سيناريوهات الصدام الداخلي وأبعاده
*مركز الامارات للسياسات/ وحدة الدراسات العراقية
يُواجِه العراق مفترق طرق خَطِر تحت الضغط الأمريكي لمواجهة الميليشيات وحل هيئة "الحشد الشعبي" التي تشكل الغطاء القانوني لها. ويزداد المشهد تعقيدا مع تصدّي إيران التي تشكل الراعي الإقليمي للميليشيات العراقية للوقوف بوجه دعوات نزع السلاح خارج الدولة، ما يرتب انعكاسات حادة على الواقع العراقي الذي يقف أمام سيناريوهات تصادم تحت الضغوط الأمريكية-الإيرانية المتقابلة، بين أجهزة الدولة الرسمية والفصائل المسلحة، أو بين المليشيات نفسها حول السلطة والنفوذ والبقاء.
الضغوط الأمريكية
صعّدت الولايات المتحدة ضغوطها باتجاه العراق، وشمل التصعيد مجموعة من الإجراءات المتزامنة:
1) تفكيك أهم شبكات تهريب الأموال والنفط لصالح إيران من طريق تفعيل أنظمة العقوبات الاقتصادية التي تتصاعد باستمرار، وليس مستبعدا أن تشمل مؤسسات مصرفية أو نفطية رسمية عراقية، في نطاق منهجية اعتمدتها الإدارة الأمريكية الحالية لتقويض المصالح الاقتصادية الإيرانية داخل العراق.
والعقوبات الأمريكية كانت لها انعكاسات على الاقتصاد العراقي، وعلى إمكانات الحكومة، خصوصا أنها شملت قرابة نصف المصارف الأهلية ومعظمها تابعة لأحزاب أو ميليشيات تمتلك اذرعا اقتصادية مؤثرة في استقرار السوق والعملة.
2) ضغوط سياسية مباشرة وغير مسبوقة مصحوبة بالتهديد لمنع إقرار قانون الحشد الشعبي وقانون تقاعد الحشد، وأطلقت السفارة الأمريكية في بغداد ووزارة الخارجية تحذيرات متلاحقة بهذا الشأن، وأكدت أن إقرار القانونين يمثل تكريسا للنفوذ الإيراني في العراق، فيما عَدَّ السفير البريطاني في بغداد عرفان صديق أن الحاجة إلى الحشد الشعبي انتفت بهزيمة الإرهاب، داعيا إلى حلّه، ما استدعى احتجاج الخارجية العراقية.
وبسبب هذه الضغوط تحوّل قانون "الحشد الشعبي" الذي سبق أن تمت قراءته الأولى في البرلمان من دون اعتراضات بداية العام الحالي إلى مصدر انقسام سياسي حاد انتهى بانسحابات من النواب الكرد والسنة في خلال القراءة الثانية منتصف شهر يوليو الماضي، فيما تصاعدت الانسحابات من القوى الشيعية نفسها لتحبط في بداية أغسطس الإقرار النهائي للقانون.
3) دعوات أمريكية رسمية إلى الحكومة العراقية للتعامل مع المليشيات وحل "الحشد الشعبي" أو دمجه بالقوى الأمنية، خصوصا في إثر الأحداث الأمنية الأخيرة مثل قصف محطات الرادار العراقية وحقول نفط كردستان والمطارات، والمواجهة المسلحة التي حدثت في منطقة الدورة ببغداد بين القوات الرسمية وعناصر مليشيا "كتائب حزب الله" الأكثر قربا من الحرس الثوري الإيراني، وجرت الإشارة إلى تورط المليشيا من السفارة الأمريكية أولا، ومن ثمَّ على لسان الحكومة العراقية التي أعلنت في بيان غير مجموعة إجراءات وعقوبات للواءين في الحشد الشعبي (45 و 46) التابعين لـ"الكتائب"، والأخيرة ردت ببيان ناري دعت فيه إلى "الحجر على قرارات السوداني".
4) رسائل وإشارات أمريكية يعبّر عن بعضها متحدثون رسميون ومنصات إعلامية ومراكز تفكير، حول إمكانية تعرّض مواقع المليشيات والحشد إلى الاستهداف العسكري الأمريكي أو الإسرائيلي المباشر، بالتزامن مع احتمالات استئناف المواجهة العسكرية مع إيران، وبعض تلك المؤشرات تطرح وضع العراق تحت العقوبات الأمريكية الشاملة . ويمكن ملاحظة أن واشنطن ضاعفت تمويل "جهاز مكافحة الإرهاب" الذي أُسِّسَ على يد الجيش الأمريكي والمعروف بعلاقته غير الودية مع المليشيات، في مقابل تخفيض التمويل السنوي للجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية. وفي هذا الشأن، تمثل قضية الجداول الزمنية للانسحاب العسكري الأمريكي من العراق التي تبدأ في سبتمبر الجاري تحديا جديا لطبيعة العلاقة الأمنية العراقية الأمريكية المستقبلية، مع أن حكومة السوداني حاولت التقليل من شأن تحدّ كهذا.
5) برود عام في التعاطي الأمريكي مع الدبلوماسية الرسمية وغير الرسمية العراقية، خصوصا مع تقديم العراق عدة طلبات إلى الجانب الأمريكي لتحديد موعد لزيارة رئيس الوزراء إلى واشنطن لم يتم الرد عليها، فيما تقلصت إلى الحدود الدنيا الزيارات الدبلوماسية بين البلدين واقتصرت على الجوانب الأمنية والعسكرية. وحتى الآن لم تُعيّن الإدارة الأمريكية الحالية سفيرا لها في بغداد منذ انهاء مهام السفيرة السابقة إلينا رومانسكي في نوفمبر من العام الماضي، ويدير السفارة التي قلصت موظفيها إلى أدنى الحدود القائم بالأعمال ستيفن فاجن، الذي يتولى أيضا منصب سفير الولايات المتحدة لدى اليمن.
الضغوط الإيرانية
ما كانت إيران بعيدة بدورها عن الحراك الأمريكي لتقويض نفوذها في العراق، وواصلت إعلاناتها عن دعم لـ "الحشد الشعبي" و"فصائل المقاومة"، وهو المصطلح الذي تفهمه طهران باعتباره شاملا المليشيات الأكثر ارتباطا بها مثل "كتائب حزب الله" و"عصائب أهل الحق" و"كتائب سيد الشهداء" وغيرها، بل أيضا التدخل المباشر لرفض الدعوات المتصاعدة إلى نزع سلاح المليشيات وبعض تلك الدعوات انطلقت من المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني الذي طالب في يونيو الماضي عبر ممثله في كربلاء عبد المهدي الكربلائي بحصر السلاح بيد الدولة، موضحا أن "الشعب العراقي ليس بمنأى عن تداعيات الصراع القائم في المنطقة، وعلى العراقيين التسلح بالوعي والبصيرة، وندعو إلى بناء البلد على أسس صحيحة".
وقد فُهِمَت تحذيرات السيستاني المنقطع عن الادلاء بآراء سياسية مباشرة منذ قرابة خمس سنوات باعتبارها تؤشر إلى ضرورة معالجة الخلل في التعاطي الرسمي مع المليشيات، ومع قضية "الحشد الشعبي"، في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية والتهديدات التي يتعرض لها العراق.
الرد الإيراني في هذا الصدد جاء على لسان علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني والشخصية النافذة في النظام، في خلال مقابلة مع الإعلام الإيراني، حيث أكد رفض إيران نزع سلاح "حزب الله اللبناني" و"الحشد الشعبي"، وأن الأخير "يؤدي في العراق الدور نفسه الذي يؤديه حزب الله في لبنان".
وكان لافتا أن ولايتي ربط الموقف الرسمي الإيراني باتصال أجراه مع رئيس الوزراء الأسبق وزعيم "ائتلاف دولة القانون" نوري المالكي، بالقول: "إن المالكي رجل شجاع، فهو من أصدر حكم إعدام صدام - الرئيس العراقي الأسبق - في عهده، وطرد زمرة "المنافقين" - مجاهدي خلق- من العراق". وأضاف إن "المالكي أكد في خلال الاتصال أن الولايات المتحدة وإسرائيل ستنتقلان بعد لبنان لاستهداف الحشد الشعبي في العراق، لكن إيران والعراق سيرفضان نزع سلاح حزب الله في لبنان أو الحشد الشعبي في العراق، وسيقفون في وجه ذلك (...) لولا الحشد الشعبي، لابتلع الأمريكيون العراق (...) إيران اليوم أكثر تماسكا وقوة من أي وقت مضى، وهي التي تمنع المخططات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، وهي مركز محور المقاومة".
وما يمكن تفسيره في إشارة ولايتي إلى المالكي بأنها موجهة بالدرجة الأساس إلى رئيس الوزراء العراقي الحالي محمد شياع السوداني وحكومته، خصوصا بعد البيانات الحكومية التي كشفت عن تورط مليشيا "كتائب حزب الله" بأعمال إجرامية داخل العراق، وقبل ذلك إلى لهجة السوداني في التعاطي مع المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة وعمله باتجاه عدم زج العراق في الحرب.
وبصرف النظر عن دوافع موقف السوداني، فإنه ساهم في شق صفوف الإطار التنسيقي والمليشيات حتى تلك الأكثر قربا من إيران، بالإشارة إلى وصف الناطق باسم "الكتائب" أحد قيادات الميليشيات بأنه "خائن الشيعة" نقلا عما سمعه عن زعيم فيلق القدس السابق قاسم سليماني، حيث ركزت التكهنات والمعلومات بأن المقصود بالمصطلح هو شبل الزيدي زعيم "كتائب الامام علي" المتحالف حاليا مع كتلة السوداني "الإعمار والتنمية" من طريق وزير العمل أحمد الأسدي.
واندرجت زيارة أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، إلى بغداد، في 11 أغسطس الفائت، في سياق إعادة ضبط البوصلة الأمنية لمساحة إيران الجيواستراتيجية، حيث وقَّع مع العراق مذكرة تفاهم أمنية جرى التأكيد رسميا أنها تتعلق بضبط الحدود بين البلدين، وأعربت واشنطن عن قلقها حولها باعتبارها قد تتضمن قيودا ومساحات تحرك أمنية إضافية لإيران داخل العراق. إن مضامين زيارة لاريجاني، ولقاءاته التي شملت شخصيات سياسية وقيادات في المليشيات كما يؤكد المطلعون تعلَّقت بالدرجة الأساس بدعم الحضور الأمني والعسكري والاقتصادي والسياسي الإيراني في العراق استعدادا لجولة جديدة متوقعة للحرب مع إسرائيل، حيث يلاحظ أن الخطاب السياسي الشيعي انتقل بعد الزيارة إلى الإصرار على إقرار قانون "الحشد" على رغم التحذيرات الأمريكية.
في السياق ذاته، شهد العراق زيارات أخرى لزعيم "فيلق القدس" إسماعيل قااني ومجموعة من قيادات "الحرس الثوري" الإيراني بعد توقف حرب الـ 12 يوما مع إسرائيل إلى بغداد والنجف والبصرة وصلاح الدين، بالإضافة إلى زيارات غير رسمية لقيادات عسكرية وسياسية، من بينهم وزير الخارجية عباس عراقجي في خلال مناسبة "الأربعينية".
وتشير المعطيات المحلية إلى أن من نتائج الحراك الإيراني تفعيل مجموعة من مليشيات الظل غير المعلن عنها سابقا، وتتشكل من عناصر محددة من الميليشيات الحالية المعروفة، تحسُّبا لتطورات الوضع في العراق، سواء على مستوى استجابة الميليشيات والقوى السياسية القريبة من إيران للضغوط الأمريكية، أو الحاجة إلى تنفيذ عمليات واسعة النطاق ومجهولة المصدر في حال تطور الموقف الإقليمي إلى مواجهة عسكرية جديدة.
سيناريوهات الصدام الداخلي في ظل التدافع الأمريكي-الإيراني
أمام هذه المعطيات يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات محتملة للصدام الداخلي بين القوى العراقية المرتبطة بالتدافع الأمريكي-الإيراني أو المتأثرة به:
السيناريو الأول:
المواجهة المفتوحة بين القوى الأمنية العراقية والمليشيات المختلفة، ومن ضمنها "الحشد الشعبي". يتطلب هذا السيناريو إقدام رئيس الوزراء العراقي باعتباره القائد العام للقوات المسلحة على اتخاذ سلسلة خطوات لنزع سلاح المليشيات واعتقال القيادات المتورطة فيها، وإعادة هيكلة "الحشد الشعبي" وتنظيفه من سطوة المليشيات.
لكن يبدو هذا السيناريو مُستبعدا حاليا، ومرد ذلك أن الحكومة العراقية الحالية تقف في موقف غاية في الحرج وهي على وشك خوض انتخابات برلمانية، فمن جهة تندفع واشنطن باتجاه نقل استراتيجية "الضغوط القصوى" إلى العراق في حال رفضت الحكومة شروط واشنطن المعلنة والضمنية، ما يرتب انهيارا اقتصاديا وأمنيا، وبالتالي تراجُعا في فرص كتلة رئيس الحكومة الانتخابية، خصوصا أن المشهد الشعبي العراقي العام مُناهض للمليشيات، ومن جهة أخرى، فإن الاستجابة للضغوط الأمريكية باتجاه تقويض المليشيات وقطع الارتباط الأمني والاقتصادي مع إيران، سيرتب انتقاما إيرانيا من طريق أذرع طهران الميليشياوية والسياسية النافذة، لا يقل خطورة على صعيد الانهيار الأمني والاقتصادي والسياسي ناهيك عن تراجُع فرص السوداني الانتخابية أيضا.
إن تمكن القوى الرسمية من هزيمة المليشيات في مثل هذه المواجهة -على رغم استبعاده- سيتطلب وسط عدم تكافؤ الإمكانات والفرص بين الطرفين تدخلا عسكريا أمريكيا مباشرا ضد المليشيات، وامتناع إيران عن التدخل لصالحها، ولا يبدو أن واشنطن التي تعمل على سحب تدريجي لقواتها بمعرض التورط بعمل عسكري جديد، فيما من المستبعد أن تتخلى إيران عن ميليشياتها داخل العراق من دون ثمن.
السيناريو الثاني:
المواجهات الميدانية بين المليشيات نفسها. يمكن القول إن هذا السيناريو ليس الأكثر ترجيحا في المدى القصير بسبب وجود مصدَّات أمام تحقيقه، منها عدم تقبُّل الجمهور الشيعي لمثل هذه المواجهة، وتدخل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في مثل هذه الحالات لحسم الموقف.
لكن شكل الضغوط المطروحة حاليا باتجاه المليشيات والخلافات المتصاعدة بين الفصائل، وحالة الاحتقان في صفوف التيار الصدري الذي يشكل قاعدة كبيرة للمسلحين، بالإضافة إلى احتمالات تجدُّد المواجهة العسكرية الإيرانية-الإسرائيلية، وحاجة طهران إلى أن يكون العراق أحد ساحات تلك المواجهة؛ جميعها عوامل لا تزال تدفع باتجاه هذا السيناريو، الذي قد يشمل تدخل القوى الأمنية لصالح إحدى المليشيات على حساب الأخرى.
والصدام المسلح لا يرتبط فقط باستراتيجية الأرض الإقليمية المحروقة في أي مواجهة إيرانية متوقعة، بل ثمة معطيات تجعل الأرضية مهيأة له، من بينها تضارُب المصالح الاقتصادية والتنازع حول النفوذ السياسي والمساحة في السلطة، والخوف من أجيال جديدة مدعومة إيرانيا تتمرد على الآباء المؤسسين للمليشيات في العراق.
وقبل ذلك يبدو أن الضغوط الأمريكية التي تتصاعد إزاء ضعف الأدوات الأمنية والعسكرية الرسمية واختراق المليشيات لها، واضطراب الإرادة السياسية للفاعلين، وأحيانا عجزها عن قراءة ومواكبة المتغيرات الإقليمية والدولية، تدفع المليشيات في هذه المرحلة إلى خوض صراع من أجل البقاء، بما يشمل استخدام كل إمكاناتها ووسائل تأثيرها لتحقيق هذا الهدف، سواء بالتنسيق مع طهران أو بمعزل عنها.
وعلى هذا الأساس يمكن تسويغ التصعيد الإعلامي لأدوات المليشيات النافذة، خصوصا على منصات التواصل الاجتماعي، سواء ضد بعضها البعض أو ضد المؤسسات الحكومية والقوى السياسية، أو ضد دول الجوار العربية، باعتبارها مقدمات لهذه المواجهة، فيما لا يمكن استبعاد أن تشهد المرحلة المقبلة تصاعد التصفيات الجسدية لقيادات سياسية أو ميليشياوية نافذة، بالإضافة إلى توسيع مديات استهداف التيارات المدنية والعلمانية، وصولا إلى سيناريوهات اكثر تطرفا مثل الانقلاب على النظام السياسي، وجميعها خيارات يجري تداولها في الأوساط الضيقة للميليشيات المعروفة في العراق بـ"الولائية" نسبة إلى الولاء الديني للمرشد الإيراني علي خامنئي.
واليوم التالي للحرب المفتوحة بين الفصائل، او انقلاب القوى المسلحة على النظام، سوف يقترن بالفوضى على مستوى تفكك الدولة وظهور مراكز قوى وقيادات عسكرية مهيمنة في المدن الرئيسة، وعدم استبعاد عودة تنظيم "داعش" إلى الواجهة.
السيناريو الثالث:
التهدئة على الجبهتين الداخلية والإقليمية بانتظار تغيير الحكومة الحالية وإعادة ترتيب الأوراق مع واشنطن. تُراهن معظم الأطراف السياسية، خصوصا الشيعية، على هذا السيناريو، ليس لأن المشكلة تتعلق بالحكومة الحالية، بل بسبب تجارب سابقة كان تغيير الحكومة مدخلا لتنفيس الاحتقان مع واشنطن، مثل دعم حيدر العبادي بديلا لنوري المالكي عام 2014، ودعم مصطفى الكاظمي بديلا لعادل عبد المهدي عام 2020. ومع أن مثل هذا الخيار لا يضمن رفع الضغوط الأمريكية عن المليشيات، إلا أنّه يربح الوقت ويضمن اشتراك الجانب الأمريكي في اختيار الحكومة الجديدة، وهو الأمر الذي غاب في خلال تشكيل حكومة السوداني، بما يضمن على الأقل إمكانية فتح منافذ جديدة للعلاقة. وما يدعم هذا السيناريو أيضا معلومات عن مساع إيرانية وأخرى تقوم بها أوساط المرجعية الشيعية في النجف لمنع الوصول إلى اشتباك مسلح شيعي-شيعي في هذه المرحلة.
لكن التحديات العاجلة التي تواجه هذا السيناريو يمكن أن تتمثل بمدى الاستعداد لتأجيل إقرار قانون الحشد إلى ما بعد الانتخابات والعمل على إعداد صيغة أقل إثارة لقلق واشنطن، ومستوى القبول بتجميد الفصائل المسلحة وإعداد جداول زمنية وعملية معلنة لقضية نزع سلاح المليشيات أسوة بجداول الانسحاب الأمريكي.
ومشروع جدولة نزع سلاح المليشيات في مقابل جدولة انسحاب التحالف الدولي من العراق ليس جديدا، فقد سبق أن طُرح على الأوساط السياسية والدينية العراقية منذ نهاية الحرب مع "داعش" عام 2018، وجرى تبنِّيه ضمنا في "مبادرة دعم السيادة" التي اقترحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2020 في إثر احداث تشرين/أكتوبر وعملية اغتيال قاسم سليماني، حيث تمخضت تلك المبادرة عن مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة عام 2021 بحضور ماكرون ومعظم زعماء الجوار العراقي، لكن المؤتمر لم يناقش بالتفصيل الشق الخاص بجدولة انسحاب التحالف الدولي في مقابل نزع سلاح المليشيات وتبنّى الجوانب الاقتصادية من المبادرة.
خلاصة واستنتاجات
لطالما استخدمت الحكومات العراقية المتعاقبة التدافع الاستراتيجي الأمريكي-الإيراني على الأرض والنفوذ الاقتصادي والسياسي والأمني الذي يمتلكه الطرفان على القرار العراقي، بوصفه معادلة توازن شديدة الحساسية، ينجح في تجاوزها من يقترب من نقطة المنتصف أكثر من سواه، وما كانت الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني بمعزل عن هذه المعادلة، بل إن المؤثرات غير المباشرة التي تبثها مرجعية النجف في مراحل اختيار رؤساء الوزراء من بين مرشحي القوى الشيعية المختلفة كانت تعتمد المعادلة نفسها، التي تتبناها القوى الكردية والسُّنية أيضا بدرجات مختلفة في اختيار المرشحين للمناصب الرئاسية العليا.
إن اللحظة الحرجة التي تقف فيها حكومة السوداني وقوى "الإطار التنسيقي" المهيمنة اليوم لا تتعلق بمحاولة "مسك العصا من الوسط" وهو التعبير الأكثر شيوعا في الأوساط السياسية العراقية، بل إن نقطة "الوسط" تلك قد تغيرت عما كانت عليه، ابتداء من أحداث 7 أكتوبر 2023 وما تبعها من متغيرات إقليمية، ومن ثمَّ قدوم الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة دونالد ترمب برؤية جديدة للدور الأمريكي على الصعيد الدولي، وفي المناطق الحساسة أمنيا ومن ضمنها العراق.
قد تكون إيران أكثر استعدادا في إثر انهيار نظام الأسد وتراجع "حزب الله"، وانعكاسات الحرب المباشرة مع إسرائيل، للقبول بـ"نقطة الوسط" لنفوذها داخل العراق، وذلك على رغم أنها سعت حثيثا في خلال العقدين الماضيين إلى فرض السيطرة المطلقة على هذا البلد، الا أن سياسات واشنطن تجاه العراق اختلفت، وهي تفرض اليوم قواعد وقياسات جديدة، بما يدفع سريعا إلى إنهاء حالة التوازن الهشة التي حكمت العراق طوال المرحلة الماضية.
إن توقيت المتغيرات الأمريكية تجاه العراق، والذي يتزامن مع التطورات الجيوسياسية الإقليمية وقرب تطبيق خطة الانسحاب التدريجي من القواعد العسكرية الأمريكية، يضع واشنطن بموقف أكثر ارتياحا لتوجيه المزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية التي لا تستدعي بالضرورة التدخل العسكري المباشر، لكن التوقيت نفسه مختلف عراقيا، فهو يتزامن مع الاستعداد للانتخابات النيابية التي يقاطعها التيار الصدري ومعظم المدنيين، ومع أزمة اقتصادية ومالية تنمو بشكل مضطرد، وتفكُّك في العلاقات بين المكونات الاجتماعية الرئيسية.
وتحاول الحكومة العراقية ضمان تمركز آمِن وسط هذه الأزمات، وإن اضطرت إلى ضرب بعض مصالح المليشيات والقوى السياسية الشيعية الرئيسة، لكن الأخيرة وخصوصا تلك الأكثر قُربا من إيران ترى أنها صاحبة الفضل الأساسي في تشكيل هذه الحكومة، ولن تسمح لها بـ "التمرد" تحت الضغط الأمريكي.
ومع أن الصدام الداخلي بين كل هذه العوامل، أو بتأثير منها، قد لا يكون الهدف النهائي لأيّ من أطراف الازمة، إلا أن المعطيات المطروحة ما زالت توفر الأرضية لهذا السيناريو، على رغم أن تدهور الأمور في العراق إلى الاشتباك بين الميليشيات أو مع الدولة لا يزال أقل ترجيحا من احتمالات تصدِّي القوى السياسية والدينية لمشروع تهدئة يسعى إلى إعادة التوازنات الأمريكية-الإيرانية في العراق على قاعدة متغيرات ما بعد 7 أكتوبر.