×


  قضايا كردستانية

  عماد أحمد : مع مام جلال، حزنٌ ورؤيا



 

يقع وادي خواكورك في منطقة برادوست العليا في ناحية سيدكان قرب المثلث الحدودي (العراق – إيران – تركيا)، ويتكون من سلاسل جبلية وقمم عالية، يبدأ من قرية (بنێ) إلى قرية (خزنة) بالقرب من المثلث الحدودي، كان من الناحية الجغرافية منطقة جبلية مناسبة لفعاليات البيشمركة، وقد شارك في ملحمة خواكورك في خريف عام 1988 معظم بيشمركة الأطراف في  الجبهة الكردستانية واستغرقت أكثر من شهر وهُزم فيها جيش الاحتلال البعثي وقد اشرف السيد مسعود بارزاني شخصيًا على المعركة.

للمنطقة من الناحية الطبيعية جمال نادر، في الصيف، هي جنة على الارض، جبالها ووديانها مليئة بالأشجار المثمرة البرية الطبيعية، ولها هواء ومياه عذبة. وشتاءً تمتلئ بالثلوج والجليد وتمتاز بالوعورة وانعدام التنقل.

كان مقر قيادة الحزب الشيوعي العراقي في السفح الأيسر لوادي خواكورك قرب جرجيان. كانوا وعلى الرغم من صعوبات الحياة قد خلقوا بسليقتهم وبرنامجهم جنة دنيوية لأنفسهم. خلال تلك الفترة كنا معهم نحن الماركسيون، نريد خلق جنة على الأرض، بخلاف الآخرين كالحركة الإسلامية، والإخوان المسلمين، والحركة الإسلامية الشيعية والسنية، الذين يريدون أن يحصلوا على الجنة في الدنيا الآخرة!

زرنا خلال تلك الأيام قيادة الحزب الشيوعي العراقي مرات عديدة بهدف الاجتماع والزيارة. كان مقر (أبو تارا) يقع في سفح الجبل، وكانت مهمته الضيافة وتنظيم الاجتماعات واللقاءات، وفي تلك الديار التقيت لأول مرة بـ (أبو حكمت – يوسف حنا يوسف) وأم بهار و(أبو فاروق – عمر علي الشيخ) و(أبو شهاب – رحيم عجينة) طابت ذكراهم. آه كم تعلمتُ منهم حياة التواضع والسلوك الإنساني اللائق.

كنا نبيت ونصبح على خرير المياه وحفيف النسيم وتساقط أوراق أشجار البلوط وحركة السناجب وصفير الطيور.

كان أبو تارا (إبراهيم صوفي محمود) رجلًا ذات همة وحلو الكلام وطيب المعشر وخبيرًا بالمنطقة، كان حنطي البشرة طويل القامة عريض المنكبين وقوي العضام. عمل لفترة مع الحزب الديمقراطي الإيراني، وكانوا يساعدونهم بموافقة قيادة الحزب الشيوعي العراقي، إلى حد أن أصبح أحد القادة العسكريين الرفيعين في الحزب. كان قد أصيب بالرصاص في رجله اليمنى، وكان يعرج أثناء المشي، ويمددها أثناء الجلوس لعدم قدرته على الجلوس متربعًا.

وفي صيف عام 1986 كنا جالسين في كوخه، خطر ببالي سؤال كنت أود معرفة جوابه من ذلك القيادي الملم والدقيق؛ لانَّني لم أكن قد التقيت بعدُ بالدكتور قاسملو، كنت أود أن أعلم الفرق بين مام جلال وقاسملو.

وقال بلهجته الفصيحة والعذبة: “يا رفقي هذان الرجلان قياديان عظيمان ومقتدران وعبقريان من قادة الكرد، لهما ثقافة وتجارب كثيرة، ولكن هناك فرق بينهما، وأضاف: ” تقنيات واستراتيجيات وبصمات مام جلال في السياسة واضحة وسرعان ما يُشعَر بها وتعرف ماذا يريد؟ ولكن الأمر مع الدكتور قاسملو يختلف عما هو عليه مع مام جلال فإنك بحاجة للمزيد من الوقت كي يتضح الأمر وتعرف ماذا يفعل وماذا يريد.

للأسف استشهد الدكتور قاسملو بيد الغدر في فيينا بتاريخ 13 من تموز عام 1989، تلاه استشهاد الدكتور صادق شرف كندي بمدينة برلين في 11 من سبتمبر عام 1992، وعليه كتبتُ رثاءً لهذين القائدين ونشرته في صحيفة آلاي آزادي.

وفي إحدى الليالي مؤخرا رأيتُ مام جلال في منامي جالسًا على كرسي من الخيزران في حديقة قلاجوالان تحت شجرة صفصاف كبيرة وسط الزهور والورود لابسًا بدلة زرقاء وقميصًا أبيضًا ورباطًا أحمر منتعلًا حذاءً أسودًا مصبوغًا من دون أربطة، واضعًا يديه على جانبي الكرسي، كانت أشعة الشمس تضرب تارة ساعته وحلقة بُنصُرِ يده اليسرى من جراء حركة غصون واوراق الصفصاف، وتارة يمرِّر يده اليمنى وأصابعه فوق شعر رأسه الممتزج بالبياض.

وكنت بدوري واقفًا في حضوره، طلب لي كرسيًا فجلست بجانبه. وقال ضجرًا وممتعضًا: “عماد، لماذا لا تصلحون أوضاع الإقليم؟ فالظروف الحالية ليست أقسى مما شهدناها فترة الأنفال والقصف الكيمياوي بحلبجة والهجرة المليونية والحرب الأهلية المقيتة، فقلت: لا تقلق يا مام جلال، سنبذل جهودًا لأجل ذلك. واستفقت فجأة من نومي وحُرِمتُ من ذلك اللقاء الصوفي بين نفسي كدرويش ومام جلال كشيخ.

في اليوم نفسه وقبل أن أذهب إلى العمل، زرتُ مزاره في دباشان وقرأتُ سورة الفاتحة على ضريحه، حينها مرت ذكرياته كالبرق في مخيلتي، ورويت رؤياي هذا للسيد دلير السيد مجيد وقال لي مبتسمًا: إن شاء الله سيتحقق رؤياك.


10/08/2025