*حيدر خليل سورميري
منذ سقوط النظام البعثي في عام 2003، دخل العراق مرحلة سياسية جديدة اتسمت بالتجاذبات، والانقسامات الحادة بين القوى والأحزاب، لكن وسط هذا المشهد المتشابك برز اسم الرئيس الراحل جلال طالباني (مام جلال) كحالة استثنائية في الحياة السياسية العراقية،فقد كان السياسي الوحيد تقريباً الذي اتفق معظم العراقيين، على اختلاف مكوّناتهم وتوجّهاتهم، على احترامه بل ومحبته.
امتلك مام جلال كاريزما خاصة قلّ نظيرها في تاريخ العراق السياسي فلم يكن مجرد قائد حزبي أو رئيس جمهورية، بل شخصية قادرة على كسب ودّ المختلفين والمتخاصمين عبر أسلوبه المرح وروح الدعابة التي تميّز بها،فقد كان يمزج بين النكتة والجدية، وبين الصراحة واللباقة، فيحوّل أجواء التوتر السياسي إلى مساحات حوار أكثر هدوءاً. هذا الجانب الإنساني قرّبه من قلوب العراقيين، حتى من خصومه السياسيين.
عرف عن مام جلال حنكته وقدرته على إدارة الأزمات في أصعب الظروف،كان سياسياً واقعياً يؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ويسعى دائماً إلى بناء التوافق الوطني، نجح في تقريب وجهات النظر بين القوى المتصارعة، وساهم في تجنيب البلاد الكثير من الأزمات الداخلية. كما كان صوتاً داعياً للتوازن بين المكوّنات العراقية، بعيداً عن منطق الإقصاء والتهميش.
لم يقتصر دور مام جلال على الداخل، بل امتد تأثيره إلى الخارج أيضاً، فبفضل علاقاته الدولية والإقليمية الواسعة، استطاع أن يجعل العراق طرفاً فاعلاً في محيطه،و أقام توازناً دقيقاً بين مصالح العراق وعلاقاته مع دول الجوار والعالم، فكان يُنظر إليه كجسر تواصل، وصوت معتدل يمكن الوثوق به في المحافل الدولية.
رحل مام جلال وبقي إرثه السياسي والإنساني حاضراً في ذاكرة العراقيين، لم يكن قائداً عادياً، بل رمزاً للوحدة في بلد أنهكته الانقسامات. ولذلك فإن محبة العراقيين له لم تأت من فراغ، بل من مواقفه، ومن قدرته على الجمع بين القيادة السياسية والبعد الإنساني، وهي معادلة نادراً ما اجتمعت في شخصية سياسية عراقية بعد 2003.
مام جلال لم يكن مجرد رئيس للجمهورية، بل كان أباً سياسياً جامعاً، وصوتاً عاقلاً في زمن كثرت فيه الأصوات المتنافرة، ولعل الإجماع الشعبي على محبته يثبت أن العراق، رغم أزماته، لا يزال قادراً على إنجاب شخصيات تترك أثراً عميقاً في القلوب والعقول معاً.