*شورش درويش
*المركز الكردي للدراسات
من أعلى المشهد بدت السويداء قاب قوسين من عملية ضمِّها في عداد ممتلكات السلطة تجاوزًا على رغبة سكانها ودون تفهّم مخاوفهم والتفاهم مع شخصياتها الاعتبارية، وظهر أن سكان الجبل المتعبين تُركوا وحيدين في مواجهة “القوات الحكومية” المركّبة من الأمن العام والقوات غير المنضبطة التابعة لوزارة الدفاع ومقاتلي العشائر والبدو فضلاً عن تواجد المقاتلين الأجانب على أرض المعركة.
في صباح يوم الثلاثاء الماضي وافق الشيخ حكمت الهجري على انتشار قوات الأمن العام في عموم محافظة السويداء، غير أنّ عدوله السريع عن قراره جاء بعد بطش القوات الحكومية بالمدنيين وامتهان كرامة السكان، فقد جرى نشر قسم من تلك الفظائع بحق السكان دون تمييز عبر تسجيلات مصوّرة عكست بُعداً مشهديّاً لعملية فرض الهيمنة والتكوين الجديد لعقيدة التفوّق الطائفيّ التي تمظهرت بالعبث برموز ومعتقدات الموحّدين الدروز. ثمة سببٌ آخر لعدول الهجري عن الاتفاق الذي وصفه “بالمذلّ”، إذ أثّر موقف الجماعة المعروفيّة في إسرائيل في صالح قرار رفض الإذعان للاتفاق الأوّلي مع دمشق بالاستناد إلى قوّة سلاح الجوّ الإسرائيلي ووعود الثنائي نتنياهو وكاتس بالحفاظ على حياة دروز سوريا التي تتلاقى مع مشروع إبقاء الجنوب السوري خاليًا من الأسلحة الثقيلة.
لم تنشب الحرب على خلفية الإشكال الذي تولّد بين الدروز والبدو، ذلك أن مثل هذه المشكلات تتجدّد بشكل دوريّ وهي في جوهرها أصداء لحروب المراعي والجوار التقليدية، علاوةً على أن “الدولة” لا تلجأ لحلّ مثل هذه المشكلات بإعلان حالة حرب مفتوحة، بل تحلّها بالتوجيه الاجتماعيّ كنمط حلّ ما دون قانونيّ تلجأ إليه الدول والحكومات في الشرق الأوسط. لأجل ذلك يمكن استنتاج أن العملية العسكرية في الجبل وحجم الهجوم والجهوزية القتالية يكشف بعداً آخر لسبب الهجوم على السويداء.
أمّن الانفتاح الخارجي الواسع على حكومة الشرع والتصريحات المتتالية لممثل واشنطن توماس باراك الداعمة، وعملية التواصل المباشر مع إسرائيل وانتقاء وسطاء دوليين للإشراف على ذلك، ما يمكن أن نسمّيه شعور دمشق بامتلاك فائض قوّة يمكنها تفريغه بسرعة قبل أن يتعزّز ستاتيكو الحكم المحلّي في السويداء، ولأجل ذلك قرأت السلطة سهولة الذهاب نحو حرب إذعان بعيدًا عن التفاهم، مستفيدةً أيضًا من شقوق الخلاف داخل البيت الروحي والعسكري الدرزي، وورود معلومات غير دقيقة لدمشق مفادها أن المجتمع في الجبل لا يؤيّد المنحى الندّي الذي يكرّسه الشيخ الهجري، وعليه أوقعت السلطة نفسها في فخّ اقنعت نفسها بأنه أقرب لجولة ستمضي بحرف إسرائيل نظرها عمّا يجري، وأنه سيلقى حفاوة الفريق الدرزي المناوئ للهجري، وبقبول امريكيّ صامت على ما قالته تصريحات توماس باراك برفضه إقامة “دولة درزية” وأن بإمكان واشنطن إيقاف حكومة نتنياهو عند حدود التدخل اللفظي دون اللجوء إلى ردود أفعال عسكرية.
ثمة تقديرات خاطئة، كادت أن تكون مميتة، دفعت بالشرع للذهاب إلى مغامرة الحرب غير الضرورية في توقيتها وأسبابها. ظنّ الشرع وعود واشنطن والاصطفاف العربي والتركي خلفها وإبداء الرغبة العارمة في السلام مع تل أبيب بأنه كفيل بإمالة كفّة الميزان لصالحه، وأن تل أبيب لن تقوم باعتراض عملية بسط السيطرة الشكليّة على السويداء، غير أن جلب الأسلحة الثقيلة إلى جبهة السويداء دفع بالإسرائيليين إلى تدمير بعضها ووقف تدفّقها، فالجنوب السوري وفق الرؤية الإسرائيلية يجب أن يبقى منزوع السلاح تحت أيّ ظرف كان حتى إن كان حضور الأسلحة الثقيلة لفترة وجيزة أو بغاية الترويع واستعراض القوّة، وإلى ذلك يؤمّن بقاء السويداء تحت سلطة الجماعات الدرزية المسلّحة طبقة إضافية من الأمان للمنطقة الحدودية حتى وإن أُبرمت اتفاقية سلام أو هدنة. بهذا بدا أن تقديرات دمشق كانت أقرب إلى المجازفة منها إلى القراءة الواقعية. بينما جاءت تقديراتها الخاطئة في تصوّرها بأن الولايات المتحدة لن تسمح لإسرائيل بتنفيذ ضربات قاصمة، وكذلك بدت هذه القراءة المعطوفة على “الدلال” الامريكي لحكومة الشرع أقرب إلى سرابٍ منه إلى حقيقة، فطبيعة السيطرة وطبيعة النظام الحاكم في سوريا تخضع في نهاية المطاف للمزاج ومتطلّبات الأمن القومي الإسرائيلي.
أُلبس قرار الانسحاب ثوب الاتفاق بين شيوخ عقلٍ دروز وبين ممثلي السلطة. في صفقة أُريد لها حفظ ماء وجه السلطة السورية، وتقوية مركز خصوم الهجري داخل المحافظة. لكنّ الانسحاب الذي تكشّف عن مجازر وانتهاكات مروّعة دفع أكثر الأصوات الوسطية في السويداء إلى التراجع عن مواقفها تجاه السلطة، وهو ما عنى توحيد البيت الدرزي خلف حالة الخوف وعدم الثقة بدمشق وتطويب الشيخ الهجري مرجعية لا تنازعها أصوات أو قوى أخرى على الأرض. وعليه،غدا الهجري جهة المخاطبة الوحيدة في سائر الجبل. هذا “الكابوس” الذي جهدت دمشق للتخلّص منه، بات يتجسّد أمامها حقيقة واقعة.
وإذا عدّدنا نتائج الحرب إلى جوار الأكلاف الباهظة في أرواح المدنيين والعسكريين، وتكريس زعامة الهجري شبه المطلقة، فإننا سنشهد جهوزية إسرائيل لمعاودة سياسة حماية الدروز حتى وإن تكثّفت جهود السلام أو تم التوصّل إلى صيغة تعاون مع دمشق تطابق المصالح الإسرائيلية. ومن المفيد هنا استعراض بعض الآراء داخل إسرائيل حيث دعت الأصوات الحذرة في تعاملها مع الشرع والأشد تطرّفاً كوزير شؤون الشتات الإسرائيلي عميحاي تشيكلي ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى وجوب تصفية الشرع، بعد أن طابقا بين الشرع وجنوده وبين حماس، ولعلّ مثل هذه المواقف الخشنة تظهر مزاجًا لا تروقه أهازيج السلام التي تشتغل عليها واشنطن، وأن الاستعجال الذي أظهرته دمشق للتلاقي مع تل أبيب سيقابله شيء من الفتور واللامبالاة في الطرف الآخر، حتى وإن كان أحدّ الأثمان هو الوعد بالتدخّل في الشأن اللبناني لجهة محاربة حزب الله.
لكن، من بين نتائج الحرب الأكثر وضوحًا هو تنامي الاستقطاب الطائفي والهوّياتي بين السوريين، وشعور موالي السلطة بجرحٍ نرجسيّ جرى تضميد بعضه بالكثير من الأحقاد وموجات الكراهية والعنف الذي تمظهر بإطلاق “فزعة” ثأر عشائرية عارمة، ومواجهة طلاب دروز تعرّضوا للضرب والملاحقة على يد “زملائهم” الطلبة بجامعتي دمشق وحلب في مشهدٍ أحيا ذكريات عسكرة الجامعة زمن حكم الأسدين، فيما دعت أصوات “مدنيّة” لفرض الحصار على السويداء، دون تمييز لحقيقة أن الحصار، وإن كان نشاطًا لأفراد على ما يقوله وعّاظ السلطة ومؤيّدوها، يعدّ جريمة حرب موصوفة، فوق أنه عمل بربريّ لا يقلّ عن التصفيات الميدانية والمجازر والبوغروم الذي حصل يوم دخلت القوات الحكومية إلى قرى ومركز المحافظة. ومن بين أعراض الحرب نلحظ المسيرات والاعتصامات التي تعلوها لغة فاشية وطائفية تدعو لإبادة الدروز، وتكثيف جولات التخوين، والتكفيرَين الديني والسياسي، التي تتبعها غرف التوجيه التابعة للسلطة.
لا حاجة للقول أن السلطة تضيّع، إن لم تكن ضيّعت بالفعل، فرصها في أن تثبت للسوريين والعالم أنها فارقت ماضيها الدمويّ، وأنها بدل التعلّم من درس حرب الجبل الموجع وتدخل في نوبة مراجعة لمجمل أخطائها، إنما ستعود إلى مزاولة نفس الأخطاء بوسائل أخرى وفي مناطق ثانية وثالثة، وهو ما يعني أن شعار النظام السابق أنا أو الفوضى وعليكم أن تختاروا، قد جرى التعديل عليه وأصبح: “أنا الفوضى” وعليكم التكيّف أو اختيار المواجهات مع السلطة أو وكلائها من عشائر وغاضبين وطلّاب ومجتمع طائفي جرى تأهيله خلال بضعة أشهر.
الغالب على الظن أن السلطة، التي بدأت تشكّل مركّبها الطائفي ـ العشائري أسوةً بمركّب نظام الأسد العسكري – الأمني، لن تتعلّم أي درس من تجربة حرب الجبل العبثيّة لا سيما درسيْ قبول الشراكة الوطنية والنظام اللامركزي بوصفهما أفقين يعيدان توحيد سوريا المفككة.