×

  المرصد الامریکي

  تنصيب ترامب وتأثيره.. ملامح تحوُّلات عالمية وشيكة



 

*تريندز للتحليلات/قسم الدراسات الاستراتيجية

ينتظر العالم، بترقب مشوب بالتساؤلات والتوقعات، بداية فترة رئاسية، يُرجح أن تكون الأكثر إثارة للجدل والأهمية منذ الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة الثانية والأخيرة للرئيس دونالد ترامب. فمع اقتراب موعد تنصيبه في العشرين من الشهر الجاري، عاد تعبير (تأثير ترامب The Trump Effect ) ليحتل صدارة النقاشات السياسية والإعلامية. وبدأت الدراسات والتقارير تتناول هذا المصطلح من جديد، محاولةً استكشاف حدوده وأبعاده وتأثيراته على الصعيدين المحلي والعالمي.

وتشير ملامح المرحلة المقبلة إلى استمرارية نهج ترامب في التعامل مع القضايا الدولية والمحلية بأسلوب غير تقليدي، مع تركيز على الشعارات التي ميّزت ولايته الأولى، مثل “أمريكا أولًا”، وما ينطوي عليها من إعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية والاقتصادية للولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن تأثير ترامب لا يقتصر على الداخل الأمريكي، بل يمتد ليشمل إعادة صياغة العلاقات الدولية، وزيادة الاستقطاب بين الحلفاء التقليديين، وإثارة المزيد من الجدل حول السياسات المتعلقة بالتجارة، والمناخ، والأمن العالمي.

ويهدف هذا التقرير إلى تحليل تأثيرات رئاسة دونالد ترامب الثانية على المستويين المحلي والدولي، واستعراض السياسات المتوقعة التي قد يتبناها في مختلف المجالات، بما في ذلك الاقتصاد، والسياسة الخارجية، والأمن، والمناخ، والطاقة. كما يسعى التقرير إلى تسليط الضوء على تداعيات هذه السياسات على النظام العالمي، والتحديات التي قد تواجهها الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال هذه الفترة.

 

أولًا، مفهوم تأثير ترامب the Trump effect

تأثير ترامب (The Trump Effect) هو مصطلح يعبّر عن مجموعة من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ارتبطت بفترة رئاسة دونالد ترامب الأولى في الولايات المتحدة (2017-2021)، والتي أثارت جدلًا واسعًا، سواء داخل البلاد أو على الساحة الدولية . ويمكن استعراض الجوانب الرئيسية لهذا التأثير كما يلي:

 

التأثير السياسي:

 أصبح ترامب رمزًا للتيار اليميني المحافظ في السياسة الأمريكية، مروجًا لسياسات متشددة في قضايا بعينها، مثل الهجرة، والسيطرة على الحدود، وإصلاحات نظام العدالة . وقد أدت هذه السياسات إلى إعادة تشكيل الخطاب السياسي الأمريكي، مما أثار توترات داخلية بين الأحزاب السياسية ومختلف شرائح المجتمع. كما أسهم ترامب في تصعيد الاستقطاب الحزبي إلى مستويات غير مسبوقة، حيث أصبحت الانقسامات الأيديولوجية أكثر وضوحًا وتأثيرًا.

 

التأثير على العلاقات الدولية:

 اتبعت إدارة ترامب سياسة “أمريكا أولًا ” (America First)، التي ركزت على حماية المصالح القومية الأمريكية، وأدت إلى تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية. أبرز هذه التغييرات كانت انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقيات دولية، مثل اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي مع إيران. كما تسبب النهج الأحادي الذي تبناه ترامب في توتر العلاقات مع حلفاء تقليديين مثل الاتحاد الأوروبي وكندا، في حين حاول بناء علاقات أوثق مع دول مثل روسيا وكوريا الشمالية، ما أثار جدلًا واسعًا حول دوافعه واستراتيجياته.

 

التأثير الاقتصادي:

ركزت سياسات ترامب الاقتصادية على تعزيز النمو الاقتصادي من خلال تخفيض الضرائب وتقليص اللوائح التنظيمية على الشركات. كما سعى إلى إعادة التوازن في العلاقات التجارية العالمية عن طريق فرض تعريفات جمركية على السلع المستوردة، خاصة من الصين. وقد أدت هذه السياسات إلى تقلبات في الأسواق العالمية، وخلقت توترات تجارية بين الولايات المتحدة ودول كبرى.

التأثير الاجتماعي والثقافي: ازدادت حدة الانقسامات الاجتماعية في الولايات المتحدة خلال فترة ترامب، حيث تصاعدت التوترات حول قضايا مثل العنصرية، والهجرة، وحقوق الأقليات. كما أدى خطابه المثير للجدل إلى تأجيج الخلافات الثقافية، مما جعل قضايا الهوية والانتماء محط جدل دائم.

 

التأثير الإعلامي:

اعتمد ترامب بشكل كبير على وسائل الإعلام، وخاصة منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر، كوسيلة مباشرة للتواصل مع الجمهور. وأثرت تغريداته اليومية في تشكيل النقاشات العامة والإعلامية، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من الأخبار اليومية. كما أسهم هذا الاستخدام المكثف لوسائل التواصل في تغيير طريقة تواصل السياسيين مع الجمهور، وأحدث نقلة نوعية في علاقة السلطة بالإعلام.

بشكل عام، يمكن القول إن “تأثير ترامب” هو مفهوم شامل يشير إلى التغييرات الكبيرة التي حدثت على الصعيدين الداخلي والدولي خلال فترة رئاسته الأولى، وتم استعادة المفهوم للواجهة مرة أخرى مع يوم تنصيبه، وما قد يلحقه من تحولات ضخمة وواسعة على المستويات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.

 

ثانيًا، أهمية يوم تنصيب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية

 

يوم تنصيب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية هو حدث ذو أهمية كبيرة على المستويين الوطني والدولي، حيث يمثل بداية فترة ولاية جديدة للرئيس المنتخب. وتتمثل رمزيته في الأوجه والاعتبارات التالية:

 

التأكيد على الديمقراطية:

 يمثل يوم التنصيب انتقال السلطة السلمي من رئيس إلى آخر، وهو مظهر قوي من مظاهر الديمقراطية الأمريكية، إذ يتم تنصيب الرئيس المنتخب بناءً على انتخابات تمثل نموذجًا عالميًّا للديمقراطية لاعتبارات عدة، ما يعكس التقاليد الديمقراطية الراسخة في الولايات المتحدة.

 

التوحيد الوطني:

 يُعَدُّ يوم التنصيب لحظة رمزية لتوحيد الشعب الأمريكي تحت قيادة الرئيس الجديد. وعلى الرغم من الانقسامات السياسية التي قد تحدث خلال الانتخابات، فإن يوم التنصيب يهدف إلى إعادة التماسك الوطني، ويُعتبر فرصة للرئيس الجديد لإلقاء خطاب يدعو فيه إلى الوحدة والمصالحة.

 

تعهد بالولاء والدستور:

 خلال يوم التنصيب، يؤدي الرئيس المنتخب اليمين الدستورية، حيث يتعهد بالحفاظ على الدستور الأمريكي وحمايته. وهذا اليمين يُعَدُّ تعبيرًا عن التزام الرئيس بالحفاظ على القيم والمبادئ التي يقوم عليها النظام السياسي الأمريكي.

 

تحديد الاتجاهات السياسية:

يقدم الرئيس المنتخب خلال خطاب التنصيب رؤيته وأولويات إدارته للفترة الرئاسية القادمة. وغالبًا ما يكون هذا الخطاب محوريًّا في تحديد سياسات الرئيس في مجالات مثل الاقتصاد، والسياسة الخارجية، والحقوق المدنية، والتحديات الداخلية.

 

الاهتمام الدولي:

 يوم التنصيب يلفت أنظار العالم إلى الولايات المتحدة، حيث يتابع العديد من الدول والمسؤولين الدوليين هذا الحدث؛ لأنه يشير إلى التوجهات المستقبلية للولايات المتحدة في السياسة العالمية والعلاقات الدولية.

 

إظهار الوحدة السياسية:

يُظهر يوم التنصيب التعاون بين مختلف الأفرع الحكومية الأمريكية، ففي هذه المناسبة يحضر الرئيس المنتخب ونائب الرئيس، بالإضافة إلى كبار المسؤولين الحكوميين؛ ويعزز ذلك من صورة استقرار النظام السياسي الأمريكي.

وعليه، فإن يوم تنصيب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يمثل لحظة فارقة تبرز الديمقراطية النموذج عالميًّا، وقوة وتماسك النظام السياسي الأمريكي، كما أن له تأثيرًا كبيرًا في توجيه السياسات والمواقف المستقبلية للبلاد.

 

ثالثًا، الأهمية الخاصة لتنصيب ترامب في ولايته الثانية والأخيرة

يحمل تنصيب دونالد ترامب لفترة رئاسية جديدة دلالات مهمة على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية.

داخليًّا، يُتوقع أن يواصل ترامب سياساته الاقتصادية التي ركزت سابقًا على تعزيز النمو وتقليل الضرائب؛ ما أدى إلى انخفاض معدلات البطالة وخلق بيئة مواتية للأعمال، وكذا تخفيفه للقيود التنظيمية وإصلاحاته الضريبية التي حفّزت الاستثمارات ووفرت فرص عمل جديدة، ما عزز الاقتصاد الوطني.

أمّا إقليميًّا، خاصة في الشرق الأوسط، فيُنظر إلى عودة ترامب كعامل استقرار محتمل. وسياساته الصارمة تجاه إيران ودعمه القوي لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، قد يُسهمان في تعزيز الأمن الإقليمي. وتحالفه الاستراتيجي مع شركائه في المنطقة يعكس التزامًا مشتركًا بمواجهة التهديدات وتعزيز الاستقرار .

ودوليًّا، تثير عودة ترامب مخاوف بشأن زيادة حالة عدم اليقين الجيوسياسي، في ضوء تهديداته السابقة بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وفرض رسوم على الواردات الصينية، وكل ذلك قد يؤدي إلى توترات مع حلفاء الولايات المتحدة، ويؤثر على التعاون الدولي في قضايا مثل التغير المناخي والتجارة العالمية.

وعليه، فإن تنصيب ترامب لفترة رئاسية جديدة يحمل تأثيرات مُعقدة على الساحة الداخلية والدولية، مع توقعات بتعزيز بعض جوانب الاستقرار، ومخاوف من تصاعد التوترات في مجالات أخرى.

 

رابعًا، التحولات المرتقبة في سياساته الخارجية

من المتوقع أن تشهد السياسة الخارجية الأمريكية تحولًا جذريًّا يعكس توجهات ترامب المعروفة من ولايته الأولى، حيث ركز على شعار “أمريكا أولًا”. ويُتوقع أن تواصل هذه السياسة فرض نفسها بقوة، مع التركيز على مجالات رئيسية، تشمل تقليص الالتزامات الدولية، وإعادة صياغة التحالفات التقليدية، مع التركيز على المكاسب الاقتصادية قصيرة المدى، وتصعيد التنافس مع القوى العالمية مثل الصين وروسيا.

 

التحالفات الدولية

من المتوقع أن تؤدي ولاية ترامب الثانية إلى إعادة تشكيل التحالفات التقليدية، مع تَوَجُّه واضح نحو تقليص دور الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية، مثل حلف الناتو والأمم المتحدة. ويعكس هذا النهج عقيدة “أمريكا أولًا”، التي تركز على العلاقات المعاملاتية، وتضع المصالح الأمريكية المباشرة فوق القيم المشتركة أو الالتزامات الدولية طويلة الأمد.

أمّا فيما يتعلق بحلف الناتو، فمن المرجح أن يواصل ترامب الضغط على الدول الأعضاء لإعادة التفاوض حول اتفاقيات التعاون الدفاعي، مع التركيز على زيادة الإنفاق العسكري من قِبَل هذه الدول لتقليل ما يعتبره “عبئًا غير عادل” تتحمله الولايات المتحدة. وقد يؤدي عدم استجابة الدول الأوروبية لهذه المطالب إلى تقليص الالتزامات الأمريكية تجاه الحلف، بما في ذلك تخفيض عدد القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا، أو إعادة تقييم دور واشنطن في الناتو، ما يضعف الوحدة عبر الأطلسي، ويعرض استقرار التحالف للخطر.

وبالتوازي مع ذلك، من المتوقع أن تواصل إدارة ترامب تقليص مشاركتها في المنظمات الدولية، بما في ذلك عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، في إطار رؤية تسعى لتقليل التزامات الولايات المتحدة تجاه القضايا العالمية . هذا التوجه قد يُسهم في إضعاف فعالية هذه المؤسسات الدولية، ويزيد من التحديات أمام مواجهة الأزمات العالمية بشكل جماعي.

 

العلاقات مع الصين

من المتوقع أن تستمر إدارة ترامب في نهجها المتشدد تجاه الصين، بما في ذلك توسيع فرض الرسوم الجمركية على الواردات الصينية، بالإضافة إلى اتخاذ تدابير أخرى تهدف إلى الحد من نفوذ الصين الاقتصادي والتكنولوجي. وقد يسعى ترامب إلى إجبار الصين على قبول شروط تجارية أكثر عدلًا من وجهة نظره، ويُتوقع أن يستمر في تقليص التعاون التجاري بين البلدين رغم الضغط الدولي . لذا يرجح أن تؤدي ولاية ترامب الثانية إلى تصعيد التوترات مع الصين، مع التركيز على الأبعاد الاقتصادية والجيواستراتيجية. وسوف تكثف إدارة ترامب جهودها لفصل سلاسل التوريد الأمريكية عن الصين، وتشجيع الشركات على نقل التصنيع إلى الولايات المتحدة أو الدول الحليفة. وهذا الانفصال الاقتصادي يهدف بالطبع إلى الحد من الاعتماد على الصين، لكنه من ناحية أخرى سوف يعطل التجارة العالمية ويزيد من التكاليف على الشركات والمستهلكين.

كما أن التنافس الجيواستراتيجي من شأنه أن يتصاعد، مع عودة نقاط الاشتعال -مثل بحر الصين الجنوبي وتايوان- إلى مركز الصدارة. وقد تتبنى إدارة ترامب موقفًا أكثر مواجهة، بما في ذلك زيادة الوجود العسكري في المنطقة وتوسيع مبيعات الأسلحة إلى تايوان. وفي حين أن مثل هذه التدابير من شأنها أن تشير إلى عزم الولايات المتحدة، فإنها قد تزيد من خطر الصراع العسكري، وتوتر العلاقات مع لاعبين إقليميين آخرين. وفي نهاية المطاف، فإن نهج ترامب تجاه الصين من شأنه أن يسعى إلى تأكيد هيمنة الولايات المتحدة، لكنه يخاطر بزعزعة استقرار علاقة متقلبة بالفعل.

 

الشرق الأوسط

في الشرق الأوسط، من المتوقع أن تواصل إدارة ترامب التركيز على الأولويات الاستراتيجية التي تميزت بها ولايته الأولى. ويُرجح أن تكثف الإدارة حملة الضغط الأقصى على إيران عبر تشديد العقوبات، وشن هجمات إلكترونية، وربما تنفيذ ضربات عسكرية محدودة بهدف كبح طموحاتها النووية. ولا شك أن هذا النهج قد يُسهم في تقويض النفوذ الإيراني، إلا أنه يحمل مخاطر تصعيد التوترات الإقليمية، وزيادة احتمالية الرد الانتقامي من إيران وحلفائها.

في سياق آخر، يُتوقع أن يسعى ترامب إلى توسيع اتفاقيات إبراهام، محاولًا إقناع مزيد من الدول العربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. هذا المسار قد يعزز العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، ويعيد تشكيل المشهد السياسي في المنطقة، لكنه في الوقت نفسه قد يفاقم عزلة الفلسطينيين، ويؤجج الانقسامات داخل العالم العربي، مما يزيد من تعقيد جهود تحقيق السلام الشامل.

كما يُتوقع أن تعتمد إدارة ترامب على دعمها القوي لحلفاء إقليميين -مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل- لتعزيز الاستقرار من منظور المصالح الأمريكية. ومن المحتمل أن تشهد بداية ولايته الثانية زيارات رفيعة المستوى من قادة عرب لتعزيز الشراكات الإقليمية. ومع ذلك، فإن استمرار الأزمات الإقليمية مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والحرب في اليمن، والوجود العسكري الإيراني في سوريا، كل ذلك سيظل يشكل تحديًا كبيرًا.

 

العلاقات مع روسيا

من المتوقع أن تتميز سياسة ترامب تجاه روسيا بمزيد من المرونة والبراغماتية مقارنة بسياسات الإدارات الأمريكية السابقة. ويُرجح في هذا السياق أن يسعى ترامب إلى تعزيز قنوات الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متجاهلًا الانتقادات الداخلية والخارجية التي تتعلق بقضايا: مثل التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأمريكية، وملفات حقوق الإنسان، والأزمة المستمرة في أوكرانيا.

كما قد يكون تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا أحد محاور هذه السياسة، حيث يرى ترامب أن مثل هذه الخطوة يمكن أن تفتح الباب أمام تعاون أوسع في مجالات مثل مكافحة الإرهاب، واستقرار أسواق الطاقة، واحتواء النفوذ الصيني المتنامي. غير أن هذا التوجه قد يؤدي إلى قلق كبير بين الحلفاء الأوروبيين الذين يعتبرون العقوبات وسيلة أساسية للضغط على موسكو لإنهاء تدخلها في أوكرانيا واحترام سيادة الدول المجاورة .

في الوقت نفسه، قد يسعى ترامب إلى تحقيق توازن بين بناء علاقات أفضل مع موسكو وبين الحفاظ على دعم الحلفاء التقليديين في الناتو. هذا التوازن سيكون تحديًا دقيقًا، خاصة في ظل استمرار التوترات حول تعزيز روسيا لوجودها العسكري في أوروبا الشرقية، وتصاعد القلق بشأن الأنشطة الروسية في منطقة القطب الشمالي.

بوجه عام، فإن سياسة ترامب المحتملة تجاه روسيا تعكس رؤية تركز على المصالح الأمريكية المباشرة، بدلًا من الالتزام بالمواقف التقليدية المتعلقة بالقيم الديمقراطية أو النظام العالمي القائم. ورغم أنها قد تحقق بعض المكاسب قصيرة الأجل، إلا أنها على المدى الطويل تحمل مخاطر تتمثل في تقويض الثقة مع الحلفاء وإثارة المزيد من الانقسامات داخل التحالف الغربي.

 

تغيرات في سياسات المناخ والطاقة

من المرجح أن تشهد إدارة ترامب الثانية استمرارية في النهج المتشكك تجاه الاتفاقيات الدولية المتعلقة بتغير المناخ، مع التركيز على تعزيز سياسات الطاقة المحلية بما يتماشى مع شعار “أمريكا أولًا” . ويُتوقع أن تواصل الإدارة رفض الالتزام باتفاقية باريس للمناخ، حيث يرى ترامب أن هذه الاتفاقية تُكبّل الاقتصاد الأمريكي لصالح المنافسين الدوليين، خاصة الصين والهند. وستُركز سياسات الطاقة الأمريكية على تعزيز قطاع الوقود الأحفوري، بما في ذلك النفط، والغاز الطبيعي، والفحم، من خلال تقليل القيود البيئية وتوسيع التنقيب والإنتاج. ومن المتوقع أن تدفع الإدارة نحو فتح المزيد من الأراضي الفيدرالية والمناطق البحرية أمام أنشطة التنقيب، مما قد يؤدي بدوره إلى زيادة الإنتاج المحلي وتوفير فرص عمل، لكنه سيواجه انتقادات من النشطاء البيئيين والدول الداعمة للجهود العالمية للحد من الانبعاثات الكربونية.

هذا التوجه قد يزيد من التوترات مع الدول الأوروبية، التي تُعتبر من أبرز الداعمين للاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمناخ، مثل اتفاقية باريس، وتسعى إلى تحقيق أهداف طموحة فيما يخص تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وزيادة الاستثمار في الطاقة المتجددة. إن الخلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا في هذا المجال قد تعمق الفجوة بين الحلفاء التقليديين، مما يؤثر على التعاون في قضايا أخرى مرتبطة بالسياسات الدولية.

علاوة على ذلك، قد تستمر إدارة ترامب في تقليص ميزانيات المؤسسات الفيدرالية المعنية بالبحث العلمي والتطوير في مجالات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة، مع توجيه المزيد من الموارد لدعم الصناعات التقليدية. وهذه السياسات قد تحقق مكاسب اقتصادية قصيرة الأجل للاقتصاد الأمريكي، لكنها تواجه تحديات طويلة الأمد فيما يتعلق بالتكيف مع التحولات العالمية نحو طاقة أنظف وأكثر استدامة.

 

خامسًا، التحديات المتوقعة أمام ترامب في ولايته الثانية

في ولايته الرئاسية الثانية، يواجه دونالد ترامب مجموعة من التحديات المتشابكة، التي قد تعيق تحقيق أهداف إدارته وتضعف تأثير سياساته داخليًّا وخارجيًّا.

 

التحديات الداخلية:

أبرز هذه التحديات هو الانقسام السياسي والاجتماعي العميق داخل الولايات المتحدة، حيث يواجه ترامب معارضة شرسة من الديمقراطيين، ومن شرائح مجتمعية واسعة، ترفض سياساته في مجالات حساسة، مثل الهجرة والرعاية الصحية والتعليم. هذه الانقسامات تعكس استقطابًا حادًّا داخل المجتمع الأمريكي، مما يزيد من صعوبة تمرير التشريعات المهمة، ويعيق تنفيذ سياسات داخلية فعّالة.

من جانب آخر، تمثل إدارة الأزمات الاقتصادية الداخلية تحديًا كبيرًا، خاصة في ظل استمرار تداعيات التضخم وعدم المساواة الاقتصادية، مما يضع الإدارة أمام اختبار صعب في استعادة ثقة المواطنين في السياسات الاقتصادية.

وينبغي أن يُوضع في الاعتبار أيضًا حرائق لوس آنجلوس الأخيرة التي اندلعت في يناير 2025 قُبيل تنصيبه؛ لأنها -بطبيعة الحال- ستفرض المزيد من التحديات الاقتصادية على ترامب، حيث تسببت هذه الحرائق في خسائر اقتصادية كبيرة. ويُذكر أن شركة “أكيوويذر” قدّرت هذه الخسائر بما يتراوح بين 52 و57 مليار دولار، ما يجعلها من بين أكثر حرائق الغابات تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة.

تشمل هذه الخسائر تدمير آلاف المنازل والشركات، ما يؤدي إلى زيادة تكاليف إعادة الإعمار وفقدان الوظائف وتعطيل الأنشطة الاقتصادية في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تأثرت البنية التحتية بشكل كبير، بما في ذلك شبكات الكهرباء والمياه والطرق؛ ما يزيد من الأعباء المالية على الحكومتين المحلية والفيدرالية.

من المتوقع أيضًا أن تؤثر هذه الحرائق على سوق التأمين، حيث يُحتمل أن تواجه شركات التأمين زيادة في المطالبات، وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاع أقساط التأمين في المستقبل. كما قد تتأثر قطاعات أخرى مثل السياحة والزراعة؛ بسبب تدهور جودة الهواء وتدمير الأراضي الزراعية.

على المستوى الوطني، قد تُسهم هذه الخسائر في تباطؤ النمو الاقتصادي، خاصة إذا استمرت الكوارث الطبيعية في تكرارها وزيادة حدتها نتيجة لتغير المناخ. وهذا الاحتمال يستدعي تعزيز الاستثمارات في البنية التحتية المقاومة للكوارث وتطوير سياسات فعّالة للتعامل مع تأثيرات التغير المناخي .

 

التحديات الخارجية:

على الساحة الدولية، يواجه ترامب صعوبات جمة في الحفاظ على العلاقات مع الحلفاء التقليديين مثل الاتحاد الأوروبي وكندا، وسط تزايد التوترات الناتجة عن سياساته التجارية والاقتصادية. وقد تؤدي سياسات “أمريكا أولًا” إلى تصعيد النزاعات التجارية وتقويض التعاون داخل التحالفات الدولية مثل حلف الناتو.

التوترات مع الصين وروسيا تمثل محورًا آخر للتحدي، حيث يمكن أن تشهد الفترة القادمة تصاعدًا في الصراعات التجارية والتنافس الجيوسياسي، خاصة في آسيا والمحيط الهادي وأوروبا الشرقية.

 

الخلاصة

مع انطلاق فترة ترامب الرئاسية الثانية، يقف العالم أمام مرحلة مفصلية، تحمل تحولات كبرى على المستويين المحلي والدولي. فعلى الصعيد الداخلي، تتجسد التحديات في الانقسامات السياسية والاجتماعية العميقة، التي قد تعيق تمرير التشريعات وتنفيذ السياسات بشكل سلس، بالإضافة إلى إدارة الأزمات الاقتصادية التي تعزز الضغوط الشعبية.

أمّا على الصعيد الدولي، فإن التوترات مع الحلفاء التقليديين ستزداد بسبب سياسات “أمريكا أولًا”، والتنافس مع الصين وروسيا قد يؤدي إلى تصعيد النزاعات التجارية والجيوسياسية. كما تمثل قضايا المناخ وتعزيز الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط تحديات رئيسية أخرى قد تحدد مدى نجاح الإدارة الجديدة في تحقيق أهدافها داخليًّا وخارجيًّا.


23/01/2025