محمد علي الحيدري:
تُعدّ العملية الانتخابية، في جوهرها، أكثر من مجرد منافسة عددية على المقاعد النيابية. إنها ممارسة ديمقراطية ينبغي أن تُفضي إلى إنتاج سلطة ممثلة، تستند إلى رؤية واضحة ومشروع قابل للتنفيذ، لا إلى مجرد شعارات آنية أو وعود مجزأة.
ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية أن يمتلك المرشح ـ فردًا كان أو ضمن قائمة ـ مشروعًا سياسيًا وبرنامجًا انتخابيًا متماسكًا يقدمه للناخبين، بوصفه العقد السياسي الأولي الذي يربط الطرفين ويمنح العلاقة بينهما صفة التعاقد والمساءلة.
البرنامج الانتخابي ليس مجرد مادة إعلامية أو وثيقة دعائية، بل هو أداة معيارية تتيح للناخب أن يُقيم المرشح بناءً على مدى انسجامه مع احتياجات المجتمع وتطلعاته، كما تُشكل قاعدة للحكم اللاحق على أداء الفائزين.
غياب هذا البرنامج أو ضبابيته يفرغ الانتخابات من جوهرها التمثيلي، ويجعل منها أقرب إلى عملية تداول سلطوي شكلية لا تنتج تحولًا حقيقيًا في السياسات العامة أو الإدارة الحكومية.
التجربة الانتخابية العراقية، على امتداد دوراتها المتعاقبة، تكشف عن ضعف بنيوي في هذا المجال. إذ غالبًا ما تُخاض الحملات الانتخابية من دون برامج محددة، أو تُطرح شعارات عامة لا تترجم إلى سياسات ملموسة، مع ميل واضح إلى التركيز على الخطاب العاطفي أو الهوياتي، سواء الطائفي أو المناطقي أو الشخصي.
هذا القصور في بناء الرؤية ينعكس لاحقًا على الأداء البرلماني والتنفيذي، ويُسهم في تعميق فجوة الثقة بين الجمهور والمؤسسات المنتخبة، لا سيما في ظل التحديات المزمنة التي يعاني منها العراق في ملفات الخدمات والاقتصاد والحكم الرشيد، والسيادة الوطنية.
إن امتلاك المشروع السياسي الواضح يُعد من أبجديات العمل الانتخابي الرصين في النظم الديمقراطية، لأنه يؤسس لثقافة سياسية قائمة على الخيارات، لا الولاءات. وهو ما يُمكّن الناخب من التمييز الموضوعي بين المرشحين، وفق برامج قابلة للتطبيق، لا مجرد حضور اجتماعي أو زخم إعلامي.
كما أن وجود البرامج الانتخابية يساعد في تنظيم النقاش العام حول السياسات، ويعزز من الرقابة المجتمعية على المخرجات الحكومية، إذ تُصبح وعود الحملة مرجعًا للمساءلة الشعبية.
من الزاوية المؤسسية، فإن اشتراط تقديم البرنامج كجزء من متطلبات الترشح، أو إدراجه ضمن وثائق الحملات الرسمية، قد يسهم في رفع مستوى الخطاب الانتخابي وتحفيز المنافسة البرمجية بدلًا من الشخصية أو الفئوية.
كما أن تعزيز دور الإعلام ومنظمات المجتمع المدني في تحليل البرامج ومقارنتها يمنح الناخب أدوات أعمق للاختيار، ويُقلل من سيطرة المال السياسي أو النزعات الشعبوية.
إن الانتخابات التي لا تقوم على البرامج، مهما كانت نسبة المشاركة فيها، تظل مهددة بفقدان فعاليتها التمثيلية. أما الانتخابات التي تؤسس على التعاقد البرنامجي بين الناخب والمرشح، فهي التي تمتلك قابلية البناء السياسي المستدام.
في الحالة العراقية، ثمة حاجة ماسة إلى الانتقال من منطق “من ينتخب؟” إلى سؤال “بماذا يُنتخب؟” ـ أي من الشخص إلى المشروع، ومن الانتماء إلى الأداء.
إن ترسيخ ثقافة المشروع الانتخابي ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة مؤسسية وسياسية لبناء دورة تمثيل حقيقية تُفضي إلى شرعية فعلية، قائمة على الوضوح والمحاسبة. وهو ما يجعل من امتلاك البرنامج الانتخابي حجر الزاوية في إعادة الثقة بالعملية الديمقراطية، وتفعيل دور الناخب بوصفه فاعلًا واعيًا، لا مجرد رقم في معادلة انتخابية عابرة.