×

  رؤى حول العراق

  العراق في مواجهة تحديات واستحقاقات عام 2025



 مسارات محتملة

 

*مركز الامارات للسياسات/ وحدة الدراسات العراقية

إذا كان العام 2024 قد بدأ بسلسلة من التحديات التي فرضتها تداعيات هجوم السابع من أكتوبر على المنطقة عموماً، وعلى العراق باعتباره نقطة تماس أساسية في سياق ما يعرف بـ"محور الممانعة" الذي قادته إيران وروَّجت له خلال أكثر من عقدين مضيا، فإن العام نفسه انتهى برفع منسوب التحديات مرتبطة بمتغيرات جيوسياسية حادة بدأت تتشكل في المنطقة ابتداءً من انهيار منظومة "حزب الله" اللبناني، ثم سقوط نظام بشار الأسد في سورية.

وقد ألقت التحديات التي واجهها العراق في العام المنصرم بظلالها على العام 2025 في المستويات المختلفة، كما أضافت إليها تحديات جديدة، وذلك على النحو الآتي:

 

 

1. أمنياً؛ :

يواجه الفاعل السياسي الشيعي تحدي إيجاد تسوية واضحة لقضية المليشيات الولائية وعلاقتها بـ"الحشد الشعبي" ودمج الأخير ضمن الدولة وتجريده من المؤسسات غير القانونية الملحقة به مثل "أمن الحشد" و"استخبارات الحشد" و"طيران الحشد" و"شركة المهندس"، وبحيث تشمل هذه الإجراءات قطع إمدادات المال المهرَّب بطرق غير مشروعة إلى إيران، والتي تتم عبر الهياكل الاقتصادية النافذة التابعة للمليشيات والقوى والأحزاب المختلفة الموالية لطهران.

حتى الآن لا يبدو أن هناك مقاربة عراقية ناجحة في التوفيق بين التهديدات الأمريكية بتصفية المليشيات داخل "الحشد الشعبي" وخارجه والمطالب الإيرانية بدعمها وتوسيع دورها. ويبدو أن القرار الذي انتهى إليه "الإطار التنسيقي" الشيعي هو انتظار إجراءات الإدارة الأمريكية الجديدة وفتح حوار معها حول هذه التسوية والعمل على إشراك دول مؤثرة مثل بريطانيا وفرنسا في الجهود العراقية لتخفيف الضغوط الأمريكية.

ويَصُبُّ توقيع رئيس الوزراء العراقي اتفاق شراكة امنية استراتيجية مع الحكومة البريطانية في خلال زيارته الأخيرة إلى لندن في هذا الاتجاه، الذي تصبُّ فيه أيضاً اتصالات تُجريها بغداد مع فرنسا لترتيب عقد جولة جديدة لمؤتمر الجوار العراقي برعاية فرنسية.

وعلى الرغم من عدم إعلان المليشيات العراقية بشكل واضح وحاسم تجميد هجماتها، سواء ضد القوات الأمريكية أو ضد إسرائيل، ماعدا إعلانات منفردة لعدد من قيادات بعض الفصائل، فإن الشهور الأخيرة شهدت فعلياً تراجُعاً ملحوظاً في هذه الهجمات التي توقفت بالكامل مطلع العام الحالي. واستمرار توقف تلك الهجمات، لاسيما في ظل استمرار مفاعيل اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة ولبنان، قد يُوفِّر حماية كافية من ردود عسكرية انتقامية إسرائيلية خلال العام الحالي، لكنَّه لا يحسم ملف المليشيات في أجندة إدارة الرئيس دونالد ترمب.

 ووفقاً للمعطيات، فإن تحدي عودة نشاط تنظيم "داعش"، سواء انطلاقاً من الأراضي السورية أو من الداخل العراقي، سيكون ماثِلاً في عام 2025. وتعلن القوى الأمنية العراقية بشكل متصاعد عن نشاطات للتنظيم في مناطق جبال حمرين وبادية الموصل، كما تُحذِّر من احتمالات إطلاق سراح عشرات الآلاف من مقاتلي التنظيم المحتجزين في سجون قوات "قسد" الكردية السورية شرق الفرات. والمفارقة الأمنية الاضافية التي يطرحها هذا التحدي، أنَّه يوفّر من جهة فرصاً ومسوغات صلبة لاستمرار نفوذ المليشيات وهيمنتها الأمنية والسياسية والاقتصادية الحالية، ومن جهة ثانية سيكون سبباً إضافياً لوضع مشروع إنهاء مهمة التحالف الدولي في الأدراج لفترة أطول.

 وسيكون التعاطي مع التوسُّع الجيوسياسي التركي بعد الإطاحة بنظام الأسد في سورية، تحدياً عراقياً أساسياً خلال العام الحالي، لاسيما أن ترتيبات "الاتفاقية الأمنية" بين البلدين أتاحت للقوات التركية وضعاً أكثر تأثيراً في الداخل العراقي، خصوصاً في المناطق الكردية والسنية.

وقد ينتج عن التحركات التركية، ورغبة طهران بمعاقبة أنقرة أو تقويض نفوذها، استجابات إيرانية سيكون العراق ميدانها الأساسي، ما يرفع مستوى المخاطر من مواجهات مباشرة على يد الأذرع العسكرية المحلية، حيث تمتلك إيران نفوذاً مباشراً على المليشيات الشيعية وحزب العمال الكردستاني، في حين تمتلك تركيا نفوذاً على فصائل مسلحة وقوى معارضة سُنيَّة، بالإضافة إلى العلاقة الوثيقة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني.

 

 

2. اقتصادياً؛

 سيكون توفير السيولة النقدية الكافية لسداد مرتبات الموظفين والمستحقين، تحدياً أساسياً أمام الحكومة العراقية التي تتعرض سياساتها الاقتصادية لانتقادات متصاعدة حتى داخل "قوى الإطار" الحليفة لها. ويُمثِّل عجْز العراق عن تنويع وارداته غير النفطية تركةً انتقلت عبر الحكومات المتعاقبة، ويتضاعف تأثيرها مع توقعات متضاربة حول أسعار النفط خلال العام الحالي.

 وأبرز المؤشرات أعلنتها وزارة المالية مطلع العام بقرارها الامتناع عن تزويد إقليم كردستان بمرتبات الموظفين، وفي المقابل اتهمت حكومة إقليم كردستان بغداد بمحاولة الاستحواذ على الثروات في المناطق المتنازع عليها، ما يفتح الباب لنزاعٍ مُتنامٍ تجنَّبته الحكومة العراقية العام الماضي بدفع المستحقات المالية للإقليم. ومحاولات بغداد تحديث الأنظمة المالية لا يبدو أنها كانت كافية لتجنُّب المزيد من العقوبات الأمريكية المتوقعة ضد مصارف وشركات ومؤسسات رسمية عراقية تتهمها واشنطن بتهريب الدولار إلى إيران أو تسهيل تنصُّل طهران من أنظمة العقوبات.

 

 

 

3. سياسياً؛

تكشف بدايات العام الحالي عن تصاعُدٍ لمستويات الصراع السياسي التي اختتم بها العام المنصرم، وتصاعُدٍ لاحتمالات انفراط العلاقات التي استمرت مستقرة نسبياً خلال العامين الماضيين بين قوى "الإطار التنسيقي" والحكومة من جهة وإقليم كردستان من جهة ثانية. وقد يُسجِّل العام الجديد تحديات على مستوى العلاقات السياسية بين القوى الشيعية والسنية على خلفية الجدل بشأن إقرار وتنفيذ قانون "العفو العام" الذي يُعد أحد أبرز تعهُّدات تشكيل حكومة السوداني، واحتمالات تفاقُم قضية "المغيبين" السنة كورقة جاهزة للانفجار بين الطرفين، وأيضاً مطالب سحب "الحشد الشعبي" والمليشيات من المناطق السنية.

من حيث المبدأ فإن عام 2025 الذي سوف يشهد في نهاياته تنظيم الانتخابات البرلمانية، سيكون عاماً للدعايات والصدامات الانتخابية بين القوى المختلفة وعلى أسس وخلفيات متنوعة وجاهزة الاستخدام، غير أن تنفيذ إدارة الرئيس ترمب تعهداتها بإضعاف قبضة إيران في العراق من طريق ميليشياتها سيُعد متغيراً أساسياً ستبنى على أساسه مواقف سياسية جديدة، وسوف يُشجِّع على طرح قضايا مختلفة عن السياقات السابقة المحكومة بالنفوذ الإيراني المُمسِك بمفاتيح لعبة الصراع السياسي العراقية، وفي الوقت نفسه سيوضح نتائج الصراع الذي انطلق عام 2024 بين السوداني وبعض قوى الإطار التنسيقي يتقدمها "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي.

 ولا تزال فرصة مشاركة السوداني في الانتخابات عبر قائمة خاصة مطروحة على رغم التناقضات التي تجمع حلفاء السوداني، لكنها ستكون محكومة بمستوى نجاح القوى الأخرى في فرض معاييرها على قانون الانتخابات الذي قد يُشكِّل عائقاً أمام طموحات هذه الكتلة المفترضة. وأقرب مثال على ذلك، تفتُّت الاتفاقات التي تَشكَّلت على أساسها حكومات المحافظات بداية العام 2024، حيث تتشكل تحالفات جديدة تسعى إلى تغيير خريطة التوافقات السابقة.

 

استحقاقات مستقبلية

أمام الارتفاع الملحوظ في مستوى التحديات المطروحة، فإن دوائر الفعل السياسي العراقية ستكون خلال العام الحالي في مواجهة مجموعة استحقاقات رئيسة، أهمها الآتي:

 

1. الإصلاح الأمني.

 لا يبدو أن الحكومة العراقية قادرة على فرض قرارات تتعلق بحل المليشيات أو "الحشد الشعبي"، ما يترك هذه القضية المحورية تحت تأثير صانع القرار الإيراني، ومحكومة بمتغيرات القوة والنفوذ المحتمل أن تخضع لها طهران.

 

2. الإصلاح الاقتصادي.

 لا توجد أي مؤشرات ملموسة على أن قرارات مصيرية تخص هيكلة مؤسسات الدولة العراقية أو خصخصتها وتحديثها وتقليص الكوادر البشرية وتقليل مصروفات الموازنة التشغيلية، مطروحة على أجندة القوى الفاعلة في البلاد، والبدء بأي اصلاح على هذا الصعيد قد يُفجِّر احتجاجات شعبية لا يمكن السيطرة عليها، والأرجح أن تلجأ الحكومة الحالية والتي تليها إلى توسيع سياسات الاقتراض والبدء بخطط تعويم الدينار أمام الدولار.

 

3. العلاقة مع إقليم كردستان.

بالإضافة إلى تحدي مرتبات الإقليم، فإن العلاقة بين بغداد واربيل ستحكمها أيضاً ضغوط التحالفات الشيعية التي دعمت حزب "بافل طالباني" على حساب حزب "مسعود بارزاني" خلال السنوات الأخيرة، وستدعم الضغوط الأمريكية على إيران، في المدى القصير، أربيل وتشجعها على فتح ملفات المناطق المتنازع عليها، فيما ستكون قضية الانفصال الكردي مطروحة على المديين المتوسط والطويل.

 

4. العلاقة مع المنطقة السنية.

 بعد المتغيرات السورية برزت إلى السطح مباشرة سجالات سياسية ذات منحى طائفي في الساحتين الشيعية والسنية تستند إلى إشكالات لم تُحسَم منذ سنوات، ومع ضعف القبضة الإيرانية من المتوقع أن تشهد هذه السجالات تصعيداً مطرداً.

 

5. العلاقات مع واشنطن.

 إن تحقيق تفاهم مع إدارة الرئيس ترمب سيكون العنصر الأكثر تعقيداً الذي سيواجه الحكومة العراقية الحالية والتي تليها، لاسيما في حال نفذّت واشنطن تهديداتها بالمزيد من الضغط الاقتصادي والأمني على العراق.

 

الاستنتاجات

إنّ احتمالَ ضعف البنية العسكرية للمليشيات في العراق أمرٌ يتيح للمرة الأولى منذ عام 2003 بيئةً جديدةً لإمكانية فرز قوى وطنية عراقية مهيمنة على المشهد، وقادرة على فرض التحول الطبيعي في التمركز السياسي العراقي الحالي والمستقبلي، ولكنَّه من جانب آخر قد يفتح الباب أمام خيارات ربما يصبح العمل عليها واقع حال، بما فيها المشاريع المتصلة بترتيب وضع الأقاليم الإدارية في البلاد وإيجاد حلول لمستقبل إقليم كردستان بواسطة تفاهمات إقليمية ودولية، وهي قضايا سيكون لها حضور في المدى المنظور بصرف النظر عن المآلات السياسية الحالية.


20/02/2025