×

  المرصد الخليجي

  بغداد بين مقدّمات ونتائج تقارب طهران والرياض



*عادل الجبوري

 

 

يتفق الجميع تقريباً على أن المصالحات الإيرانية السعودية التي تمخّضت بعد مسيرة طويلة من الحوارات البنّاءة، تعد الحدث الأبرز على الساحتين الإقليمية والدولية، وأنّ مخرجات ومعطيات ذلك الحدث المهم للغاية لن تقتصر انعكاساتها الإيجابية على طهران والرياض فحسب، بل إنها ستمتد إلى مساحات وميادين أوسع وأشمل، وكذلك فإنّ ذلك الحدث، أربك وسيخلق المزيد من الارتباك والاضطراب لدى أعداء إيران وخصومها، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل"، ومختلف الأطراف التي كانت تعوّل على اندلاع مواجهة عسكرية واسعة النطاق مع إيران لتنهي النظام السياسي القائم وتعيد ترتيب أوراق المنطقة بطريقة جديدة.

ولا شكّ أن كل من أدى دوراً محورياً فاعلاً في التوصّل إلى تلك النتيجة التأريخية بين طهران والرياض، لا بدّ أن يكون له نصيب جيد من النتائج والمخرجات المتحصّلة من عودة المياه إلى مجاريها بعد قطيعة كاملة دامت سبعة أعوام، ومسيرة علاقات مضطربة حكمتها وتحكّمت بها الكثير من التقاطعات والاختلافات والخلافات السياسية والعقائدية طيلة أربعة وأربعين عاماً، أي منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في ربيع عام 1979.

وإن لم يكن العراق في مقدّمة الأطراف-فإنه كان من بين أبرز الأطراف-التي اضطلعت بأدوار محورية مهمة في إذابة جليد الخلافات بين طهران والرياض وتقريب وجهات النظر فيما بينهما، وبالتالي، تهيئة الأجواء والظروف المناسبة للوصول إلى المحطة الأخيرة ونقطة التحوّل الحاسمة في العاصمة الصينية بكين.

وربما كانت مهمة بغداد في التقريب بين أكبر خصمين إقليميين، صعبة ومعقّدة وشائكة، ارتباطاً بحقائق المشهد السياسي العراقي وفواعله على الأرض، وطبيعة علاقات العراق بكل من إيران والسعودية، وما أفرزته من استقطابات حادة ألقت بظلالها على الواقع السياسي والأمني للبلاد.

بيد أن الانفراجات في الوضع العراقي العام، ولا سيما بعد تحقيق الانتصار الكبير على تنظيم "داعش" الإرهابي أواخر عام 2017، وتبنّي العراق سياسات انفتاحية مرنة، فضلاً عن التحوّلات والمتغيّرات والتحديات الإقليمية والدولية، ساهمت جميعها في تهيئة الظروف لانطلاق حوار متعثّر وخجول وبطيء بين طهران والرياض برعاية بغداد قبل أكثر من عامين، لتتواصل جولات الحوار وتصل إلى خمس جولات، وتكون السادسة في بكين، علماً أن أطرافاً أخرى مثل سلطنة عمان، كانت تتحرّك بالمسار العراقي نفسه وبتنسيق عالي المستوى بشتى العناوين.  

ولعل صعوبة مهمة بغداد، تمثّلت في الدرجة الأساس بحجم وطبيعة ومستوى المشاكل والأزمات في العلاقات الإيرانية السعودية، التي تراكمت وتضخّمت واتسعت على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن، والتي لم تكن بغداد، سواء في ظل حكم نظام حزب البعث المنحل، أو خلال مرحلة ما بعد سقوطه في عام 2003، بعيدة عنها، إن لم تكن بشكل أو بآخر طرفاً فيها.

 

فالسعودية كانت أبرز الداعمين لنظام صدام في حربه ضد إيران(1980-1988)، وفيما بعد ساهمت نوعاً ما بتجنّب خيار سقوطه بعد حرب الخليج الثانية واندلاع الانتفاضة الشعبية في أربع عشرة محافظة عراقية، وحينما سقط ذلك النظام وتشكّل نظام سياسي جديد، تعاطت الرياض بصورة سلبية معه على عكس التعاطي الإيراني الإيجابي.

وبينما كانت طهران، تدعم العملية السياسية والنظام السياسي الجديد في العراق، وانتهجت سياسة الانفتاح الإيجابي معه، تبنت الرياض نهجاً مغايراً بالكامل، تمثّل بدعم وتمويل الجماعات الإرهابية المسلحة، والتحريض الإعلامي والسياسي والديني، ناهيك عن عدم اتخاذ أي خطوات أو مبادرات لتصفير الأزمات ووضع حد للتوترات والخلافات مع بغداد، وإن حصل ذلك، فإنه جاء متأخّراً ومرتبكاً إلى حد كبير.

وفضلاً عن ذلك، فإن التقاطعات الإيرانية السعودية، برزت واضحة في ملفات إقليمية مختلفة، من بينها الملف اللبناني، والملف السوري والملف اليمني، وكانت الرياض، تتوسّل بكل السبل والوسائل لتحجيم دور وحضور طهران في المنطقة. ولعل ذلك النهج، كان جزءاً من جهود متواصلة ومحمومة على كل الصعد والمستويات، قادتها الولايات المتحدة الأميركية وساهمت فيها أطراف دولية وإقليمية عديدة، بهدف الإطاحة بالنظام السياسي الإسلامي الإيراني، وإعادة إنتاج وفرض المعادلات القديمة.

ولأن الملفات متداخلة، والقضايا شائكة، فإنه مع مرور الوقت ترسّخت لدى الأوساط والمحافل السياسية والشعبية العراقية قناعة مفادها، أن استمرار التأزم والخلاف بين السعودية وإيران، يعني فيما يعنيه بقاء الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية العراقية متأزّمة ومتوترة وقلقة ومضطربة على الدوام.

وبقدر ما كانت للعراق مصلحة في تطويق واحتواء الأزمات الإقليمية بين مختلف الأطراف، ومنها أو في مقدمتها إيران والسعودية، كانت للأخيرتين مصلحة مشتركة في ذلك، لأنّ الاستنزاف والتشنّج والاحتقان المتواصل بلا انقطاع أثقل كاهل الطرفين بالكثير من الاستحقاقات والخسائر المرهقة والمكلفة.   

فكل من طهران والرياض واجهتا وما زلتا تواجهان جملة تحديات، وإن اختلفت في ظروفها وخلفيّاتها، فالسعودية التي وجدت نفسها محاصرة ومتورطة على امتداد عشرة أعوام أو أكثر بملفات إقليمية معقّدة وشائكة، في سوريا واليمن ولبنان، وعلاقات مضطربة جداً مع قطر وتركيا، وتذبذب واضح في التواصل مع العراق، وانفتاح غير محسوب العواقب مع الكيان الصهيوني، أدركت في لحظة معينة أنها لا بد أن تتجه إلى تعديل المسارات قبل فوات الأوان، لذلك راحت تبحث عن مخرج مناسب من المستنقع اليمني يحفظ لها ماء الوجه.

فبدلًا من أن تتمسّك بخيار تغيير النظام في دمشق، قررت أن تتعاطى معه كأمر واقع، ولا سيما بعد أن نجح في الصمود وإفشال كل المخططات والمشاريع الرامية إلى الإطاحة به منذ ربيع عام 2011 إلى الآن، وكذلك فإنها اقتنعت بأن محاصرة وعزل قطر لم تُجدِ نفعاً، إن لم تكن قد أتت بنتائج عكسية، وأن تبنيها منهج خلط الأوراق وإثارة الفوضى، وتغذية الإرهاب في العراق، وصل إلى طريق مسدود، ناهيك عن فشلها في ترتيب أوراق المشهد السياسي اللبناني وفقاً لمصالحها الخاصة، وبما يفضي إلى تحجيم حزب الله وتقليص النفوذ الإيراني.

والملفت أن كل المساحات التي فشلت الرياض في توسعتها، أو المحافظة عليها بأدنى التقديرات، نجحت طهران في أن تسجّل حضوراً واضحاً ومؤثّراً فيها، وهو ما خفّف عنها وطأة الحصار والعقوبات والضغوط الاقتصادية والسياسية المفروضة عليها من قبل خصومها وأعدائها، وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة الأميركية.

إلى جانب ذلك، بدا واضحاً أنّ ثمة رغبة دولية جادة إلى حد ما، لتخفيف بؤر التوتر في منطقة الشرق الأوسط بمقدار معيّن، عبر صياغة تفاهمات معقولة ومقبولة بين الخصوم المؤثرين، ولعل هذه الرغبة تجلّت من خلال المساعي المبذولة لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وتقليص مظاهر الوجود العسكري الأجنبي، وتكثيف وتعزيز الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب.

وعلى ضوء تلك المعطيات، تحرّك أصحاب القرار السياسي العراقي، على عدة عواصم دولية من أجل الدفع باتجاه تعزيز فرص وآفاق نجاح الحوار الإيراني السعودي في بغداد، فضلاً عن ذلك، فإن الحكومة العراقية، سواء في عهد رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، أو في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، أو في ظل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، لم تكن بعيدة عن تفاعلات المشهد الإقليمي.

فكان إدراكها وقناعتها بأن مفاتيح الحل الحقيقية للأزمات الإقليمية هي في طهران والرياض أولاً وأخيراً، يترسّخ يوماً بعد آخر، ولعل مجمل الحوارات التي جرت بين الزعماء وكبار المسؤولين في العواصم الثلاث، وفي المستويات الأدنى، تمحورت حول سبل تذليل العقبات، وتذويب الخلافات، وتقليل التقاطعات، وبالتالي بلورة رؤى وتصوّرات مشتركة للحلول والمعالجات المطلوبة والممكنة.

من هنا انطلقت مبادرات بغداد لجمع الخصوم والفرقاء تحت مظلتها، وبالفعل فإنها حقّقت نجاحاً كبيراً في هذا السياق، بعد عدة جولات من المحادثات البنّاءة، شارك فيها مسؤولون رفيعو المستوى من الجانبين، كرئيس جهاز المخابرات السعودي خالد الحميدان، ونائب الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني سعيد ايرواني وآخرين غيرهما.

وقد كان للتعاطي الإيجابي الإيراني والسعودي مع حراك بغداد التصالحي أثر كبير في زيادة زخمه وتحقيقه النتائج المرجوّة. وفي هذا الشأن صرّح أكثر من مسؤول إيراني رفيع المستوى، منهم السفير السابق في العراق ايرج مسجدي، بأن "المباحثات الإيرانية السعودية التي تشهدها بغداد تهدف إلى حل المشكلات بين البلدين حول قضايا إقليمية وإعادة افتتاح سفارتيهما، إذ أن عدة جولات من المباحثات بين إيران والسعودية قد جرت في بغداد مؤخراً، وهي انطلاقة إيجابية وموفّقة وسوف تستمر".

وبالمعنى والمضمون نفسه، راحت تتوالى الإشارات الإيجابية من الرياض، وإن شابها نوع من التردّد والتحفّظ، في بادئ الأمر، الذي قد يكون محسوباً ومقصوداً. فبينما لم يكن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قبل عدة أعوام يرى أي أفق إيجابي مناسب لحلحلة المشاكل والأزمات بين بلاده وإيران، عاد ليؤكّد قبل حوالي عام، "أن بناء علاقة جيدة وإيجابية مع إيران تعود بالنفع على جميع الأطراف"، في الوقت ذاته الذي أشاد مسؤولون وساسة سعوديون بدور العراق الإيجابي في التقريب بين الفرقاء.

ولا يختلف اثنان على أن العراق، نجح في التأسيس لأرضية جيدة للحوار بين طهران والرياض وفق قاعدة التركيز على نقاط الالتقاء والتمحور حول مبدأ المصالح المتبادلة، والابتعاد قدر الإمكان عن الملفات الإشكالية المعقّدة والقضايا الشائكة جداً، وهي السياسة ذاتها التي عمل عليها مع الآخرين للخروج من مستنقع المشاكل والأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية العامة. 

ومثلما قلنا في موضع سابق، يبقى العراق الذي عانى كثيراً طوال الأعوام العشرين المنصرمة، وربما قبلها أيضاً، أكبر المستفيدين وأكثرهم، وهو يشيّد جسور التواصل والتقارب والتلاقي بين طهران والرياض، ويجمعهما على طاولات التفاهم والحوار، بدلاً من تصادمهما في ميادين المعارك والصراع.

أضف إلى ذلك، فإن العراق يعدّ أحد أبرز الأطراف التي يمكن أن تنعكس عليها كلّ الخطوات والمبادرات الإيجابية على الصعيد الإقليمي، وتحديداً استئناف العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض، ارتباطاً بطبيعة الأحداث والظروف التي مرّ بها على امتداد عقدين من الزمن-وحتى قبلها-إذ كان في معظم الأحيان ميداناً للتصارع والتنافس والتخاصم بين قوى وأطراف دولية وإقليمية مختلفة.

وقد تسبَّب ذلك التصارع والتنافس والتخاصم بالكثير من المشاكل والأزمات والتعقيدات السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية. ووضع حد لذلك الصراع والتنافس والتخاصم أو التخفيف من حدته لا بدَّ أن يفضي إلى انحسار مساحات المشاكل والأزمات الناتجة عنه في العراق ودول المنطقة الأخرى، ويفتح آفاقاً للتعاون والشراكة والتنمية وبناء الثقة.

*كاتب وصحافي عراقي

*الميادين.نت


18/03/2023