×

  الاعلام و التکنلوجیا

  رواية القصة الخبرية بالفيديو ودورها في صناعة الأخبار بالمنصات الرقمية: دراسة ميدانية



تسعى الدراسة إلى تقصي دور تقنية "رواية الخبر بالفيديو" في المنصات الرقمية، وتحديد أثرها في صياغة الأخبار وتناقلها عبر تلك الوسائط وطبيعة تفاعل الجمهور التواصلي معها، فضلًا عن التعرف على أبرز سمات تقنية رواية الخبر بالفيديو وخصائصها ومفهومها. وتستند الدراسة على استطلاع آراء عينة تتكوَّن من 150 مشاركًا من 11 دولة عربية من رواد المنصات الرقمية، والتعرف على وجهات نظرهم في تقنية رواية الخبر بالفيديو وتفاعلهم معها. وأظهرت الدراسة أن نسبة 66% من العينة ترى أن "الفيديو الإخباري" أكثر قدرة على إيصال المضمون الخبري، في حين تتابع نسبة 19.3% من العينة الأخبار على المنصات الرقمية عبر تقنية رواية الخبر بالفيديو. كما بيَّنت الدراسة أن منصة "الجزيرة بلس" (AJ+) أكثر متابعة من طرف العينة تليها منصة "قناة الجزيرة".

عبد اللطيف حيدر

تتعدد تقنيات رواية الخبر بصورة متسارعة كلما برز جديد في البيئة التواصلية، التي تشهد تقدمًا متواصلًا في ظل عالم رقمي ديناميكي ومتطور. وتؤثر هذه التطورات التقنية والتحولات الرقمية في آلية رواية الخبر، وتفرض على محرري الأخبار ابتكار طرق وآليات جديدة لمواكبة الطفرة الرقمية المتسارعة؛ إذ يدور مع هذه الحلقة دائمة الدوران ذوق الجمهور، واحتياجاته وطرق الوصول إليه. هكذا ظهرت تقنية "رواية الخبر عبر الفيديو" لإيصال مادة إخبارية سريعة تتضمن عناصر القصة الخبرية بصيغة مبسطة، خلال مدة زمنية قصيرة إلى الجمهور الرقمي، وذلك في عالم تشكِّل السرعة والجاذبية أبرز عناصر التأثير فيه.

إن هذا التطور المذهل الذي يحفل به المشهد الرقمي يومًا فيومًا، فرض ذاته بقوة، الأمر الذي أحدث تحولًا عميقًا وجذريًّا ليس في آلية الاتصال والتواصل فحسب، وإنما كذلك على الصعيد الإنساني. فالاحتياجات التواصلية والتفضيلات الشخصية لدى "إنسان الرقمنة" ليست هي نفسها لدى جيل النظم الاتصالية التقليدية، بل ولدت معها اهتمامات وطموحات واحتياجات وآمال جديدة تلبي الحاجة اللحظية للفرد في الاتصال والمعرفة وتنظيم شؤون حياته وفقًا لمنطق عصره.

وفي ظل هذه المستجدات المتدفقة وجدت غرف الأخبار نفسها أمام تحديات جوهرية، تتمثَّل في مدى قابليتها للمواكبة والتحديث في روايتها للأخبار ومحاولة استيعاب هذا التطور المتنامي في المجتمع الرقمي. كما فرضت القوالب الجديدة في التعامل مع الأخبار على الصحافي تحديات تتمثَّل في مدى قدرته على الاستجابة لها، والتكيُّف مع وسائلها الجديدة بما يؤهله للمضي قدمًا في مواكبة هذا السباق الرقمي المتسارع. فقد أصبح يحتاج إلى المهارات الرقمية على سعتها وتعددها، زيادة على الفنون التحريرية التي تتناسب مع الفضاءات الجديدة التي أنشأتها الثورة الرقمية الحديثة.

فضلًا عن الأسئلة التقليدية التي كان يسألها الصحافي من قبيل: ما الموضوع الذي سأتناوله؟ ومن أين أبدأ؟ وكيف سأنتهي؟ أصبحت أسئلة اليوم في سياق الرقمنة الجديدة، هي: كيف سأقدِّم القصة؟ وأين سأنشرها؟ ومن سيتابعها؟ وكيف سيكون التعامل معها؟ وكثيرة هي الأسئلة الكفيلة بأن تحدد لنا ملامح عالم اليوم، أي "مجتمع الرقمنة" (Digital Community).  

هذه التقنيات الحديثة التي أتاحها التحول الرقمي دفعت العديد من المؤسسات الإعلامية العربية إلى تبني هذا القالب الجديد، وأنشأت منصات رقمية خاصة تقوم على أسلوب السرد القصصي للأخبار في المجتمع الرقمي. وبرزت منصة "الجزيرة بلس" (+AJ) في 2014 ضمن القطاع الرقمي لشبكة الجزيرة الإعلامية، وجاءت بعدها منصات اتخذت من الميدان الرقمي منطلقًا، مثل منصة "رصد" ومجلة "ميم" و"قدس"، و"نون بوست"، و"أنا العربي" وغيرها كثير، والتي تعتمد تقنية رواية الخبر بواسطة الفيديو. كما أن أغلب الصحف والمجلات والقنوات التليفزيونية والمواقع الإلكترونية باتت تستخدم هذه التقنية للوصول إلى جمهورها الرقمي.

لم يتوقف الأمر عند تصدر هذه المنصات للمجتمع الرقمي فحسب، وإنما باتت هذه التقنية تغزو التليفزيون يومًا فيومًا، وتشكِّل عمودًا فقريًّا لبعض برامج التليفزيون التي تقوم على تناول محتوى منصات التواصل الاجتماعي. وباتت هذه البرامج عبارة عن قصص رقمية قصيرة لكنها تبث على شاشات التلفاز، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام تساؤلات عن آفاق نمو هذه القالب الجديد.

 

1. الإطار المنهجي والنظري للدراسة

أ- أسئلة الدراسة

إن تنامي تقنية رواية الخبر بالفيديو عبر المنصات الرقمية وزحفها المتسارع إلى شاشة التليفزيون، يوحي بتحول جوهري في نمط التعاطي مع الأخبار. ويتأثر هذا التطور في مضامين صناعة الأخبار ببعدين رئيسين يتمثَّلان في عاملي التقنية والعامل البشري. ولاستجلاء أبعاد الموضوع يستدعي الأمر الإجابة عن الأسئلة الآتية:

- ما الدور الذي تلعبه تقنية رواية الخبر بالفيديو في صناعة الأخبار عبر المنصات الرقمية؟

- ما تقنية رواية الخبر بالفيديو وما مفهومها؟

- ما خصائص تقنية رواية الخبر بالفيديو؟

- هل باتت تقنية رواية الخبر بالفيديو تحتل صدارة التفاعلات عبر المنصات الرقمية؟

- من هو جمهور تقنية رواية الخبر بالفيديو؟

- هل أصبحت تقنية رواية الخبر بالفيديو الأكثر قدرة على إيصال المضمون الخبري في المنصات الرقمية؟  

- هل تؤثر تقنية رواية الخبر بالفيديو على الرواية التقليدية للأخبار في المجتمع الرقمي؟

ب- أهداف الدراسة وأهميتها

تسعى الدراسة إلى تحقيق ثلاثة أهداف، يتمثَّل أولها في محاولة تحديد الدور الذي باتت تضطلع به تقنية رواية الخبر بالفيديو على المنصات الرقمية باعتبارها مصدرًا للأخبار، وذلك من خلال التعرف على طبيعة تفاعل الجمهور معها كونها تقنية حديثة في صناعة الأخبار. فيما يتمثَّل الهدف الثاني للدراسة في التعرف على أبرز دوافع الجمهور لمتابعة الأخبار عن طريق تقنية رواية الخبر بالفيديو. ويتمثَّل الهدف الثالث في السعي إلى معرفة مفاهيم وخصائص تقنية رواية الخبر بالفيديو، باعتبارها رافدًا جديدًا في عالم صناعة الأخبار.

 وتتجلى أهمية الدراسة في تقصي دور هذه التقنية والنقلة النوعية التي أحدثتها لرواية الخبر الصحافي في الفضاء الرقمي؛ إذ باتت رواية الخبر باستخدام الفيديو ظاهرة تجتاح هذا الفضاء بوتيرة متسارعة. وتستند إلى ما تتميز به من سمات وخصائص تتسق مع الذوق التواصلي لجمهور المنصات الرقمية العريض. كما تبرز أهمية الدراسة في استقصاء أدوار هذه التقنية الجديدة في الفضاء التواصلي من خلال دراسة ميدانية تستطلع آراء جمهور المنصات الرقمية في هذه التقنية وتفاعلهم معها.

ج- الحدود المكانية والزمانية للدراسة

تقتصر الدراسة على جمهور منصات التواصل الاجتماعي من ناشطين وصحافيين ورواد المنصات الرقمية وأبرزها تويتر وفيسبوك وإنستغرام باعتبارها من أكثر المنصات التي يوظفها الجمهور الرقمي في العالم العربي للتفاعل مع الأخبار والحصول عليها. أما الحد الزمني للدراسة فيبدأ من 1 سبتمبر/أيلول 2021 إلى غاية 30 يناير/كانون الثاني 2022.  

د- الدراسات السابقة

بالرغم من تعاظم الهجرة البشرية إلى العالم الرقمي على نحو دائم، لا تزال مسألة القوة التأثيرية لهذه الشبكات محل جدل بين الدارسين للمجتمع الرقمي. فبينما تتحدث دراسة الأكاديمي، عبد الله الحيدري(1)، عما تسميه "صناعة المعجزات" بأصنافها السياسية والاقتصادية والثقافية الذي تقوم به "الميديا الاجتماعية" في مجتمع اليوم، إلا أنها ترى في ذات الوقت أن العامل الرقمي ليس الفاعل الوحيد، إنما المزج بين شبكة من العناصر الإنسانية والتقنية، وأن الأحداث لا تصنعها تكنولوجيا الاتصال ولا تقودها، بقدر ما تكون وليدة نسيج معقد لتفاعلات إنسانية-تقنية (Humano-Technical). وذهب الأكاديمي، كمال حميدو(2)، المذهب نفسه؛ إذ يرى أن الشبكات الاجتماعية الافتراضية لها قوة تأثيرية لا يستهان بها في تحريك الجماهير، لكن هذا التأثير -وفق ما يراه- لا يكون سابقًا للتحرك في الواقع الفعلي، إنما يكون تاليًا له، فيستمد أهميته من تدخله عامًلا مسرِّعًا لحراك يكون العالم الحقيقي هو منشأه، وليس الفضاء الافتراضي.

إن هذا الجدل بشأن القدرة التأثيرية للفعل الرقمي، تصاحبه رؤى أخرى تذهب إلى أن رواية القصة الخبرية في العصر الرقمي تُعد ثورة جديدة بحد ذاتها، بل تمثِّل الثورة الثالثة بعد الثورة التي أحدثها اختراع الطباعة، تليها الثورة الصناعية، بل وأطلق باحثون على تقنية رواية الخبر رقميًّا مصطلح "الأخبار الجديدة"(3)؛ وهو ما يشير إلى تحول نوعي في عالم صناعة الأخبار لا يقتصر على آلية صياغة الأخبار وروايتها فحسب، وإنما انعكس ذلك على طبيعة علاقة وسائل الإعلام بالجمهور؛ إذ يرى باحثون أن الإنترنت أثبت نفسه أقوى وسيلة تأثيرية في عالم الأخبار في مئة العام الأخيرة أكثر من الراديو والتليفزيون وتليفزيون الكابل(4).

في 2016، أجرى معهد رويترز لدراسات الصحافة بحثًا حول القطاع الرقمي بالعديد من المؤسسات الإعلامية من خلال 30 مقابلة مع مسؤولي هذه القطاعات للتعرف على آلية عمل القصص الخبرية بالفيديو ومدى تفاعل الجمهور معها، فأظهرت الدراسة أن القصص الإخبارية القصيرة الأكثر تفاعلًا عبر المنصات الرقمية هي التي لا تتجاوز مدتها دقيقة، وتركز على الأخبار التفاعلية وتتضمن عناصر ذات طابع انفعالي أو عاطفي(5). وهنا إشارة إلى نوع آخر يميز رواية القصص الخبرية رقميًّا بصورة أكثر فعالية، هي خلق جو نفسي قريب بين القصة الخبرية والجمهور، بعكس الرواية الرسمية الجادة وقوالبها التي تحكم الصياغة الخبرية التقليدية.

إن السمات الخاصة التي تتمتع بها القصص الرقمية، والتي تتضمن عناصر جذب، تجعلها تتميز بعلاقة خاصة مع جمهور المنصات الرقمية وآلية تفاعله مع محتواها، فقد توصلت دراسة ميخائيل فافيديس (Michail Vafeiadis) وزملائه(6) إلى أن زيادة العناصر المرئية على القصة الخبرية لها تأثير مهم في عملية الإدراك. كما أن المادة المرئية التي تتضمنها القصة التفاعلية تؤثر في اتجاهات القضية المتفاعلة، وكذا في السعي إلى البحث عن المعلومات، فضلًا عن التضامن مع القصة الخبرية. فيما تشير دراسات أخرى(7) إلى أن نوع الجمهور التواصلي الجديد اختلف عن سابقه وبات يتطلع إلى المتابعة الآنية للحصول على أبرز التحديثات على الشبكات الرقمية حال وقوعها وبصورة متواصلة وهذا ما يجعل القصة الرقمية التفاعلية أكثر جذبًا لاهتمامه.  

وبخصوص تحليل محتوى المنصات الرقمية التي تعتمد رواية الخبر بالفيديو، أظهرت دراسة لحسن سكور(8) التي حللت تجربة منصة "الجزيرة بلس" (+AJ)، باعتبارها منصة رقمية تقدم القصص الإخبارية القصيرة لجمهور منصات التواصل الاجتماعي، أن 76% من القصص الإخبارية بالفيديو تبلغ مدتها أقل من دقيقتين. وفيما يتعلق بالمصادر التي اعتمدتها القصص؛ فإن 49% منها مصادر إعلامية، بينما لم تتجاوز المصادر من منصات التواصل 10%، كان لتويتر الحصة الأكبر بنسبة 48% والمرتبة الثانية لفيسبوك بـ5% فقط. وفيما يتعلق بالتفاعل والمشاركة أشارت الدراسة إلى أن المنصة تعتمد بشكل كبير على تفاعلات الجمهور؛ إذ إن 58% من القصص تتضمن تفاعلات الجمهور من صور وفيديوهات وتعليقات وشكاوى.

في ضوء ما تقدم، يمكن القول: إن الصعود المتنامي لرواية الخبر بالفيديو أصبح علامة فارقة وتحوًلا نوعيًّا في عالم صناعة الأخبار وصحافة اليوم، بل أصبح عنصرًا رئيسيًّا في المؤسسات الإعلامية، باعتباره استجابة ضرورية لحاجة إنسان عصر الرقمنة. وبالنتيجة، فإن هذه الحاجة التواصلية باتت محركًا محوريًّا للعمل الصحفي برمته، وهي في غرف الأخبار الرقمية في غاية الأهمية؛ مواكبةً لتطورات تقنيات التواصل وآليات العمل الصحافي.

يلاحظ أن الدراسات -خصوصًا العربية- التي تناولت تقنية رواية الخبر بالفيديو، باعتبارها ميدانًا خصبًا وظاهرة جديدة في الفضاء الرقمي، ما زالت قليلة. لذا، جاءت هذه الدراسة للإسهام في جهود استقصاء آراء الجمهور في الموضوع ومدى تفاعله مع تقنية رواية الخبر عبر الفيديو، وطبيعة دور هذه التقنية في الفضاء الرقمي العربي.   

ه- منهج الدراسة

تعتمد الدراسة المنهجَ الكمي، وتطمح إلى الحصول على نتائج دقيقة من خلال استمارة استبيان لتقصي آراء عينة من الصحافيين والناشطين ورواد المنصات الرقمية عن استخدامهم لهذه المنصات، وتفاعلهم مع تقنية رواية الخبر بالفيديو. وتستخدم الدراسة أداة الاستبيان لاستطلاع آراء عينة قصدية تتكون من 150 مشاركًا من نشطاء وصحفيين ورواد منصات التواصل الذين يستخدمون الفضاء الرقمي للحصول على الأخبار، وذلك في 11 دولة عربية خلال الفترة من سبتمبر/أيلول 2021 وحتى يناير/كانون الثاني 2022.

و- مجتمع البحث وعيِّنته  

اعتمد الباحث طريقة العينة العمدية من رواد منصات التواصل الاجتماعي، فقام بتصميم استمارة الاستبيان وأرسلها إلى عدد من الصحافيين والناشطين ورواد الشبكات الاجتماعية في شكل رسائل شخصية أو عبر مجموعات "الواتساب" ومختلف المنصات الرقمية الأخرى؛ فكانت نتيجة ذلك 150 مشاركًا في الاستبيان. 

ز- تصميم الاستبيان

اعتمد الباحث في تصميم استمارة الاستبيان على وصف الأدوار التي تلعبها المنصات الرقمية، وسمات مستخدمي هذه المنصات وطبيعة تفاعلهم معها. واستند الباحث في ذلك على خبرته صحافيًّا وباحثًا مختصًّا في المنصات الرقمية، فضلًا عن العديد من الدراسات التي سعت إلى تقصي أدوار المنصات الرقمية، وآلية اشتغالها.

وبعد أن صمم الباحث استمارة الاستبيان استنادًا إلى عدد من النماذج والدراسات التي تناولت آلية عمل المنصات الرقمية، عرضها على محكَّمَيْن* مختصين، فنقَّح الباحث الاستمارة وأدخل التعديلات بناء على ملاحظاتهما.  

ح- النظريات الاتصالية للدراسة

في دراسة موضوعات تتداخل فيها التقنية مع الحاجة الإنسانية لن تسعف مقاربة نظرية أحادية في الإجابة عن تساؤلات البحث بشأن تأثير التطورات في المجتمع الرقمي التواصلي من وجهة نظر المنخرطين في تفاصيل هذا الفضاء الرقمي. لذا، يسعى الباحث من أجل تفسير نتائج الدراسة إلى استخدام نظريتي الاستخدامات والإشباعات والحتمية التكنولوجية. ورغم أن هاتين النظريتين تقليديتان إلا أنهما يوظفان في دراسات الفعل الرقمي.

- نظرية الحتمية التكنولوجية

تركز نظرية الحتمية التكنولوجية لمارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan) على الوسيلة باعتبارها المحدد الأبرز في تأثير التقنية على البشر تاريخيًّا؛ إذ ينطلق ماكلوهان من الاعتقاد بأن كل تكنولوجيا تسعى إلى خلق محيط إنساني جديد؛ فورق البردي والمخطوطات اليدوية هي التي خلقت المحيط الاجتماعي. فالبيئات التكنولوجية ليست مجرد بيئات جامدة، بل هي سيرورات متحركة تعيد قولبة الكائنات البشرية(9). وفي كتابه "الوسيلة هي الرسالة" يرى ماكلوهان أن التبعات الاجتماعية التي تخلقها أية وسيلة إعلامية إنما هي عبارة عن نتيجة للامتدادات التي أدخلناها إلى حياتنا ولما أحدثته أية وسيلة تكنولوجية جديدة(10). ولعل ماكلوهان من خلال صياغته لفرضية التأثير الحتمي للوسائل التكنولوجية على البشر والمجتمعات إنما أراد أن ندرك أن جوهر الوسائل التكنولوجية يتجاوز في تأثيره الأبعاد المرتبطة باستخدامها المجرد. والحتمية التكنولوجية تعني فرضية البنية الفكرية الرقمية الفريدة التي بدأت تتمخض عنها في عقول الجيل الرقمي منذ بداية القرن الحادي والعشرين بما أصبح يمهد لنوع من القطيعة الحادة مع البنية الفكرية التي رافقت البشرية في تحولاتها منذ عصر الكتابة(11).

إجمالًا، يمكن القول: إن نظرية الحتمية التكنولوجية تتمحور حول أهمية الفاعل التقني في التأثير على نمط السلوك البشري بما يتواءم مع حاجياته واستعداده الفكري؛ ولهذا فإن العامل التكنولوجي يُعد عنصرًا جوهريًّا في تفسير السلوك الإنساني في التعامل مع وسائل الإعلام على نحو محدد؛ ذلك أن كل وسيلة تكنولوجية تتسم بأنماط ثقافية وفكرية معينة تفرضها على الكائن البشري وتثري من خلالها نشاطه وتفاعلاته.

 - نظرية الاستخدامات والإشباعات

انبثقت نظرية الاستخدامات والإشباعات من أسئلة ملحَّة تسعى إلى فهم دوافع الجمهور لاستخدام وسائل الإعلام، في سياق دراسة العلاقة بين الإعلام والجمهور ومدى التأثير والتأثر بينهما. لقد نشأت النظرية على أنقاض نظرية التأثير، لكنها سعت إلى تفسير هذه العلاقة من وجهة نظر الجمهور استنادًا على الحوافز والغايات الإنسانية من التعرض لوسائل الإعلام. وتعود جذور نظرية الاستخدامات والإشباعات إلى 1959 لما أرسى إليهو كاتز (Elihu Katz) أسسها في سياق فكرة الإقناع في ظل توجه بحثي لدراسة حقيقة تأثير وسائل الإعلام في الجمهور. وتطور مفهوم الاستخدامات والإشباعات في دراسة إليهو كاتز وجاي بلومر (Jay Blumer) في 1969، والتي تناولت الانتخابات العامة في بريطانيا عام 1964 للتعرف على أسباب مشاهدة الجمهور للحملات الانتخابية. وفي 1984، حدد كاتز، وبلومر، ومايكل جورفيتش (Michael Gurevitch)، أن مدخل الاستخدامات والإشباعات يقوم على دراسة الجوانب النفسية والاجتماعية للأفراد لتحديد الاحتياجات والتوقعات من وسائل الإعلام. ويرى كاتز أنه مهما بلغت قوة الوسيلة الإعلامية إلا أن الجمهور هو من يقرر مدى تأثره بها. وهنا، تُعد الانتقائية والعلاقات الشخصية من المتغيرات المهمة لهذه النظرية. وتسعى النظرية بصورة عامة للإجابة عن سؤال: ماذا يفعل الجمهور بوسائل الإعلام؟(12)

ويمثِّل جوهر نظرية الاستخدامات والإشباعات محاولة لتفسير استخدامنا للتواصل لإرضاء حاجاتنا وتحقيق غايتنا(13). كما أن إشباعاتنا الإعلامية تُحقَّق من خلال ثلاثة مصادر رئيسية، وهي(14):

1. المحتوى الإعلامي نفسه.

2. التعرض لوسائل الإعلام.

3. السياق الاجتماعي الذي يجسد حالة التعرض لوسائل الإعلام. وهو ما يعني وجود أبعاد عدة تلبي حاجتنا من وسائل الإعلام منها ما هو عقلاني يتمثَّل في المحتوى وقد يكون خبريًّا أو معرفيًّا أو ترفيهيًّا أو غيره، ومنها ما قد يكون إشباعًا عاطفيًّا من خلال الشعور بالحاجة إلى التسلية وما شابه. في حين أن مسألة التعرض لوسائل الإعلام وتحقيق حاجة الاستمتاع بهذه الوسائل تشكِّل في ذاتها نوعًا من الإشباع، حتى إن مجرد الحاجة إلى تزجية الوقت والشعور بالارتياح النفسي من خلال مشاهدة التلفزيون تُعد كذلك نوعًا من الإشباع الذي نحققه من خلال وسائل الإعلام. ويمكن إسقاط ذلك على المنصات الرقمية بصورة أكثر وضوحًا أيضًا.

وتتلخص فروض النظرية في النقاط الآتية(15):

- جمهور وسائل الإعلام هو جمهور نشط وله دوافع وحاجات وأهداف تدفعه لتلبيتها.

- الجمهور انتقائي في استخدامه لوسائل الإعلام وفقًا لحاجاته.

- العوامل النفسية والاجتماعية تحدد كيفية استخدامات الجمهور لوسائل الإعلام.

- قد تؤثر وسائل الإعلام في الفرد والمجتمع وهذا الاختلاف متفاوت حسب الخلفية المرجعية السائدة.

- اختلاف خصائص كل وسيلة قد يكون عاملًا تنافسيًّا لجذب انتباه المستخدم.

كما تسعى نظرية الاستخدامات والإشباعات إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، هي(16):

- معرفة كيفية استخدام الفرد لوسائل الإعلام.

- شرح دوافع استخدام الفرد وتفاعله مع هذه الوسائل.

- التأكيد على نتائج استخدام وسائل التواصل الجماهيرية بهدف فهم العملية الاتصالية.

وتُعد نظرية الاستخدامات والإشباعات من أبرز نظريات علوم الإعلام والاتصال في دراسة العلاقة بين الجمهور ووسائل الإعلام؛ "فالجمهور لم يعد كتلة واحدة متجانسة تخضع للرسائل التي يتعرض لها فتؤثر في سلوكه وآرائه، بل مجموعات مختلفة بعاداتها الثقافية وحاجاتها الاتصالية والنفسية واستخداماتها المختلفة لوسائل الإعلام"(17). وتحدد الباحثتان، أنابل هانس (Anabel Quan-Hanse) وإليسون يانغ (Alyson L. Young)، أبرز ما تتفرد به نظرية الاستخدامات والإشباعات في الآتي(18):

1. تفهُّم حاجة الجمهور ودوره.

2. ما يقوم به الجمهور، أي ما يقوم به في وسائل الإعلام.

3. الإشباعات التي يحققها مما يقوم به، أي ما يحصل عليه من استخدامه لوسائل الإعلام.

على الرغم من الأهمية التي تحظى بها نظرية الاستخدامات والإشباعات، إلا أن عليها مآخذ منهجية واتهامات بالإخفاق في تفسير حاجة الجمهور وعلاقته بوسائل الإعلام، ومثل غيرها من النظريات لها نقاط قوة ونقاط قصور. ومن أبرز الانتقادات التي وُجِّهت للنظرية تركيزها على الحاجات والإشباعات النفسية للاستخدام الفردي لوسائل الإعلام، وإهمالها للسياق الاجتماعي. وعليه، فإن هدف وسائل الإعلام -وفق منتقديها- يكمن في سد حاجات الجمهور وتحقيق إشباعاته، وبالتالي لا يكون لها دور في صياغة هذه الاحتياجات وتوجيه الاهتمامات والانشغالات، وصقل الذوق. كما أنها تبعد وسائل الإعلام عن مسار تنظيم السلطة في المجتمع وكذا الإستراتيجيات الاتصالية التي تنفذها المؤسسات المختلفة(19).

سيحاول الباحث من خلال استعراض نظريتي الحتمية التكنولوجية والاستخدامات والإشباعات فهم سلوك الجمهور التواصلي مع تقنية رواية الخبر بالفيديو عبر إسقاط أطرهما النظرية في تفسير نتائج الدراسة، وهذا من شأنه المساعدة في فهم تداخل العوامل الإنسانية والتكنولوجية وتفسير طبيعة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، ودور هذه العلاقة في التأثير على سلوك الجمهور الرقمي وتفاعله مع تقنية رواية الخبر بالفيديو بصورة خاصة. 

ط- مدخل تأصيلي  

- إشكالية مفاهيمية

قبل البحث في التأصيل النظري للإعلام الرقمي (Digital Media) لابد من تحديد دلالة بعض المصطلحات في ظل تعدد المفاهيم المستخدمة لتوصيف الفعل الرقمي والتفاعل معه، والذي أنتج ما يمكن تسميته بالفوضى المفاهيمية في دراسات الرقمنة التواصلية. يشيع في الدراسات الإعلامية الحديثة استخدام مفاهيم عديدة، مثل: الصحافة الإلكترونية، والإعلام الاجتماعي، وكذا مواقع التواصل الاجتماعي، فضلًا عن استخدام مفهوم الإعلام الجديد. وبينما نجد أن جميع هذه المفاهيم تُعنى بدراسة الفاعل الرقمي الجديد وتفاعلاته، يوجد تفاوت كبير بين هذه التوصيفات؛ مما يستدعي تحديد السياقات المحددة لاستخدام كل مفهوم بناء على الوظيفة التي يقوم بها، واستعراض سياقات هذه المفاهيم للتفريق بينها، والوصول إلى تعريف محدد لموضوع هذه الدراسة.

فالحديث عن مفهوم الصحافة الإلكترونية يأتي محمولًا بمخيال الصحافة المطبوعة(20)؛ إذ يشير إلى إنتاج المحتوى الإعلامي في إطار مشروع تحريري، أي إن ما تقوم به الصحافة الإلكترونية هو معالجة صحافية في فضاء رقمي، بينما تقوم بممارسة دور الصحافة التقليدية. أما شبكات التواصل الاجتماعي فهي عبارة عن موقع إلكتروني يتيح لرواد شبكة الإنترنت فتح صفحة شخصية للتفاعل مع أصدقائهم. في حين أن الإعلام الاجتماعي يشير إلى مجموعة منصات التواصل داخل شبكة الإنترنت تسمح للأشخاص بإنتاج وتنظيم والتفاعل مع مضامين محددة، وهذا يعني أن الإعلام الاجتماعي مصطلح أعم من شبكات أو مواقع التواصل(21) وإن كان مفهوم شبكات التواصل الاجتماعي أوسع من حصره في مسألة حساب شخصي وتفاعل مع الأصدقاء إلى كونه فضاءً تشاركيًّا وتفاعليًّا وإنتاج خطاب إعلامي له سماته وخصائصه الخاصة؛ إذ نجد المؤسسات الإعلامية تجتاح هذا الفضاء في استيعاب الجمهور والوصول إليهم بما يتفق وروح هذه المنصات. في حين يستخدم مصطلح الإعلام الجديد لتوصيف أي بيئة تواصلية جديدة تختلف عن الوسائل التقليدية ولا يشبه الإعلام القديم، فهو نتاج انصهار أو اندماج وكذا تزاوج بين تكنولوجيا الاتصال الجديدة مع جهاز الكمبيوتر وشبكاته وتطور البث الفضائي ورقمنته(22). وإن كان بعض الباحثين يرى أن مصطلح الإعلام الجديد هو التوصيف الأنسب لوصف البيئة التواصلية الجديدة(23)، لكن يمكن القول: إن الإعلام الرقمي أصبح يستخدم بصورة أدق للمجتمع التفاعلي الجديد الذي أتاحته الإمكانية التواصلية الجديدة باعتبارها فضاءً افتراضيًّا حرًّا وفق قاعدة من الجميع إلى الجميع؛ إذ يؤدي وظيفة تفاعلية غير موجهة أو مقيدة، فالمحتوى تشاركي وتفاعلي وآني في الوقت ذاته. فضلًا عن ذلك، فإن مفهوم الإعلام الرقمي يُعد تعريفًا شاملًا لجميع التعريفات التي سبق ذكرها، فهو إعلام اجتماعي، وصحافة إلكترونية كما أنه مساحة تفاعلية وتشاركية عابرة للحدود والهويات ومتحررة من أي قيود عملية.

- الإعلام الرقمي: المفهوم وآلية اشتغاله  

جاء في أحدث تقرير نشرته منصة "وي آر سوشيال" (We Are Social)(24)، المختصة في رصد التفاعل الرقمي في العالم، أن نحو 5.31 مليارات شخص من سكان العالم (7.91 مليارات نسمة) يستخدم هاتفًا خلويًّا، بينما يستخدم 4.95 مليارات شخص منهم شبكة الإنترنت، أي 62.5%، و92.1% منهم يستخدمون الإنترنت عن طريق الهواتف الخلوية. وتتصدر مشاهدة مقاطع الفيديو بنسبة 91.9% النشاط التفاعلي الرقمي. في حين يستخدم 4.62 مليارات شخص منصات التواصل الاجتماعي، أي 58.4% من إجمالي عدد سكان الأرض. ويتربع فيسبوك على هرم المنصات الأكثر تفاعلًا بعدد 2.91 مليار مستخدم، يليه يوتيوب بـ2.56 مليار مستخدم. كما يحظى إنستغرام بـ1.48 مليار مستخدم.

وعلى الصعيد الاقتصادي استثمرت أكثر من 38% من الشركات الخاصة 20% من ميزانيتها للإعلانات في شبكات التواصل الاجتماعي في 2015، أي 8.5 مليارات دولار لصالح المنصات الاجتماعية؛ إذ يحظى فيسبوك بـ8 مليارات مشاهدة، و"سناب شات" بـ6 مليارات مشاهدة لمقاطع الفيديو. أما منصة فيديو غوغل فتتحمل 300 ساعة في كل دقيقة وهو ما يمثِّل 3.25 مليارات ساعة فيديو شهريًّا(25).

لا يوجد ما هو أفصح من ضخامة هذه الأرقام للتدليل على الهجرة البشرية المتنامية نحو العوالم الرقمية لتلبية حاجاتها في عالم جديد فتح الآفاق التواصلية على نحو هائل. ومع هذه الحركة الرقمية الهائلة لم يعد السؤال اليوم بشأن حقيقتها وماهيتها، بقدر ما هو محاولة استيعابها وفهمها باعتبارها مجتمع اليوم المتعدد والمتشعب والهائج دون أي محددات يمكنها أن تتحكم بمجرياتها، بل بالسعي لدراستها وتشريحها في مساراتها الإنسانية والتقنية في الآن ذاته، ومن ثم التعامل معها بوسائلها وميكانيزماتها الخاصة بها وكيفية الاستفادة القصوى من الخيارات الهائلة التي أتاحتها.

وفي سياقنا العربي، أتاح الفاعل الرقمي انتشارًا فوريًّا وأكثر سهولة في التواصل مع الجمهور وبأساليب متعددة ولأغراض عديدة أيضًا، مستفيدًا من مساحة التحرر من الرقابة للوصول إلى فضاء لا محدود من المعلومات. كما أسهم هذا الفاعل الرقمي في تقديم رؤى جديدة لعالم أكثر تنوعًا وشفافية وربما عدالة، وفتح الباب واسعًا أمام أنماط معرفية غير مألوفة، والخروج من أسر الرواية الرسمية للحياة بكل جوانبها(26).  

لم تعد رواية القصة الخبرية رقميًّا مسألة معلومة وجمهور وقالب بصري مثير وحسب، بل أصبحت تأخذ بعدًا أكثر عمقًا في الاتصال والتواصل بصيغته الحديثة، وهنا يمكننا الحديث عمَّا يمكن تسميته بـ"إنسان الرقمنة". فالثورة التكنولوجية والمنصات الرقمية غيَّرت طريقة استهلاك الجمهور للمعلومة، وكذا طريقة إنتاجها على نحو متساوٍ، وأصبح جمهور اليوم منتجًا ومدونًا وناشطًا ومؤثرًا، على مختلف منصات التواصل(27). كما أن رواية الخبر رقميًّا لم تعد مجرد رواية مفروضة على متلق، إنما يصبح السؤال هو مدى الانخراط في القصة ومعرفة كيفية تفاعل المجتمع الرقمي مع هذه الرواية، وهي العلاقة القائمة على عنصري الثقة والإقناع، وهنا لم يعد السؤال "ما الرسالة التي تريد إيصالها؟" بل "ما القصة التي تود روايتها؟"(28). هكذا عملت تقنيات رواية القصة الخبرية والإمكانات الرقمية على تغيير آلية تعامل الصحافي مع القصص الخبرية؛ إذ عليه أن ينتج قصصًا تخبر الجمهور بشكل يتسم بالتفاعلية والانخراط الحقيقي مع تفاصيل الحدث والتطابق وبصورة إبداعية كذلك(29).

- تقنية رواية الخبر بالفيديو

تشير أغلب دراسات الإعلام الرقمي المتعلقة باستخدام الفيديو إلى أن 70% من التفاعلات على الإنترنت من نصيب محتوى الفيديو(30)، أي إن المادة المتضمنة للفيديو هي الأكثر تفاعلًا، بما يشير إلى عصر رقمي آخر هو عصر الفيديو، فما المقصود بتقنية رواية الخبر بالفيديو؟  

مفهوم تقنية رواية الخبر عبر الفيديو

تُعرَّف تقنية رواية الخبر بالفيديو بأنها تقنية تتيح لفئة الشباب الحصول على المعلومات والأخبار عبر الهواتف النقالة والأجهزة اللوحية ومنصات التواصل الاجتماعي، وذلك عبر خلق قصص رقمية قصيرة(31) من خلال مزج وسائط عديدة تتضمن الصوت والصورة والرسوم التوضيحية ومقاطع الفيديو مرفقة بالنص الخبري، يتم إخراجها بصورة تفاعلية وجاذبة للانتباه وقابلة للنشر والتداول في منصات رقمية عديدة.

فيما يعرِّف آخرون(31) هذه التقنية بأنها "وسيلة اتصالية تقوم على تقديم رسالة خبرية على شكل سرد قصصي، وذلك بهدف رفع فاعلية الإدراك والتأثير لدى الجمهور"؛ إذ تستخدم تقنية رواية الخبر بالفيديو كل الإمكانات التواصلية لرواية القصة التقليدية وتضيف إليها الوسائط التواصلية الجديدة وكذا العناصر التفاعلية، وهذا من شأنه تعزيز فرص خلق التأثير في الجمهور(33). كما أن تعدد الوسائط في القصة الرقمية يعمل على زيادة التأثير في الجمهور، كما يعمل على تحويل النموذج الاتصالي من البث والنشر إلى الاندماج والانخراط في المحتوى الاتصالي(34). فضلًا عن أن المزج بين التقنيات الإعلامية، مثل النص التشعبي ومصادر الوسائط المتعددة التي اتحدت جميعها في الرواية وزادت مفاهيم جديدة وعملت على ترويج الانخراط التواصلي، أسهم في خلق ثقافات إعلامية جديدة. ففي عصر رقمنة التدفق الإعلامي فإن المحتوى السمعبصري يُستهلك أكثر من أي عصر آخر من قبل على الإطلاق(35).

بناء على ما تقدم، يمكن القول: إن تقنية رواية الخبر بالفيديو ترتكز على مجموعة من العناصر، يتمثل أبرزها في: سرد الأخبار على شكل قصة قصيرة تتضمن مجموعة من الوسائط التي تعمل على رفع نسبة الإدراك والتفاعل مع المحتوى وتأثيره في الجمهور. فضلًا عن سهولة الوصول إليها في مختلف المنصات الرقمية، ومشاركتها وتداولها.

خصائص تقنية رواية الخبر بالفيديو

تتسم رواية الخبر بالفيديو بمجموعة من السمات المميزة التي أسهمت في دفع هذه التقنية إلى رأس سلم التقنيات الحديثة في رواية الأخبار، بل وجعلتها تتصدر أبرز التفاعلات في المنصات الرقمية وذلك بفضل عناصر الجذب المتعددة في إنتاج هذه النوعية الجديدة في عالم رواية الأخبار. وتتجسد هذه السمات في الآتي:

- عامل الوقت: تتميز مقاطع رواية الخبر بالفيديو بتقديم القصة الخبرية للجمهور في أقصر وقت ممكن، فلا يتعدى مقطع الفيديو غالبًا الدقيقتين؛ الأمر الذي يجعل المتابع يحصل على تفاصيل القصة في ظرف زمني قياسي، وهذا ما يتناسب مع ذوق جمهور المجتمع الرقمي الذي يميل إلى التبسيط والاختصار والسرعة.  

- تعدد الوسائط: يتمثل أبرز عناصر الجذب في رواية الخبر بالفيديو في أنها كسرت القوالب الخبرية الجامدة والرتيبة التي تثير الملل، وأحدثت تحولًا نوعيًّا في السرد الخبري؛ إذ تمزج رواية الخبر بمجموعة من عناصر الإبهار البصري، مثل الصور ومقاطع الفيديو أو الرسوم التوضيحية وكذا العناصر السمعية؛ من خلال استخدام الموسيقى. زيادة على عناصر الإخراج المرئي والتصميم الفني والتي تزيد من عملية الجذب ولفت الانتباه إليها. كما أنها تزيد عنصر الإمتاع البصري على المحتوى الخبري، وهذه تفاصيل مهمة في الفضاء الرقمي القائم على التفضيل والانتقاء وليس التلقي.

- الاختصار والإيجاز: تقدم رواية الخبر بالفيديو القصة الخبرية بأقصر طريقة ممكنة؛ إذ تتجه إلى تجنب الحشو، وتركز على إيراد النقاط الرئيسية للخبر، وذلك يعود أولًا إلى طبيعتها القائمة على الإيجاز، إلى جانب عامل الوقت. فهي بحاجة إلى تركيز أكبر قدر من الإيضاح في أقل قدر من الثواني أو الدقائق إن دعت الحاجة.

- سهولة المشاركة: تتميز تقنية رواية الخبر بالفيديو بحشد تفاصيل القصة الخبرية في قالب بصري جذاب في زمن قياسي، وهذه العناصر جعلت تداول المادة ونشرها في مختلف منصات التواصل الاجتماعي أكثر سهولة؛ إذ لا يحتاج الأمر أكثر من نسخ تحميل المقطع وإعادة إرساله في مختلف المنصات وبين الأصدقاء، خصوصًا أن مسألة المشاركة والتناقل من أبرز سمات عمل المجتمع الرقمي.

- السرد القصصي: يبدو أن كسر نمطية بناء الخبر التقليدي هو من أهم العناصر التي تتسم بها منصات التواصل؛ إذ تبدع رواية الخبر بالفيديو صياغة تحريرية تقترب من السرد القصصي لرواية الخبر، فتقدم الخبر باعتباره قصة وليس نصًّا جامدًا؛ وهو ما يجعلها أكثر قربًا من الذوق التواصلي لجمهور هذه المنصات؛ حيث إن الطبيعة التفاعلية والآنية واللغة المتحررة من كثير من القيود المهنية التي يتسم بها محتوى المنصات التفاعلية يفرض لغة حية ومتفاعلة ومبسطة بأسلوب يتسق مع قالب هذه المنصات وكذا جمهورها(36).

- التفاعلية: تتضمن القصة الخبرية عبر الفيديو غالبًا تفاعلات الجمهور مع القصة وتعليقاته، وبالتالي فإن عنصر مشاركة الجمهور وحرص القصة على المزج بين رواية الحادثة وتفاعل المدونين معها يعزز من قربها من المتابع ولفت انتباهه لمتابعتها والتفاعل معها. إن الميزات التي تجمعها تقنية رواية الخبر بالفيديو لا يعني أنها تخلو من العيوب؛ إذ تتهم بتكريس حالة السطحية المعرفية في المجتمع الرقمي؛ لأنها تقدم مفاتيح ومعلومات رئيسية دون تفاصيل ثرية وتحليلية عميقة للموضوعات، وهو اتهام لا يخلو من وجاهة.

2. نتائج الدراسة التطبيقية

توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج نستعرضها في عدد من المحاور الرئيسية:

2.1. المتغيرات الرئيسية

أولًا: النوع الاجتماعي

 كانت نسبة العينة من حيث النوع الاجتماعي على النحو الآتي: 65.3% ذكورًا و34.7% إناثًا.

الجدول (1): توزيع نسب النوع الاجتماعي لعينة الدراسة

النوع الاجتماعي التكرار النسبة
ذكر 98 %65.5
أنثى 52 %34.7
المجموع 150 %100

ثانيًا: العمر

 كان عمر العينة الأبرز ضمن حدود 21-30 عامًا بنسبة 57.3%، ثم في المرتبة الثانية فئة 31-40 عامًا بنسبة 24.66%، تليها فئة فوق 40 عامًا بنسبة 15.3%.

الجدول (2): توزيع نسب الفئة العمرية للمشاركين في الدراسة 

الفئة العمرية التكرار النسبة
أقل من 20 سنة 4 %2.66
21 - 30 سنة  86 %57.3
31 - 40 سنة  37 %24.66
فوق 40 سنة  23 %15.3
المجموع 150 %100

ثالثًا: الجنسية

شاركت في الاستجواب عينة مكونة من 150 فردًا من ناشطين وصحافيين ورواد منصات التواصل الاجتماعي من 11 دولة عربية مقسمة على النحو الآتي: اليمن، وفلسطين، والمغرب، ومصر، والعراق، والأردن، وقطر، وموريتانيا، وسوريا، والسودان، وتونس. 

2.2. المنصات الرقمية للحصول على الأخبار

جاءت منصات (فيسبوك، وإنستغرام، وتويتر) مجتمعة أكثر المنصات التي تستخدمها العينة للحصول على الأخبار بنسبة 29.3%. فيما احتل موقع فيسبوك بمفرده المرتبة الثانية بنسبة 26.66%، يليه موقع تويتر بنسبة 11.3%. فيما احتل إنستغرام المرتبة الثالثة بنسبة 8%، كما وردت منصات أخرى بنسبة 8%.

الجدول (3): توزيع نسب المنصات الرقمية التي تستخدمها عينة الدراسة

المنصات الرقمية التكرار  النسبة
فيسبوك، إنستغرام، تويتر 44 %29.3
فيسبوك   40 %26.66
تويتر   17 %11.3
تويتر وفيسبوك 25 %16.66
إنستغرام  12 %8
أخرى  12 %8
المجموع 150 %100

2.3. أكثر المنصات استخدامًا للحصول على الأخبار

تصدَّر فيسبوك قائمة المنصات التي تعتمدها عينة الدراسة للحصول على الأخبار بنسبة 50%. يليه تويتر بنسبة 28%، فيما احتلت منصات أخرى المرتبة الثالثة بنسبة 14.6%، يليها موقع إنستغرام بنسبة 7.3%.  

الجدول (4): توزيع نسب المنصات الأكثر استخدامًا من طرف عينة الدراسة

المنصات الأكثر استخدامًا التكرار النسبة
فيسبوك 75 %50
تويتر 42 %28
إنستغرام 11 %7.3
أخرى 22 %14.6
المجموع 150 %100

2.4. قوالب وأشكال متابعة العينة للأخبار على المنصات الرقمية

تصدَّرت الأخبار النصية/المكتوبة قائمة الأكثر اعتمادًا من طرف العينة لمتابعة الأخبار عبر المنصات الرقمية بنسبة 35.3%، وجاءت طريقة عرض الأخبار من خلال استخدام الصورة في المرتبة الثانية بنسبة 45.3%، ثم تقنية رواية الخبر بالفيديو في المرتبة الثالثة بنسبة 19.3%.

الجدول (5): توزيع نسب قوالب وأشكال الأخبار عبر المنصات الرقمية

والب وأشكال الأخبار التكرار النسبة
لأخبار النصية/المكتوبة 53 %35.3
من خلال استخدام الصور 68 %45.3
رواية الخبر بالفيديو 29 %19.3
المجموع 150 %100

2.5. أسباب اعتماد العينة على المنصات الرقمية مصدرًا للأخبار

جاء عنصرا "الآنية والتفاعل" على قائمة الأسباب التي تدفع العينة للحصول على الأخبار من المنصات الرقمية بنسبة 36%. بينما احتل عنصرا "الاختصار والإيجاز" المرتبة الثانية بنسبة 34%. فيما جاء عنصر "القصة الخبرية بشكل موجز وحيوي" المرتبة الثالثة بنسبة 24%، يليه في المرتبة الرابعة عنصر "إثارة المحتوى البصري" بنسبة 6%.

الجدول (6): توزيع نسب أسباب اعتماد العينة على المنصات الرقمية للحصول على الأخبار

دوافع اعتماد المنصات الرقمية مصدرًا للأخبار التكرار النسبة
الآنية والتفاعلية   54 %36
الاختصار والإيجاز 51 %34
القصة الخبرية بشكل موجز وحيوي 36 %24
إثارة المحتوى البصري 9 %6
المجموع 150 %100

2.6. قدرة تقنية رواية الخبر بالفيديو على إيصال المحتوى الخبري

يرى 66% من العينة أن رواية الخبر بالفيديو أكثر قدرة على إيصال المضمون الخبري، فيما أجاب بالحياد 25%، ونفى 8% من العينة أن تكون رواية الخبر بالفيديو أكثر قدرة على إيصال المضمون الخبري. فيما لا تعرف نسبة 1% من أفراد العينة إن كانت لرواية الخبر بالفيديو قدرة على إيصال المحتوى الخبري.

 

7
الشكل (1): توزيع نسب قدرة رواية الخبر بالفيديو على إيصال المحتوى الخبري

 

2.7. المدة المناسبة للفيديو الإخباري

تصدَّر خيار المدة الزمنية لمقطع رواية الخبر بالفيديو من "دقيقة- دقيقتين" المرتبة الأولى بنسبة 58.7%، بينما جاء خيار "أقل من دقيقة" في المرتبة الثانية بنسبة 32.6%. واحتل خيار أكثر من دقيقتين المرتبة الثالثة بنسبة 8.7%.   

2.8. أسباب تفضيل رواية الخبر بالفيديو  

احتل عنصر "تفاصيل كافية عن الحدث بإيجاز" أبرز أسباب تفضيل العينة رواية الخبر بالفيديو المرتبة الأولى بنسبة 38%، يليه في المرتبة الثانية عنصر "المزج بين الصورة والصوت والمؤثرات البصرية" بنسبة 26.66%. فيما جاء عنصر "تفاصيل الخبر في وقت قصير" في المرتبة الثالثة بنسبة 23.3%، وعنصر "سهولة المشاركة بين الأصدقاء" بنسبة 6.66%. 

الجدول (7): توزيع نسب أسباب تفضيل العينة لرواية الخبر بالفيديو

أسباب تفضيل رواية الخبر بالفيديو التكرار النسبة
تفاصيل كافية عن الحدث بإيجاز 57 %38
المزج بين الصورة والصوت والمؤثرات البصرية  40 %26.66
تفاصيل الخبر في وقت قصير  35  %23.3
سهولة المشاركة بين الأصدقاء 10 %6.66
أخرى   8 %5.3
المجموع  150 %100

2.9. أسباب متابعة الأخبار على المنصات الرقمية

يُعد عنصر "أهمية الموضوع" من أبرز الأسباب التي تدفع العينة لمتابعة الأخبار عبر المنصات الرقمية في المرتبة الأولى بنسبة 58%، ووردت "طريقة عرضها" في المرتبة الثانية بنسبة 16%، فيما احتل عنصر "عناوينها الجاذبة" المرتبة الثالثة بنسبة 14%، و"غرابتها وحداثتها" المرتبة الرابعة بنسبة 12%.

الجدول (8): توزيع نسب متابعة العينة للأخبار على المنصات الرقمية

أسباب متابعة الأخبار على المنصات الرقمية التركرار النسبة
أهمية الموضوع 87 %58
طريقة العرض 24 %16
عناوين جاذبة  21 %14
غرابة وحداثة القصة 18 %12
المجموع 150 %100

2.10. أسباب استخدام العينة المنصات الرقمية

تصدَّر بند "المتابعة الخبرية والحصول على المعرفة" قائمة الأسباب التي تدفع العينة لاستخدام المنصات الرقمية بنسبة 59.3%، يليه عنصر "تزجية الوقت" في المرتبة الثانية بنسبة 16%. وجاء في المرتبة الثالثة "التواصل مع الأصدقاء" بنسبة 13.3%، وفي الأخير ورد عنصر "البحث عن الترفيه والتسلية" بنسبة 11.3%.

الجدول (9): توزيع نسب أسباب استخدام العينة للمنصات الرقمية

أسباب استخدام العينة للمنصات الرقمية التكرار النسبة
المتابعة الخبرية والحصول على المعرفة 89 %59.3
تزجية الوقت 24 %16
التواصل مع الأصدقاء 20 %13.3
البحث عن الترفيه والتسلية 17 %11.3
المجموع 150 %100

2.11. معدل استخدام العينة لمنصات التواصل الاجتماعي يوميًّا

يستخدم أفراد العينة منصات التواصل الاجتماعي "أقل من 5 ساعات يوميًّا" بنسبة 58%، فيما تستخدمه "من 5-10 ساعات" ما نسبته 35.3% من إجمالي العينة، بينما جاء "أكثر من 10 ساعات" في المرتبة الأخيرة بنسبة 6.66%.

الجدول (10): توزيع نسب استخدام العينة للمنصات الرقمية يوميًّا

نسب استخدام المنصات الرقمية يوميًّا التكرار النسبة
أقل من 5 ساعات 87 %58
5 - 10 ساعات  53 35.3 %
أكثر من 10 ساعات 10 6.66 %
المجموع 150 %100

2.12. أبرز المنصات الرقمية العربية للحصول على القصة الخبرية بالفيديو

جاءت منصة "الجزيرة بلس" (Aj+) على رأس قائمة المنصات الرقمية التي تتابعها العينة بنسبة 24.66% تليها منصة "قناة الجزيرة" على المنصات الرقمية في المرتبة الثانية بنسبة 16.66%، ثم بعض المنصات العربية المتفاعلة. 

الجدول (11): أبرز المنصات الرقمية العربية لحصول العينة على الأخبار

أبرز المنصات الرقمية العربية للحصول القصة الخبرية بالفيديو التكرار النسبة
الجزيرة بلس (+AJ) 37 %24.66
منصة "قناة الجزيرة" 25 %16.66
منصات أخرى 88 %58.66
المجموع 150 %100

3. مناقشة النتائج وتفسيرها  

أظهرت نتائج الدراسة أن 35.3% من العينة تتابع الأخبار على المنصات الرقمية من خلال الأخبار النصية/المكتوبة، في حين تتابع 19.3% من العينة الأخبار من خلال تقنية رواية الخبر بالفيديو. أما الأخبار عن طريق الصورة فجاءت بنسبة 45.3%. وهنا، تُبرِز النتائج الدور الذي باتت تلعبه تقنية رواية الخبر بالفيديو بالرغم من حداثة تجربتها، فيما يتضح أن الإرث التقليدي للأخبار النصية لا يزال يشهد حضورًا قويًّا في أوساط عينة الدراسة. وقد يكون هذا بحسب طبيعة العينة ونوعها ومدى خبرتها بالمنصات الرقمية؛ إذ يتفاوت الوضع بين أشخاص فاعلين وناشطين في المجتمع الرقمي ويمتلكون خبرات طويلة، وآخرين مجرد رواد عابرين للفضاء الرقمي. وتُعد نسبة 45.3% من العينة التي تتابع الأخبار عن طريق الصور، وهو قالب ضمن الأنماط الحديثة في المنصات الرقمية، مؤشرًا جيدًا على تنوع آليات انخراط العينة في القوالب الرقمية.

أما فيما يتعلق بالدوافع وراء اختيار هذه القوالب الرقمية من طرف العينة فتشير النتائج إلى أن عنصر "الآنية والتفاعل" جاء على رأس القائمة بنسبة 36%، يليه عنصرا "الاختصار والإيجاز" بنسبة 34%. في حين احتل عنصر "إثارة المحتوى البصري" آخر القائمة بنسبة 6% فقط. ويمكن فهم هذه الدوافع باعتبارها حاجات جديدة لدى الجمهور الرقمي المتلهف إلى كل جديد في الفضاء الافتراضي؛ إذ بات يتطلع للحصول على كل ما هو جديد بشكل آني ومختصر، فضلًا عن حاجته إلى محتوى تفاعلي يمكِّنه من الانخراط فيه والتفاعل معه باعتباره جزءًا من هذا الحدث. وهذا ما تشير إليه نظرية الاستخدامات والإشباعات، والتي ترى أن ما يدفع الجمهور للتعرض لوسائل الإعلام إنما هي حاجات وحوافز يسعى الجمهور إلى إشباعها من خلال هذه الوسائل. وتذهب نظرية الحتمية التكنولوجية إلى أن التطور التكنولوجي يخلق بالضرورة حاجيات إنسانية جديدة، ولذلك فإن هذه المبتكرات الرقمية بدورها خلقت حاجيات لمجتمع اليوم تختلف عن حاجيات مجتمعات سابقة. كما أن ورود عنصر "الإثارة البصرية" في آخر قائمة التأثير في الجمهور يشير إلى أهمية معالجة القصص الرقمية من حيث المحتوى والتفاعلية أكثر من العناصر الشكلية، وهذا أمر إيجابي يُظهر مدى اهتمام عينة الدراسة بالمضمون، في ظل هيمنة المحتوى السطحي على الفضاء الرقمي.

وترى نسبة 66% من أفراد العينة أن رواية الخبر بالفيديو أكثر قدرة على إيصال المضمون الخبري، فيما تنفي نسبة 8% ذلك. وفضَّلت نسبة 25% من العينة الحياد. وهذا يؤكد أهمية الدور الذي تمثِّله رواية الخبر بالفيديو عبر المنصات الرقمية؛ إذ أصبحت هذه التقنية منتشرة على نطاق واسع وتستقطب العديد من المشاهدات والتفاعل وفقًا للآليات والسمات التفاعلية والآنية التي تتميز بها شكلًا ومضمونًا. وتتوافق هذه النتيجة مع دراسات وتقارير عديدة، ومع الأرقام التي أشار إليها تقرير منصة "وي آر سوشيال" ومن أبرزها مثلًا أن 4.95 مليارات شخص يستخدمون شبكة الإنترنت، أي بنسبة 62.5% من إجمالي عدد سكان العالم، ويستخدم 92.1% منهم الإنترنت عن طريق الهواتف الخلوية. فيما تتصدر مشاهدة مقاطع الفيديو بنسبة 91.9% من النشاط التفاعلي الرقمي. وهي الأرقام التي تكشف اتجاه الجمهور إلى استهلاك محتوى الفيديو عبر مختلف المنصات الرقمية.

وترى نسبة 58.7% من العينة أن المدة المثالية للفيديو الإخباري هي من "دقيقة- دقيقتين"، يليها "أقل من دقيقة" بنسبة 32.6%. فيما لا يفضِّل السواد الأعظم من العينة أن يتجاوز الفيديو "دقيقتين". وهذا مؤشر مهم للمنصات الرقمية ومنتجي القصص التفاعلية بأن تحرص على الإيجاز وتقديم القصة الخبرية في أقصر مدة ممكنه وبصورة شافية. وتتوافق هذه النتيجة مع ما توصلت إليه دراسة لحسن سكور(37) التي وجدت في تحليلها لمحتوى منصة "الجزيرة بلس" أن 76% من القصص الإخبارية بالفيديو تبلغ مدتها أقل من دقيقتين، وهو ما يجعل منها نسبة ملائمة للفيديوهات التفاعلية.

تفضل العينة رواية الخبر بالفيديو، لأنه يقدم "تفاصيل كافية عن الحدث بإيجاز" بنسبة 38%، يليه في المرتبة الثانية عنصر "المزج بين الصورة والصوت والمؤثرات البصرية" بنسبة 26.66%. وجاء عنصر "تفاصيل الخبر في وقت قصير" في المرتبة الثالثة بنسبة 23.3%. وتُعد هذه المؤشرات محورية في تحديد دوافع الجمهور وحاجياته في مستجدات الفضاء الرقمي، وتتوافق النتائج مع ما توصلت إليه دراسة ميخائيل فافيديس وزملائه، التي أشارت إلى أن تداخل العناصر المرئية في المادة التفاعلية يعزز من نسبة إدراك الجمهور لمحتوى المواد الرقمية.

يمكن القول: إن الثقافة الرقمية الجديدة تتمحور في معظمها حول تغذية النزعة الفردية للمستخدمين، وقد اتضح من خلال النتائج تصدر الميول والتفضيلات الشخصية لدوافع العينة في التفاعل مع المنصات الرقمية للحصول على الأخبار. ولهذا تشير العديد من الدراسات التي رجع إليها الباحث في هذه الدراسة إلى التركيز على العناصر المهمة التي تشكِّل عامل جذب لانتباه المستخدمين في الفضاء الرقمي؛ ومنها جاءت التقنيات الرقمية لإشباع حاجة هذا الجمهور، والحفاظ على ولائه ومتابعته وثقته أيضًا. وفي هذا السياق تفهم نظرية الاستخدامات والإشباعات التي يرى منتقدوها أنها تركز في تناولها على الحاجات الشخصية للأفراد، دون النظر إلى التوجهات العامة للمجتمعات، والتي تحتاج إلى عملية اتصالية تنبثق من وجهات النظر والثوابت الجمعية لتحافظ على تماسك المجتمعات وروابطها وتطلعاتها.

ترى نسبة معتبرة من عينة الدراسة 58% أن ما يلفت انتباهها في متابعة الموضوعات هو "أهمية الموضوع"، ثم "طريقة العرض" في المرتبة الثانية بنسبة 16%. فيما جاءت "العناوين الجاذبة" في المرتبة الثالثة بنسبة 14%، وجاء عنصر "الغرابة وحداثة القصص" بنسبة 12% في المرتبة الرابعة. وهذا ما يشير إلى أن جودة المحتوى وقوته تظل في صدارة حاجيات الجمهور الرقمي.

وما يعزز النتيجة السابقة بشأن أهمية الموضوع، أوضحت النتائج أن أغلب العينة تستخدم المنصات الرقمية بغرض "المتابعة الخبرية والبحث عن المعرفة" بنسبة 59.3%. بينما جاء عنصر "البحث عن الترفيه والتسلية" في ذيل القائمة بنسبة 11.3%. وهذا مؤشر قوي على سلوك عينة من جمهور المجتمع الرقمي؛ الأمر الذي يسهم في تعزيز أهمية المحتوى الرصين والجاد في مواجهة المحتوى اللاهث وراء الأرقام ومنطق تسليع الجمهور، خصوصًا مع تحول المنصات الرقمية إلى تجارة هائلة تدرُّ أرباحًا خيالية، وفرض منطق السوق دونما اعتبار لقيمة المحتوى في الغالب. وهذا يتجلى في عوائد المشاهدات والمتابعين والإعلانات في مختلف المنصات الرقمية مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وإنستغرام وتيك توك وغيرها، في حين يصبح المحتوى الجاد عديم القيمة وفق هذا المنطق.

وأظهرت النتائج إحاطة جيدة من العينة بتقنية رواية الخبر بالفيديو وبالمنصات الرقمية العربية المتفاعلة، حيث تصدرت منصة "الجزيرة بلس" قائمة أكثر المنصات متابعة لدى العينة بنسبة 24.66%، تليها منصة "قناة الجزيرة" بنسبة (16.66%)، ثم توالت بقية المنصات العربية التي تعتمد السرد القصصي باستخدام الفيديو الخبري.

خاتمة

لم يعد السؤال الآن حول مدى تأثير التقنيات الجديدة في الفضاء الرقمي على الجمهور العريض للمنصات الرقمية، بل أصبح السؤال الملح هو: ما الآليات الأكثر فاعلية في تلبية حاجيات الجمهور التواصلي؟ وما جودة المحتوى الذي يقدم له في وسط عالم بلا حدود واضحة، وتدفق رقمي هائل في كل ثانية، بل في كل جزء منها؟

من الواضح أن تقنية رواية الخبر بالفيديو، باعتبارها رافدًا فاعلًا ومؤثرًا في الفعل الرقمي المتنامي، تسعى إلى تلبية حاجة الجيل الرقمي الجديد الدائمة لما يعرف بـ"ثقافة الأونلاين"؛ أي أن يظل على اطلاع دائم على ما يدور في أرجاء العالم. وهذا جزء من ثقافة جديدة يتسم بها مجتمع المنصات الرقمية التي تتسم بالتأثير المتبادل بين الإنسان والتقنية، بين الحاجة الإنسانية والتقدم التقني؛ وهي علاقة معقدة ومتطورة تتطلب مزيدًا من الدراسات في محاولة لفهمها فهمًا أوسع.

نبذة عن الكاتب


21/12/2022