×

  سوريا و الملف الکردي

  إبراهيم باشا المللي.. شعلة مضيئة في سماء الجزيرة



*علي شمدين

 

الحقيقة أن عملية نبش القبور وهدمها، ونهب الآثار وتدميرها، كانت ولا تزال ظاهرة همجية بشعة ترافق الحروب والصراعات أينما كانت وخاصة في المجتمعات الشرقية المتخلفة، وهي تعتبر من أبشع الوسائل الانتقامية وأخطرها التي تهدف إلى الإمعان في الانتقام من الخصم حياً وميتاً، فضلاً عن إنهاء وجوده ومحو الآثار التي تدل على هويته، وهذا الانتقام ينبع من دوافع مختلفة كالخلافات السياسية والصراعات القومية والطائفية والمذهبية، وإن تاريخ شعوب المنطقة مليء بالأمثلة الفظيعة لهذه الظاهرة الشنيعة التي لم يسلم منها حتى أضرحة الصحابة والأئمة والخلفاء، ناهيك عن أضرحة الرموز الثقافية والسياسية والاجتماعية البارزة، ولعل ما شهده الكرد في مناطقهم على يد النظام البائد وعلى يد المنظمات التكفيرية الجهادية والميليشيات الإرهابية المتطرفة التابعة للنظام التركي العنصري خلال الأزمة السورية إنما تؤكد هذه الحقيقة على أرض الواقع.

وبعودة سريعة إلى السجل الأسود لتلك الجهات الشوفينية الحاقدة على الشعب الكردي والمتنكرة لوجوده التاريخي الأصيل كثاني أكبر قومية في البلاد، نرى بأنها لم توفر وسيلة إلّا واستخدمتها في إمحاء هذا الوجود الذي لم تعتبره سوى ورماً سرطانياً خبيثاً لابدّ من استئصاله وبتره، ومن بين هذه الوسائل قيامها بشكل مبرمج ومدروس بنهب الآثار المنتشرة في المناطق الكردية في سوريا وخاصة في منطقة عفرين، وإزالة معالمها الأثرية ونبش تلالها وأضرحتها ومزاراتها الدينية وخاصة العائدة للكرد الإيزيديين، وسرقة ونهب كل محتوياتها من التحف واللقى والقطع الأثرية التي تعبر عن تاريخها وذلك بهدف تغيير ديمغرافيتها وإلغاء هويتها القومية وطمس معالمها التاريخية الأصيلة ومسحها من ذاكرة أجيالها القادمة.

ومناسبة هذا المقال هي إقدام جهات شوفينية مؤخراً على تحطيم ضريح الأمير ابراهيم باشا المللي (١٨٤٠- ١٩٠٨)، وتخريبه للمرّة الخامسة على مدى سنوات الأزمة السورية، الأمر الذي لم يثر استياء الكرد فقط، وإنما استياء الكثيرين من مكونات الجزيرة وسخطهم أيضاً، وفي مقدمتهم الشخصية الوطنية المسيحية الأستاذ (أنطون قس جبرائيل)، الذي استنكر هذا العمل الجبان في رسالة وجهها إلى (ابراهيم محمد ابراهيم باشا)، والتي تضمنت موقفه النبيل الذي أثلج صدورنا، والذي عبر عن حرصه الشديد على حماية السلم الأهلي وتعزيز العلاقات التاريخية المشتركة بين المكونات القومية والدينية التي تشكل النسيج الوطني العريق في وجه الشوفينيين والجهاديين والتكفيريين الذين لا يكفون عن انتهاج سياسة فرق تسد ضد هذه المكونات المتعايشة معاً بسلام وأمان، الأمر الذي يبشر بأن مجتمعنا لا زال بخير،

 وفيما يلي نص الرسالة التي أرسلها من السويد الأستاذ (أنطون قس جبرائيل):  

 

الأخ ابراهيم محمد ابراهيم باشا المحترم..

لقد أثار نبأ قيام البعض بتخريب ضريح المرحوم ابراهيم باشا المللي الكائن بقرية (صفيا)، الواقعة شمال مدينة الحسكة، استيائي واستياء الكثيرين من مختلف مكونات الجزيرة بسبب:

١- أن حرمة القبور من الأمور التي أولتها جميع الديانات عناية فائقة وخاصة الإسلام الذي شدد على عدم جواز انتهاكها.

٢- إن رمزية هذا الضريح تعود إلى أن المرحوم ابراهيم باشا لم يكن فقط (أمير أمراء الكرد)، وإنما تجاوزت زعامته إلى شتى العناصر والمذاهب والملل في الجزيرة الفراتية.

٣- لا شك بأن من قاموا بهذا العمل المستنكر لا يعلمون بأن الإتحاد المللي كان يضم عرباً وكرداً وسرياناً وأرمناً وايزيديين وغيرهم ولم يكن مقتصراً على جماعة بعينها فقد كان (حسين الحنظل)، عارفة المللية وهو من عشيرة عدوان العربية، وبأن فرسان وزعماء قبيلة حرب العربية كانو يرافقون المغفور له في رحلته الأخيرة إلى دمشق عام (١٩٠٨)، وبأن من كان يقاتله حتى آخر أيامه كانت عشيرة قره كيج الكردية.

٤- من المؤسف جداً التهاون مع أمثال هؤلاء المخربين والتغاضي عن عبثهم بضريح هذا القائد الفذ الذي كان أول من جمع اغلب مكونات الجزيرة تحت خيمته، وساس الجميع بحكمته وعدالته واحترمه لأعدائه قبل مناصريه.

وفي الختام أقول: نم قرير العين يامن ستبقى شعلة مضيئة في تاريخ الجزيرة الفراتية.. وتقبلوا فائق تقديري واحترامي.

أجل أخي أنطوان إن الذين لا يكفون عن الاعتداء بهمجية على مقدسات الشعوب وأضرحة زعمائهم إنما هم الظلاميون الذين يقفون بالمرصاد للمنارات المضيئة من أمثال الأمير (ابراهيم باشا المللي)، الذي استطاع، كما تفضلت، أن يجمع حوله مكونات الجزيرة بمختلف ألوانها وأطيافها تحت خيمته وإن يسوسها بحكمته وعدالته واحترامه، وهم بذلك يحاولون إطفاءها وسدّ الطريق أمام إحياء تحالفه من جديد كتجربة تاريخية فريدة يمكن الإقتداء بها في وقت نحن بأمس الحاجة إليها في مثل هذه الظروف التي تمر بها بلادنا سوريا والتي باتت تعبث بمستقبلها تلك القوى الظلامية التكفيرية.

١١ نيسان ٢٠٢٥


13/04/2025