*محمد شيخ عثمان
يتذكر العراقيون تاريخ ٨ آب ١٩٨٨ كنهاية حرب دموية بين العراق وايران دون اهتمامهم بحيثيات واسبابها وعواقبها، لان هذا الاعلان كان يعني لهم نهاية فرض الخدمة العسكرية والانسياق الى جبهات الموت العبثية.
هنا ينبغي الحديث عن حيثيات الحرب واتفاق وقف اطلاق النار وعواقب الحرب ،خاصة وبعد انتهاء الحرب العراقية–الإيرانية عام 1988، حرص كل طرف على صياغة روايته الخاصة لنتائج الصراع، مستندا إلى أدواته الإعلامية والسياسية لتثبيت صورة “الانتصار” أمام شعبه والعالم.
في العراق، كان خطاب النظام آنذاك يؤكد أن “قادسية صدام” قد هزمت إيران وأجبرتها على القبول بقرار مجلس الأمن 598، وأن الجيش العراقي نجح في استعادة جميع الأراضي التي احتلتها القوات الإيرانية طوال سنوات الحرب، بل وتقدّم في بعض المحاور داخل العمق الإيراني قبل تثبيت وقف إطلاق النار. هذه الصورة قُدمت للجمهور بوصفها تتويجا لثماني سنوات من “الصمود والانتصار”، ورسالة بأن العراق خرج من المعركة أقوى وأكثر تأثيرا في محيطه العربي والإقليمي.
لكن الواقع السياسي والعسكري كان أكثر تعقيدا ،فقبول إيران بوقف النار لم يكن نتيجة هزيمة ساحقة بقدر ما كان تعبيرا عن إنهاك متبادل للطرفين اضافة الى قناعتها بان القرار الدولي يضمن حقها في اتفاقية الجزائر وتحديد ، فيما لم يحقق العراق أهدافه المعلنة عند اندلاع الحرب، سواء إسقاط النظام الإيراني أو تعديل الحدود لصالحه. فعلى الرغم من المكاسب الميدانية في الأشهر الأخيرة، لم تتغير الحدود عن الصيغة التي حددتها اتفاقية الجزائر عام 1975، والتي عاد العراق للاعتراف بها رسميا عام 1990، بعد أن كان قد مزقها في بداية الحرب. الأهم من ذلك، أن تقرير الأمم المتحدة عام 1991 حمّل العراق مسؤولية بدء النزاع، ما نسف شرعية رواية “الانتصار القانوني”، وألقى بظلال ثقيلة على صورته الدولية.
اقتصاديا كانت الحصيلة قاسية. فبينما صُورت الحرب في الخطاب الرسمي كاستثمار لحماية الأمن العربي والخليجي، خرج العراق مثقلا بديون تجاوزت 80 مليار دولار، مع تراجع خطير في البنية الاقتصادية، الأمر الذي ساهم لاحقا في دخوله أزمة غزو الكويت وما ترتب عليها من عزلة دولية خانقة. وبذلك، يتضح أن “النصر” الذي روّج له النظام العراقي واعلامه كان في جوهره سياسيا ودعائيا قصير الأمد، بينما حملت النتائج الفعلية بذور أزمات أكبر عصفت بالدولة العراقية في العقد التالي.
القرار الدولي عندما يتحدث
القرار الدولي 598 (20 تموز 1987) لم ينص صراحة على اعتراف العراق بحق إيران في اتفاقية الجزائر 1975، ولا على تحديد من بدأ الحرب أو إلزام العراق بدفع التعويضات مباشرة،لكن أهم ما جاء فيه بخصوص هذه النقاط كان:
1. وقف إطلاق النار وانسحاب القوات إلى الحدود الدولية المعترف بها وهذا يعني العودة إلى الحدود المحددة سابقا وهو ما كان يتضمن خط الحدود المرسوم في اتفاقية الجزائر، لكن دون ذكر اسم الاتفاقية.
2. تشكيل لجنة دولية لتحديد المسؤول عن بدء النزاع: اعتبر تقرير الأمين العام للأمم المتحدة (خافيير بيريز دي كوييار) عام 1991 لاحقا بان العراق هو الذي بدأ الحرب في 1980.
3. في موضوع التعويضات ،القرار دعا إلى مفاوضات لمعالجة الأضرار الاقتصادية والبشرية، لكنه لم يفرض رقما أو آلية محددة لدفع التعويضات، وترك الأمر للتفاوض الثنائي أو عبر وساطة أممية.
وبالتالي فان القرار 598 وضع إطارا يمكن أن يؤدي للاعتراف العملي بحقوق إيران الحدودية (وفق اتفاق الجزائر)، وفتح باب النقاش حول التعويضات، لكنه لم يمنحها بشكل مباشر أو ملزم إلا بعد تقارير لاحقة للأمم المتحدة أثبتت مسؤولية العراق عن بدء الحرب.
على صعيد الموقف الايراني فان القيادة الايرانية وجهت في 17 يوليو 1988، رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة تقول فيها: إنَّ الحرب قد بدأت من جانب النظام البعثي العراقي في 22 سبتمبر 1980؛ وإن إيران قررت قبول القرار 598 حفاظا على أرواح البشر وتحقيقا للسلام والعدالة، مشددة على ضرورة التزام العراق باتفاقية الجزائر لعام 1975، خاصة فيما يتعلق بالحدود.
هذه الرسالة توضح بشكل جلي أنَّ إيران قبلت القرار بصفتها تسعى للسلام رغم الاعتداء المُفروض عليها، ودعت إلى أن يُلزم الجانب العراقي بالتعويض عن الأضرار، وفق مبادئ العدالة والإرادة الدولية.
لقد قبلت إيران بالقرار ٥٩٨ رسميا في 18 يوليو 1988، لكن بشروط: ربط وقف إطلاق النار بتحديد المسؤول عن بدء الحرب أولا، والانتقال بعد ذلك إلى التفاوض، بما في ذلك تعويضات الحرب.
لقد استخدمت ايران خطابها إلى الأمم المتحدة للاستناد إلى القرار 598 كإطار قانوني يربط وقف إطلاق النار باتفاقية الجزائر، ويكرّس حقها في التعويضات، بعد أن أثبت تقرير أممي أن العراق هو المعتدي.
لقد استثمرت إيران القرار 598 لاحقا لتثبيت حقوقها فالقرار 598 نص على أن يقوم الأمين العام للأمم المتحدة بمشاورات مع الطرفين، وأن يقدّم تقريرا لمجلس الأمن حول من بدأ النزاع وقد شكل الأمين العام حينها خافيير بيريز دي كوييار لجنة خبراء أممية جمعت شهادات ووثائق عسكرية ودبلوماسية.
في تقريره بتاريخ 9 كانون الأول 1991، أعلن دي كوييار أن العراق هو الذي بدأ النزاع المسلح في 22 أيلول 1980، وأن هذا العمل لا يمكن تبريره وفق القانون الدولي ولكن التقرير لم يفرض عقوبات أو تعويضات مباشرة، لكنه وفّر سندا قانونيا لإيران للمطالبة بها.
وبعد صدور التقرير، صاغت إيران عدة مذكرات لمجلس الأمن والجمعية العامة أكدت فيها أن العراق، باعتباره الطرف المعتدي وفق تقرير الأمين العام، ملزم بدفع تعويضات عن الخسائر البشرية والمادية.
وكذلك طالبت بتفعيل المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الخاصة بحق الدفاع عن النفس، لتبرير عملياتها العسكرية داخل الأراضي العراقية قبل وقف النار.
واخيرا ،ربطت التنفيذ الكامل للقرار 598 بالتزام العراق بـ اتفاقية الجزائر 1975، خاصة في ترسيم الحدود عند شط العرب.
انطلاقا من هذه الحقائق و من الناحية الواقعية والسياسية، اعتبار العراق نفسه منتصرا بعد الحرب العراقية–الإيرانية كان خطابا دعائيا بحتا للتستر على الخسارة الاستراتيجية.
لقد اعتبر النظام العراقي نفسه منتصرا لاسباب جزئية ابرزها:
1. الانسحاب الإيراني: بعد أن كانت إيران ترفض وقف النار وتصر على إسقاط نظام صدام، قبلت فجأة بالقرار 598، ما قدّمه الإعلام العراقي كـ”استسلام سياسي”.
2. استعادة الأراضي: العراق استعاد الفاو والمناطق الحدودية قبل وقف إطلاق النار، وأصبح على موقف عسكري متقدّم.
3. التأثير الدعائي الداخلي: النظام أراد تعزيز شرعيته وإظهار الحرب كـ”قادسية ثانية” حققت النصر على إيران.
لكن على الارض ،الواقع كان مختلفا:
• الخسائر الفادحة: العراق خرج من الحرب مثقلا بديون هائلة (أكثر من 80 مليار دولار) لدول الخليج، وبجيش مرهق.
• النتيجة السياسية الحقيقية: تقرير الأمم المتحدة عام 1991 أثبت أن العراق هو البادئ بالحرب، ما نسف رواية “النصر القانوني”.
• العودة إلى اتفاقية الجزائر: في 1990، اضطر العراق للاعتراف مجددا باتفاقية الجزائر التي سبق أن مزقها، وهو تنازل جوهري عن واحد من أسباب الحرب.
• لامكاسب استراتيجية: الحدود بقيت كما كانت قبل 1980، أي أن 8 سنوات من الحرب لم تغيّر الخريطة.
بالتالي فان العراق قدّم الحرب كـ”انتصار عسكري” لرفع المعنويات وتثبيت حكم صدام، لكن المحصلة الاستراتيجية والقانونية تُظهر أنها كانت حربا بلا فائز حقيقي، وأن العراق خسر اقتصاديا وسياسيا، حتى لو كسب بعض المعارك الأخيرة قبل وقف النار.
ماذا اعطى صدام الى ايران؟
اتفاقية الجزائر عام 1975 أعطت إيران السيادة الكاملة على النصف الشرقي من شط العرب (وفق خط التالوك) مقابل التزامها بوقف دعم الحركة الكردية المسلحة في شمال العراق.
هذا التنازل عن جزء مائي–استراتيجي من الأراضي العراقية أثار استغراب بعض الدبلوماسيين الغربيين، مثل السفير البريطاني في بغداد، الذي أشار في رسالته الى وزارة الخارجية البريطانية:استغرب ان دولة العراق تعطي جزءا استراتيجيا من اراضيها الى ايران كي لاتضع كركوك ضمن الحكم الذاتي الكردي تحت سقف وضمن الحدود العراقية وسيادتها.
لقد كان من الأفضل لصدام ونظامه أن يمنح حقوق الشعب الكردي ويشمل كركوك ضمن اتفاقية الحكم الذاتي تحت السيادة العراقية بدلا من توقيع اتفاقية الجزائر التي تنازل فيها عن أراضٍ استراتيجية لإيران، وهو ما شكّل طريقا أكثر نجاحا من ادعاء الانتصار الوهمي في حرب طاحنة أنهكت العراق دولة وشعبا.
وفي الحاضر، ينبغي للدولة العراقية أن تستلهم درس هذه التجربة عبر الاعتراف والالتزام بحقوق الشعب الكردي الثابتة في الدستور، لا سيما المادة 140 المتعلقة بمصير كركوك والمناطق المتنازع عليها التي تعرضت لسياسات التعريب والتهجير القسري.
إن حل هذه المسألة يعزز استقرار العراق وقوته ووحدته أكثر من التنصل والتكابر والعودة الى عقلية الانكار التي لم تجلب للبلد الا الدمار واراقة الدماء.