×


  کل الاخبار

  الخصم الرقمي "سلاح صامت" يعيد رسم توازنات قوة القرار السياسي



*محمد الخزاعي

  

لم تعد أدوات الصراع السياسي في العصر الذكي محصورة في ميادين المناكفات التي تطورت "سلبا" إلى الابتزاز مرورا بالتسريبات والتجسس في التنافس غير النظيف داخل قواعد الشراكة في السياسة التقليدية، بل انتقل بهدوء وفعالية تصاعدية خطرة إلى الفضاء الرقمي، إذ برز مفهوم "الخصم الرقمي" بوصفه سلاحا ناعما عالي التأثير في إدارة المخاطر وتوجيه السلوك العام وصناعة القرار.

فالخصم الرقمي أصبح هو الفاعل سواء أكان على مستوى دولة أم جماعة أم أحزاب أم شبكة مصالح، "تستغل" الأدوات الرقمية والمعلوماتية في الفضاءات السيبرانية والذكاء الاصطناعي للتأثير في الخصوم، من خلال إرباك الوعي، وتفكيك الثقة، وإعادة تشكيل الأولويات العامة من دون إعلان حرب صريحة تعتمد على تحليل البيانات الضخمة، والحملات النفسية الرقمية، والهجمات السيبرانية الموجهة لفرض نوع جديد من إدارة المخاطر، من خلال نقلها إلى الخصم من بوابة: تضخيم الانقسامات، وتوجيه الرأي العام، وإنهاك المؤسسات، أو دفع النظام السياسي إلى اتخاذ قرارات خاطئة أو ارتجالية مبنية على "الترند" ومعلومات مضللة أو حملات تشكيك ممنهجة. ففي البيئة العراقية أصبح الخصم الرقمي يكتسب حساسية مضاعفة في بلد ما زال في طور استكمال بناء مؤسساته ويعاني هشاشة الثقة بين المواطن والسلطة، ويعيش تعددية سياسية حادة، تشكل ساحة خصبة لهذا النوع من الصراع "الخصم الرقمي".

وتكمن خطورة هذا التحول؛ في أن الفضاء الرقمي لا يعمل بمنطق الصدام المباشر، بل بمنطق التراكم البطيء والتأثير غير المرئي،  إذ تُبنى القناعات تدريجيا، وتُعاد صياغة الصور الذهنية عن الدولة ومؤسساتها الدستورية والفاعلين السياسيين، من خلال توجيه الخوارزميات لجعلها تتحكم في ما يَخفى أكثر مما يُرى، وبما يُضخّم وما يُهمّش.

فالخصم الرقمي في راهننا المتصارع، لا يحتاج إلى إسقاط النظام أو شلّ مؤسساته بالقوة، بل يكفيه أن يُضعّف ثقة الجمهور بالقرار وصانعه، وأن يُربك الفواعل السياسية من خلال سيل من الضغوط النفسية والإعلامية المتزامنة، التي تجعل من اتخاذ القرار عملية محفوفة بالمخاطر ما يضطرهم إلى سياسة إطلاق بالونات الاختبار لـ(القرارات) على المنصات الرقمية وإلى أن يراقبوا ردود الافعال التي وبحسبها سيصدر القرار بالصيغة الرسمية أو يُنفى بداعي "منشور مزيف"، وبخاصة حين يُصبح الرأي العام الافتراضي أكثر تأثيرا من الوقائع الميدانية أو التقديرات المؤسسية الرصينة.

وفي هذا المسار الشائك، تتقاطع أدوات الخصم الرقمي مع بنية اجتماعية شبابية محتقنة سلفا، متصلة على مدار الساعة، تعيش في بيئة إعلامية مفتوحة- منفتحة بلا قيود، تفتقر أحيانا إلى مهارات التحقق والتفكيك النقدي للخطاب. ومن هنا تتحول المنصات الرقمية من وسيلة للتعبير والمشاركة إلى مسرح لصناعة الاستقطاب والاستزراع المهجن لجيل رقمي يختزل النقاش العام في ثنائيات حادة، ويعيد تعريف الوطنية والفساد والإصلاح وفق منطق الحملات مدفوعة الأجر، لا وفق معايير الدولة والقانون واحترام عقائد المجتمع.

هذا النمط من الاشتباك الرقمي يعيد بشكل أو بآخر تشكيل مجالات العمل السياسي من القاعدة، ويخلق فاعلين جددا خارج الأطر الحزبية التقليدية، بعضهم مدفوع بحسن نية او مُنقاد للعقل الجمعي، وبعضهم الآخر جزء من شبكات منظمة تعمل على توجيه المزاج العام وفق أجندات محددة ومؤقتة لتحصيل نتائج مؤثرة في عمليات الدفاع والهجوم.

إنّ المتتبع لمجريات ما يحدث بين الأروقة السياسية سيرى سواء عن قصد أم من دونه، أن "الخصم الرقمي" أصبح جزءا من هذا الفضاء الدخيل على أعراف العمل السياسي التقليدية، إذ باتت المنصات الرقمية تُستخدم كساحات اشتباك سياسي تتداخل فيها الدعاية والتسقيط وتصفية الحسابات، مع مصالح إقليمية ودولية ترى في العراق مجالا مفتوحا لتجريب أدوات التأثير الرقمي في ساحة واقعية خصبة، وبخاصة بعد انعكاس هذه المخاطر على العملية السياسية ومخاض تشكيل الرئاسات الثلاث والكابينة الحكومية، من خلال تضخيم الأزمات وصناعة موجات غضب أو إحباط سريعة، وقد لا تستند دائما إلى وقائع دقيقة بل تعتمد على غياب الوعي الذي قد يقود العملية السياسية بعد سنوات قليلة نحو مزيد من (الشعبوية الرقمية)، إذ يُقاس النفوذ بعدد الفاعلين الرقميين من المتابعين لا بعمق البرامج، فضلا عن أن التحالفات تُدار تحت ضغط “الترند” لا وفق حسابات الدولة والمصلحة العامة.

وتزداد إشكالية الخصم الرقمي حين يتقاطع مع ضعف الاتصال الاستراتيجي الحكومي، وغياب السردية الوطنية الموحدة القادرة على تفسير القرارات وامتصاص الصدمات.

ففي الفراغ المعلوماتي، تزدهر الشائعات، وتُعاد صياغة الأحداث بما يخدم روايات متناقضة، ويصبح المواطن أسيرا لتدفق متسارع من الأخبار غير المتحقق منها، ما يخلق حالة من الإرهاق الذهني وفقدان اليقين. وعند هذه النقطة، لا يعود الخطر محصورا بالتأثير في الرأي العام، بل يمتد إلى إضعاف قدرة الدولة على التخطيط طويل الأمد، لأن القرار السياسي يصبح رهينة ردود الأفعال الرقمية الآنية.

غير أن الخصم الرقمي بوصفه أداة- وليس شرا مطلقا. فكما يُستخدم في الإرباك، يُمكن فهمه واستثماره في إدارة المخاطر وبناء المناعة الوطنية، وهنا يبرز دور إدارة الوعي وبخاصة لدى الشباب القادة الذين يشكلون الفاعل الأكثر حضورا وتأثرا في الفضاء الرقمي ومن كلا الجنسين، وليس تحويلهم إلى أدوات مواجهة، بل تمكينهم من فهم آليات التأثير والتفريق بين المعلومة والرواية، وبين النقد المشروع والحرب النفسية، وبناء خطاب رقمي مهني، عقلاني، حيادي، يوازن بين فضاء الحرية والمسؤولية الوطنية. كما أن الاستثمار في التربية الإعلامية والرقمية، وتطوير وحدات الرصد والتحليل داخل المؤسسات، وبناء شراكات مع النخب الأكاديمية والإعلامية، يمثل مسارا ضروريا لتحويل التحدي إلى فرصة.

إنّ الخصم الرقمي واقع لا يمكن تجاهله، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن يكون قدرا محتوما، فما بين السلاح الناعم الذي يهدد الاستقرار، وبين أدوات “رقمية- ذكية” يمكن توظيفها في إدارة المخاطر وبناء الدولة؛ يقف الوعي السياسي والرقمي بوصفه خط الدفاع الأول، لأن مستقبل العملية السياسية العراقية؛ سيتحدد بمدى قدرتها على فهم هذا التحول والتعامل معه بعقلانية فنّ الممكن الاستراتيجي، لا بردود أفعال آنية، وبخاصة أنّ التجارب المعاصرة تُظهر أن الدول التي نجحت في تحجيم أثر "الخصم الرقمي" لم تعتمد فقط على الحلول التقنية أو التشريعية، بل استثمرت في الإنسان الواعي، القادر على قراءة السياق وتحمّل المسؤولية الوطنية، وتحليل الخطاب، وإدارة الاختلاف من دون الانجرار إلى الاستقطاب.

وفي العراق: يشكل هذا المسار فرصة تاريخية لتحويل الفضاء الرقمي من ساحة استنزاف سياسي إلى مختبر نضج ديمقراطي يقوده شباب يدركون أن القوة الحقيقية في العصر الرقمي ليست في الضجيج، بل في الوعي.

*كاتب ومحلل سياسي عراقي

*الميادين.نت


21/12/2025