمريكية كذلك العشرات من مُقاتلي التنظيم، واستهدفت المزيد من العناصر ومُعسكرات التدريب. ومؤخراً استهدفت ضربات صاروخية أمريكية وفرنسية مُنفصلة مواقع لداعش في سورية.

  وفي 26 ديسمبر، أعلنت القيادة العسكرية الوسطى الأمريكية أن الولايات المتحدة نجحت في القضاء على القيادي في تنظيم داعش، أبو يوسف، في مُحافظة دير الزور في أحدث موجة من الضربات الدقيقة ضد قيادة التنظيم.

وتتمثّل نقطة الضعف الأكثر وضوحاً اليوم في مُعسكرات الاعتقال ومراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها المئات من مُقاتلي داعش، فلا يزال نحو 9000 مُقاتل من داعش، وما يزيد عن 40,000 من أفراد أسرهم، بمن فيهم النساء والأطفال، في هذه المُعسكرات، مُحتجزين في ظروف مُزرية، فيما تتولّى "قسد"  حراسة هذه المُعسكرات.

 

هل سيُقنِع أردوغان ترمب بالانسحاب من سورية؟

على الرغم من وجود تنظيم داعش في سورية، فإن أنقرة تَعتبر الدعم الأمريكي لقوات سورية الديمقراطية غير ضروري، وتُحمّل واشنطن مسؤولية دعم جماعة إرهابية كردية وعدم الوفاء بوعدها بإنهاء تعاونها مع هذه الميليشيا الكردية. وقد حاولت الولايات المتحدة بالفعل في كثير من الأحيان تهدئة الغضب التركي من طريق تصوير الدعم العسكري للجماعة الكردية على أنه "مؤقت وتكتيكي وعابر".

  وبالنظر إلى تفضيل الرئيس المنتخب ترمب إنهاء هذا التدخّل في سورية، فمن المُحتمل أن تترك إدارة ترمب الجزء الأكبر من المعركة ضد داعش في سورية للجيش التركي.

 وليس من الصعب تخيّل أن يُقنع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ترمب بأنه في مُقابل سحب القوات الأمريكية من سورية سيواصل الجيش التركي السيطرة على تنظيم داعش.

وكان وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أول دبلوماسي يُسافر إلى سورية للقاء الشرع، ما يؤكّد ما يعرفه الكثيرون بالفعل، وهو أن أنقرة تتمتّع بأكبر قدر من النفوذ على هيئة تحرير الشام، وستكون اللاعب الرئيس في السياسة السورية، وستُشكّل المرحلة المُقبلة في البلاد.

 وقد قال فيدان مؤخراً: "عندما تنظر إلى هذا الأمر من منظور المصالح الأمريكية، وعندما تقوم بالحسابات، فأيهما أكثر أهمية: تركيا، أم جماعة إرهابية مثل حزب العمال الكردستاني؟ سيحسم السيد ترمب حساباته على الفور".

 

قلق القيادة الكردية

 تشعر قيادة الكرد بالقلق من أنها لن تكون قادرة على الاعتماد على دعم واشنطن في المُستقبل المنظور، وهو قلق مشروع يعتبره الكرد بمنزلة تهديد وجودي. وإذا تمكّن أردوغان من إقناع ترمب بأن قوة مُشتركة من الجيش التركي والجماعات الموالية لأنقرة مثل الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام نفسها، يُمكن أن تخوض المعركة ضد تنظيم داعش وتحتوي خطر عودة الجهاديين، فإن من المرجح أن تفقد "قسد" الدعم الأمريكي.

 

الاستنتاجات

على رغم هذه الديناميات التي تصب في صالح أنقرة، فإنه من السابق لأوانه القول بأن الإدارة السورية الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام ستخضع لسيطرة تركيا، وأن الولايات المتحدة ستسحب قواتها من سورية بسرعة. وكما يحدث غالباً في النظام الأمريكي، ستتلقّى دمشق إشارات مُتضاربة من واشنطن بسبب المداولات الداخلية وعملية صنع السياسات التي قد تتسم بالفوضى.

وعلى الأرجح سيقنع البنتاغون البيت الأبيض بأن الانسحاب الأمريكي السريع من البلاد سيكون قراراً خاطئاً وسيعرِض بدلاً من ذلك عملية انسحاب تدريجي ومشروط من سورية في خلال عامين. ومن المُرجّح أن يكون نجاح النظام السوري الجديد في مُحاربة داعش، وفي احتواء الكرد والأقليات الأخرى على أساس الحكم الرشيد، هي المقاييس الأمريكية الرئيسة للانسحاب الكامل.

وبالتالي ستجد الإدارة السورية الجديدة نفسها مُشتّتة بين الأولويات المُتضاربة لواشنطن وأنقرة. ومن المُحتمل أن تُصر وزارة الخارجية بقيادة ماركو روبيو والبنتاغون بفعل ضغط القيادة العسكرية الوسطى الأمريكية، على منح بعض الاستقلالية العملياتية لقوات وحدات حماية الشعب الكردية أو قوات سورية الديمقراطية في قتالها ضد داعش بدعم عسكري أمريكي لمعظم عام 2025 كمعيار مشروط للانسحاب الجزئي. وإذا أثبتت الوحدات العسكرية السورية الجديدة قُدرتها على مُحاربة داعش بفعالية بمفردها، فيُمكن للولايات المتحدة عندها أن تُكمل انسحابها في نهاية عام 2026.

 وإذا أصبح مثل هذا الانسحاب الأمريكي المشروط والتدريجي سياسةً لإدارة ترمب، فمن المُرجّح أن نشهد تضارباً بين الأولويات التركية والأمريكية في سورية، والسبب بسيط حيث ستضغط أنقرة على أحمد الشرع لحل الميليشيا الكردية وإنهاء مشروع الحكم الذاتي الكردي وفرض سلطة مركزية على موارد شمال شرقي سورية الغنية بالنفط والغاز والزراعة.

وبما أن قيادة هيئة تحرير الشام تتمتّع بعلاقات قوية مع أنقرة، ولأنه من الطبيعي أن تكون راغبة في فرض سيطرتها على جميع الميليشيات في سورية، فقد تكون أكثر ميلاً نحو أولويات تركيا.

 

نفوذ في القضايا الحاسمة

ومع ذلك، سيكون لدى واشنطن أيضاً نفوذ في القضايا الحاسمة، مثل رفع العقوبات وشطب تصنيف هيئة تحرير الشام من قائمة المُنظّمات الإرهابية، وهو الأمر الذي سيكون حاسماً في تمكين سورية من تلقّي المُساعدات الخارجية من المُنظّمات الدولية مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

والأهم من ذلك أنه سيكون من المُستحيل على النظام الجديد تلقّي استثمارات أجنبية طالما أن العقوبات ستظل قائمة. كما أن الولايات المتحدة هي أكبر مانح للمُساعدات الإنسانية للأزمة السورية، حيث خصّصت واشنطن أكثر من 17.8 مليار دولار منذ عام 2012 للجهود الإنسانية في سورية وفي الدول المُجاورة التي تستضيف اللاجئين السوريين.

ومن جانبه، سيكون ترمب عرضة لضغوط من الكونغرس الأمريكي، حيث يوجد للكرد حلفاء أقوياء مثل السيناتور ليندسي غراهام، العضو الجمهوري عن ولاية كارولينا الجنوبية، الذي حذّر مؤخراً في بيان على وسائل التواصل الاجتماعي من أنه مُستعد للدفع باتجاه فرض عقوبات اقتصادية على تركيا إذا هاجمت القوات الكردية، قائلاً إن ذلك "سيؤدّي إلى هروب مُقاتلي داعش من السجن".

 

التحرك التركي ضد مصالح أمريكا

 وأضاف: "إذا قامت تركيا بعمل عسكري ضد القوات الكردية في سورية، فإن ذلك سيُعرّض مصالح أمريكا للخطر بشكل كبير". وبالمثل، يقول كريس فان هولين، عضو مجلس الشيوخ المؤثّر في الحزب الديمقراطي: "يجب أن نُبقي تركيزنا على قائمة مصالح أمننا القومي، وعلى رأس تلك القائمة منع عودة ظهور داعش. وسيكون من المُهم بشكل خاص أن نواصل دعم شركائنا، الكرد السوريين، وأن نوضّح لهم بأننا لن نتخلّى عنهم في هذا الأمر". وهنا من المهم الانتباه لدلالة خطوة دعوة مظلوم عبدي للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس ترمب في 20 يناير.

 

اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس ختاما

 يتعين ألا ننسى أيضاً أن اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس مؤيد بشدة للكرد؛ فالدعم للكرد في إسرائيل يتخطّى الاستقطاب السياسي بين الحزبين؛ فحتى اليسار الإسرائيلي الذي ينتقد نتنياهو يعتقد أنه يتعيّن على الولايات المتحدة دعم الكرد، وأنه ينبغي على إسرائيل أيضاً مُساعدة الكرد السوريين.

 وكما تقول صحيفة "هآرتس" العبرية: "يمكن إقناع أصدقاء إسرائيل في الكونغرس الأمريكي بالضغط من أجل وقف إطلاق النار أو إقناع الأمريكيين بالبقاء في شمال سورية وعدم التخلّي عن الكرد عندما يُصبح دونالد ترمب رئيساً. ويُمكن مُساعدتهم بشكل كبير في مجال الاستخبارات والحرب الإلكترونية والسلاح".

*عمر طاشبينار، باحث غير مقيم في مركز الإمارات للسياسات، وأستاذ الدراسات الأمنية في كلية الحرب الوطنية بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وزميل بحث أول في معهد بروكينجز.


12/01/2025