×

  سوريا و الملف الکردي

  الكرد ضمن أولويات واستراتيجيات الغرب في الشرق الأوسط



 

*مركز روجافا للدراسات

منذ الخامس من نوفمبر تشرين الثاني من العام المنصرم يشهد العالم أحداثاً متسارعةً بشكل جنوني، وعلى جميع الأصعدة، وخاصةً على الصعيد السياسي والدبلوماسي والاقتصادي؛ فبعد فوز الجمهوريين بكرسيّ الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وعودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدأ العالم أجمع بترتيب أوراقه من جديد وإعادة هيكلة لما هو قائم على أرض الواقع، من حرب أوكرانيا، إلى الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في غزة، وسقوط النظام السوري في دمشق ووصول القوى الإسلامية الراديكالية إلى السلطة المؤقّتة، والملف الإيراني والمحاور المرتبطة به وسقوط أهم أذرع إيران في المنطقة، أمّا الباقون فملفّاتهم على المحكّ.

    كل هذه الملفات ستشملها التغيّرات بعد العشرين من يناير/كانون الثاني الجاري، وإن لم يكن بشكل كلّي فإنّه سيكون بشكل جزئي على أقل تقدير، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة الأمريكية دولة مؤسسات واستراتيجيات وعلاقات دولية لا تتغيّر بتغيّر الرؤساء فيها، إلّا أنّه مع وجود رئيس مثل دونالد ترامب يجب على الجميع أن يكون مستعدّاً لأيّ مفاجأة قد تحصل ما بين ليلة وضُحاها، خاصةً أنّه – ترامب – لم يعد لديه ما يخسره في هذه الدورة؛ فهي الدورة الثانية والأخيرة له كرئيس.

 

هي الاستراتيجية الخارجية للسياسة الأمريكية؟

تُعَدُّ الولايات المتحدة الأمريكية من اللاعبين الأساسيين في قيادة العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أمّا بعد نهاية الحرب الباردة ما بين القطب الغربي الرأسمالي والقطب الشرقي الاشتراكي بانتصار الأوّل، فقد أصبح الغرب هو القطب الأول أو الأصح الوحيد الذي يدير العالم وخاصةً اقتصادياً، الاقتصاد الذي يشكل الركن الأساس ضمن الثالوث القائم مع السياسة والدبلوماسية، تعتمد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية على أربعة ركائز في التعامل مع الآخر:

**القوة: والتي تتمثّل في حلف الشمال الأطلسي (الناتو).

**الحلفاء: ويتمثّلون في إسرائيل، المملكة البريطانية المتحدة، دول الاتحاد الأوروبي، كوريا الجنوبية، اليابان …إلخ.

**الأصدقاء: ويتمثّلون في جمهورية مصر العربية، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة … إلخ.

**الشركاء: ويتمثّلون في المكسيك، قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق سوريا … إلخ.

بطبيعة الحال؛ واستناداً على ما سبق ذكره، فإنّنا نلاحظ أنّ استراتيجيتها تركّز على مكافحة الإرهاب، ومكافحة إيران، وحماية أهم حلفائها على الإطلاق (إسرائيل)، وبالتالي؛ هي تنسّق ما بين ركائزها الأربع لخلق حالة توازن فيما بينها، كي لا تتضارب أو تتقاطع إحداها مع الأخرى، وبالتالي عدم وضع نفسها في حالة مقارنة أو مفاضلة ما بين أي ثنائيّ منها.

 

العلاقة الأمريكية – التركية والخط البياني المتصاعِد في التوتّر:

تُعتبَر تركيا القوة العسكرية الثانية في حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، وهذه حقيقة معروفة للجميع، ولكن؛ هناك حقيقة أخرى أيضاً وهي أنّها – تركيا – ليست مرغوبة لدى الكثير من الأعضاء، خاصة في الطرف الأوروبي، وعلى رأسها الدولتان الرئيسيّتان ألمانيا وفرنسا. هناك حقيقة لا يمكن أن تغطيتها بالغربال؛ ألا وهي أنّ العَلَم التركي الذي يحمل الهلال والنجمة هو العلم الوحيد من بين أعلام دول الحلف، والتي يحمل أكثرها الصليب المقدّس، ومهما حلّلنا سياسياً أو منطقياً فإنّنا لن نستطيع أن نتغافل عن هذه الحقيقة التاريخية، والتي تتمثّل في الصراع أو التنافس ما بين هذه الأديان أو الأفكار التي يعود التنافس فيما بينها إلى زمن بعيد.

 بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001م طفا على السطح مصطلح (الإرهاب) الذي أصبح يتلازم مع حضور الإسلام الراديكالي، وبالتالي؛ أصبح العالم الإسلامي بشكل عام مجتمعاً يتحسّس منه الغرب وباقي دول العالم إلى حدّ ما، وبالتالي؛ كان لابدّ من إيجاد بديل له يكون مقبولاً ويحاول تصحيح صورة الدين الإسلامي لدى المجتمعات الغربية، خاصةً المدنية، وعليه؛ تم توكيل هذا الدور للإسلام السياسي الذي يقود الدولة والمجتمع في عملية تزاوج ما بين المؤسسات المدنية للدولة وتطعيمها بالواجهة السياسية الدينية، عملياً؛ يُعتَبَر حزب العدالة والتنمية التركي أول حزب يمثّل هذا النوع أو الاختبار في منطقة الشرق الأوسط عند وصوله إلى سدّة الحكم في عام 2002م، وفعلاً؛ فقد خطا خطوات مهمّة في هذا المنحى، خاصة من الجانب الاقتصادي الذي أنعش بها الاقتصاد التركي.

لكن ما حصل في ربيع عام 2003م، عندما أُخذ القرار الغربي بإسقاط نظام البعث في العراق، وإغلاق قاعدة (أنجرليك) في تركيا في وجه الولايات المتحدة الأمريكية والقوة المتحالفة معها كان بمثابة نقطة تحوّل في استراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية في إعادة النظر في العلاقات مع الحلفاء والأصدقاء، ووضع معايير جديدة لتحديدها، وتم التأكيد والترسيخ لهذه الفكرة بعد اندلاع الثورات التي اجتاحت شمال أفريقيا التي بدأت من تونس فليبيا فمصر وامتدّت إلى الشرق الأوسط وخاصةً في سوريا، وبدْء الإسلام المعتدل بالتكشير عن أنيابه ومحاولته التسلّط على الثورات من خلال تنظيم الإخوان المسلمين في كلّ من تونس ومصر وسوريا، وبالتالي؛ كان كلّ ما سبق هو رصاصة الرحمة على فشل أي مشروع يقوده تيّار دينيّ في قيادة الدولة تحت أي مسمّى كان. أمّا بالنسبة لتركيا وزيادة الفجوة بينها وبين الغرب، وخاصةً الولايات المتحدة الأمريكية، فيمكننا ذكرها، لا حصرها، في النقاط التالية:

**خروج تركيا لما كان مرسوماً لها في ترسيخ نظام قيادة الدولة المدنية العَلمانية باللباس الإسلام السياسي المعتدل.

**المَيل إلى تطبيق أجنداتها الخاصة؛ والمتمثّلة في أفكار حركة الإخوان المسلمين العالمية في حكم بلدانها.

**التحوّل الخطير الذي تمثّل في شراء الصواريخ الروسية (S400)؛ والتي تُعتَبَر خطراً مباشراً على حلف الناتو وأعضائه.

**الدور السلبي الذي لعبته تركيا؛ من خلال فتح حدودها ومطاراتها، والتساهل مع أعضاء الجماعات الإسلامية المتشدّدة، المتمثّلة في (داعش)، وحرية تنقّلهم وحتى الوصول أحياناً إلى حدّ تقديم الدعم اللوجستي لهم.

**العِداء المفرِط للمكوّن الكردي في شمال وشرق سوريا والمتمثّل بقوات سوريا الديمقراطية (شركاء الولايات المتحدة الأمريكية في محاربة الإرهاب).

**التصريحات العِدائية النارية من قبل رؤوس الحكم الحالي، صباح مساء، بحقّ سكّان شمال وشرق سوريا، والاستهداف اللامتناهي والمستمرّ للبنية التحتية والحيوية التي تخدم سكان هذه المناطق بشكل يوميّ.

 

القضية الكردية على طاولة المحافل الدولية:

مع مرور مئة عام على اتفاقية لوزان التي تُعتَبَر رسم الخط النهائي للحرب العالمية الأولى ورسم المخطّط الجغرافي للمنطقة بيد المنتصرين، وبالأخصّ المملكة المتحدة وجمهورية فرنسا؛ وذلك بتوزيع تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية) المنهارة والمنهزمة، بدأ أسياد العالم الجديد، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بوضع مخطّطات جديدة للتوزيع السكاني وتقسيم المنطقة من جديد؛ في تعديل واضح لما تم سابقاً كدليل على عدم الرضى الغربي، وذلك لأنّه لا يُعبّر عن أيّة قواسم مشتركة سوى أنّها كانت فقط لتلبية رغبات القوى الكبرى وقتها، فهي لا تعتمد على أسس جغرافية ولا تاريخية ولا عوامل اللغة أو الثقافة المشتركة …إلخ.

 عدا عن أنّها أهملت الكثير من القوميات والأطياف والتيارات الدينية والعرقية، وبالتالي؛ خلق هذا التقسيم مزيداً من التشرذم وعدم التجانس بين مكوّنات البلد الواحد؛ وذلك بدليل أنّ معظم الصراعات التي تطفو اليوم على السطح تحمل في نواتها كل ما سبق ذكره وكذلك عدم إمكانية التعايش ما بين هذه المكوّنات؛ بسبب الاضطهاد الذي تمارسه الفئة السلطوية على جميع المكوّنات الأخرى.

رغم كلّ الممارسات والقمع الدموي الذي كان يستخدمه كل محتلّ في جزئه؛ إلّا أنّه لم تنقطع الثورات الكردية في الأجزاء الأربعة من كردستان، لكن ضعف الدبلوماسية الكردية وعدم انفتاحها على العالم كان دائماً من الأسباب التي تضعف من شأن قضية الكرد في المحافل الدولية، بالإضافة إلى استغلال المحتلّين لعامل الدين المشترك في كبح جماح فتح العلاقات الدولية مع العالم الخارجي، ربّما تُعتَبَر اتفاقية الحكم الذاتي لكرد العراق، في سبعينيات القرن الماضي، هي الاتفاقية الوحيدة التي يمكن تسميتها بالاعتراف الرسمي بحقوق هذا الشعب، والذي رُسِّخ بشكله الفعلي بعد حرب الخليج في تسعينيات القرن الماضي أيضاً.

مع انطلاقة الثورة السورية في آذار من عام 2011م تنبّه الشعب الكردي في غرب كردستان إلى مدى حجم التغيير الذي تحمله طيّات الخرائط الغربية للمنطقة، وبالتالي؛ إمكانية الاستفادة من هذا التغيير في تحقيق حلم هذا الشعب الذي يُعتَبَر أكبر مكوّن على وجه هذه الأرض بقي بلا وطن، لم تكن السنوات الثلاثة الأولى من تنظيم وتشكيل القوة العسكرية وترسيخ للمؤسسات المدنية كافية لإيصال هذه الأهداف للقوة العالمية، فكانت نقطة التحوّل هي مدينة كوباني سنة 2014م، والتصدّي التاريخي للقوات الكردية في وجه أعتى تنظيم إرهابي عرفته البشرية لغايته، وبالتالي؛ كانت نقطة الفصل والوصل ما بين الكرد والعالم الخارجي، ولتكون اللبنة الأولى في خلق أرضية مناسبة لعملية الاحتكاك المباشر مع الغرب والقوة العالمية وعلى جميع الأصعدة، رغم بدئها من على صعيد التنسيق العسكري، ومع مرور الوقت بدأت هذه الثمار تؤتي بأُكُلها ولتمتدّ لغايته وتنشئ شيئاً فشيئاً اللبناتِ الأولى للعلاقات الدبلوماسية الدولية مع العالم الخارجي.

 

إمكانية أن يصبح الكرد ضمن الحلفاء الاستراتيجيين للقوى العالمية

لم يعد خافياً على أحد مدى تعاظم القوة الكردية على الأرض في البلدان التي يسكنونها على أرضهم التاريخية بطبيعة الحال، والتي باتت معلومة للقاصي والداني مدى درجة الغبن الذي مورس بحقّهم خلال مئة عام الماضية كما ذكرنا سابقاً، وفي المقابل هناك انهيار تام للدولة القومية غير المتجانسة أساساً في الشرق الأوسط، والتي بدأت بانهيار العراق سنة 2003م، وتلاحقت فيما بعد مع أحداث الربيع العربي التي اجتاحت الشمال الأفريقي والشرق الأوسط، وفي سوريا وبعد ما يقارب الأربعة عشر عاماً من القتل والدمار انهار النظام تماماً، حرب /إسرائيل – غزة/ عرت بعض الحركات التي كانت تدّعي التحرّرية إلى حدّ انغماسها ضمن أجندات ومخطّطات للدول الكبرى الإقليمية؛ كلّ هذا يشير إلى مدى إمكانية فرط دول إقليمية حالية، إمّا جغرافياً أو سياسياً، أو حتى احتمالية تفكيك مركزيتها، ولم يعد بالضرورة أن تكون الدولة المركزية هي الحلّ الأنسب في هذا الزمن، خاصةً أنّنا أصبحنا نعيش في زمن التسارع التكنولوجي غير مرتبط بالضرورة بالدين أو العقيدة أو الأيديولوجيا …إلخ. إنّ مصير أكبر دولتين في المنطقة (تركيا وإيران) قد بات على المحَكّ العالمي، ويبدو أنّ تعنّت هاتين الدولتين ووقوفهما في وجه العالم الغربي بات يزعج القوى العالمية، وأنّ إمكانية تغيير أنفسهما وسلوكهما بما يتناسب مع القوى الكبرى قد بات أيضاً محلّ شكّ هذه القوى، وعليه؛ يبدو أنّها بالفعل قد بدأت بالبحث عن البدائل الممكنة أو خلقها، وعليه؛ وبناءً على ما سبق، فإنّه يمكننا القول أنّ الكرد، اليومَ وأكثر من أي وقت مضى، إذا ما ابتعدوا عن التزمّت الأيديولوجي والشعارات التي باتت من الماضي، يقفون أمام فرصة تاريخية أخرى ليكونوا مع الكبار كحلفاء استراتيجيين لنيل حقوقهم المشروعة.


19/01/2025