×

  رؤا

العالم بعد فوز دونالد ترامب

10/11/2024

 

*فريق البحث العلمي

تعتبر الانتخابات الأمريكية من أبرز الأحداث السياسية التي تحظى بمتابعة عالمية واسعة، لما لها من تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على القضايا الدولية والإقليمية. وتسهم نتائج هذه الانتخابات عادةً في إعادة صياغة سياسات الدول الحليفة والمتنافسة ، وتنعكس على مسارات العلاقات الخارجية والسياسات العامة.

في هذا السياق، تسعى هذه الدراسة إلى تقديم تحليل معمق لانعكاسات نتائج الانتخابات الأمريكية-  التي أعادت دونالد ترامب إلى السلطة- على القضايا المعاصرة، حيث تتناول توجهات ترامب في السياسة الخارجية الأمريكية، مع التركيز على عدة ملفات استراتيجية، من بينها التنافس الأمريكي الصيني، وصراع الكوريتين، ومستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ظل رئاسته. كما تتطرق إلى مواقف الإدارة الأمريكية من حرب أوكرانيا، والعلاقات مع تركيا، والأوضاع في سوريا، إضافة إلى موقفها من أمريكا اللاتينية، وتوجهاتها تجاه النزاع في غزة والقضايا الأفريقية الملحة. علاوة على ذلك، تستعرض الدراسة رؤية ترامب لقضايا الإرهاب العالمي، ودور جماعات الإسلام السياسي، مع التركيز على التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي في ظل هذه التحولات.

 

(1) نتائج الانتخابات الأمريكية

حقق المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، فوزًا كبيرًا على غريمته الديمقراطية، كاملا هاريس، ليصبح الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأمريكية بعد تجاوزه حاجز الـ270 صوتًا المطلوبة من أصوات المجمّع الانتخابي بهامش كبير، ليعود إلى البيت الأبيض بتفويض شعبي يمنحه الشرعية الكاملة لتنفيذ برنامجه الانتخابي المعلن.

وقد أسهم فوز ترامب بأغلب الولايات المتأرجحة، ولاسيما الرئيسية منها، مثل بنسلفانيا وجورجيا ووسكنسن وميشيغان، في تحقيقه الفوز بأريحية كبيرة، حيث عادت هذه الولايات للتصويت للجمهوريين، بعد تصويت أغلبهم في انتخابات 2020 لصالح بايدن.

وكانت ولاية بنسلفانيا تحديدًا هي الأكثر حسمًا، حيث أعلن ترامب أن الفوز بها مفتاح الفوز بالانتخابات كلها، فيما حصل ترامب على تصويت ولايتي فلوريدا ونيفادا الديمقراطيتين، لأول مرة منذ انتخابات 2008 التي فاز بها باراك أوباما، فيما عادت ولاية نبراسكا للجمهوريين، بعد دعمها لبايدن في 2020.

ولم تقتصر موجة المد الأحمر التي غزت الولايات المتحدة على الانتخابات الرئاسية وحسب، وإنما شملت أيضًا انتخابات مجلسَيْ الشيوخ والنوّاب وحُكّام الولايات التي حقق فيها الجمهوريون مكاسب كبيرة، ستضمن لهم تنفيذ سياساتهم وبرامجهم بسهولة خلال السنوات الأربع المقبلة

 

 (2) ماذا تعني عودة ترامب للرئاسة؟

تعني عودةُ دونالد ترامب للرئاسة عودةً لرؤية سياسية شعبوية قومية، قد تركز بشكل كبير على السياسات التي طبّقها خلال ولايته الأولى. من المحتمل أن يسعى ترامب لمواصلة تنفيذ سياسات “أمريكا أولًا”، التي تشمل فرض قيود على الهجرة، وإعادة التفاوض حول الاتفاقيات التجارية، وتأكيد دعم الصناعات الأمريكية. على الساحة الدولية، قد تعني عودته تغييرات كبيرة في العلاقات مع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة التقليديين، حيث عُرف ترامب بنهجه القاسي في التفاوض، سواء مع الاتحاد الأوروبي، أو حلف الناتو، أو الصين.

على الصعيد الداخلي، من الممكن أن تواجه إدارته الجديدة انقسامات سياسية أكثر حدة، حيث تظل قاعدته الشعبية متحمسة له، في حين ينظر معارضوه إلى عودته كتهديد للديمقراطية الأمريكية. وقد يستمر الجدل حول قضايا، مثل السياسات الصحية، والمناخ، والعدالة العرقية.

قد تشكّل عودة ترامب أيضًا معركة قانونية وسياسية، خاصة مع التحديات القضائية التي واجهها بعد خروجه من السلطة. وسيكون من المثير للاهتمام رؤية مدى قدرته على التعامل مع تلك التحديات، في أثناء محاولة استعادة السيطرة على البيت الأبيض.

 

(3) التنافس الأمريكي مع الصين

 

– الموقف من الصين

على الرغم من أن ترامب أعلن غير مرة احترامه للصين، وإعجابه بالرئيس الصيني شي جين بينغ، وأنه يفضل أن تكون علاقة البلدين جيدة، فإنه هدد بتصعيد حربه التجارية مع بكين، وفرض تعريفة جمركية بنسبة 60% أو أكثر على السلع الصينية.

 كذلك، اقترح إلغاء وضع الصين التجاري كدولة أكثر رعاية، والتخلص التدريجي من جميع واردات السلع الأساسية منها، ومنعها من شراء الأراضي الزراعية الأمريكية. أيضًا، تعهد بتكثيف الجهود لمنع بكين من التجسس على الولايات المتحدة.

والحق أن إدارة ترامب الأولى قد اتسمت بعدم اليقين، وعدم القدرة على التنبؤ، والعداء تجاه الصين، وسعى ترامب بسرعة إلى تفكيك أسس العلاقة الاقتصادية بين واشنطن وبكين، ورفض الالتزام بسياسة الصين الواحدة. وأكد مرارًا وتكرارًا دورها المركزي في انتشار كوفيد-19، وأشار إليه في بعض الأحيان باسم “فيروس الصين”، وفرض عقوبات متكررة على الشركات الصينية، خاصة من خلال تقييد وصول “هواوي” إلى رقائق أشباه الموصلات وتعزيز الانفصال التكنولوجي.

فإدارة ترامب على هذا النحو تشكل تهديدًا كبيرًا لطموحات الصين السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية. ولن تستطيع بكين، من ثم، التنبؤ بمسار السياسات الأمريكية في عهد ترامب، وهي قلقة من أن يضم فريقه المستقبلي صناعَ سياسات مناهضين للصين بشكل ملحوظ، مثل مات غالاغر وروبرت لايتهايزر.

 

– عودة السياسات الحمائية

يبدو أن إدارة ترامب لن تخرج عن النهج الذي اتبعته خلال الفترة الأولى، وذلك من خلال فرض مزيد من القيود التجارية على الصين، والتخلص التدريجي من الواردات الصينية.

فترامب يهدف من خلال استخدام هذه التدابير للحصول على المزيد من التنازلات الصينية في الموقف التفاوضي. فقد كانت الحرب التجارية مع بكين عنصرًا أساسيًا في ولاية ترامب الأولى، وهو الأمر المتوقع أن يستمر في ولايتة ثانية.

 فترامب يزعم بأن النظام التجاري العالمي موجه ضد مصالح الولايات المتحدة، وهو المسؤول عن العجز التجاري الضخم، وتراجع التصنيع في الولايات المتحدة، ونقل الوظائف الأمريكية إلى الخارج. لذلك، فرض ترامب، خلال فترة رئاسته، العديد من التعريفات الجمركية، وأشهرها خلال حربه التجارية على السلع الصينية.

كذلك، طبق تعريفة جمركية بنسبة 25% على الصلب المستورد، وتعريفة جمركية بنسبة 10% على الألومنيوم؛ ما أثر في الواردات من أوروبا وكندا والمكسيك ومناطق أخرى. أيضًا، تم فرض ضرائب على الأخشاب الكندية؛ ما أدى إلى ارتفاع الأسعار في الداخل، إلى جانب سلع أخرى مثل الألواح الشمسية.

بالإضافة إلى ذلك، تعهد ترامب بإعادة الولايات المتحدة إلى وضعها الطبيعي كقوة عظمى في مجال التصنيع في العالم من خلال “إعادة التوازن التجاري” نحو الإنتاج المحلي، وهو ما ينبئ بعزمه فرضَ المزيد من القيود التجارية والتوسع في السياسات الحمائية، حيث يدعو إلى فرض رسوم جمركية تتراوح بين 10 و20 في المئة على جميع السلع الأجنبية، ورسوم جمركية بنسبة 60% أو أعلى على الواردات من الصين، على وجه التحديد.

 

– الوضع الأمني في بحر الصين الجنوبي

تكشف إدارة ترامب الأولى عن أنه سيكون أكثر حزمًا وحسمًا فيما يتعلق بالنزاع في بحر الصين الجنوبي؛ ما سيضفي على العلاقات الأمريكية- الصينية المزيد من التوتر.

فمن المرجح أن يعطي ترامب الأولوية للتعاون الأمني مع دول المنطقة لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد، والحفاظ على قوة الولايات المتحدة ووجودها في جنوب شرق آسيا؛ ما سيزيد من احتمالية المواجهات والتصعيدات الجيوسياسية، ومن ثم سيؤثر في الاستقرار الإقليمي العام والعلاقات الاقتصادية مع الصين.

 فترامب يرى أن بكين أصبحت أكثر عدوانية في بحر الصين الجنوبي، ويجب على الولايات المتحدة أن تقف في وجه الاستفزازات الصينية، وتقف إلى جانب حلفائها وأصدقائها في جنوب شرق آسيا.

 لكن الواقع يكشف عن أن ميل ترامب لإعطاء الأولوية للمكاسب القصيرة الأجل، واستعداده للانخراط في مفاوضات للمقايضة مع الخصوم، قد يقوضان الجهود الرامية إلى الحفاظ على بيئة أمنية مستقرة، وقابلة للتنبؤ في المنطقة.

 

(4) صراع الكوريتين:

إن الركيزة الأهم في علاقات كوريا الجنوبية الخارجية هي تحالفها مع واشنطن. لكن لأن دونالد ترامب يعامل كوريا الجنوبية كشريك تجاري، بدلًا من كونها حليفًا قائمًا على القيم، فإن كوريا الجنوبية تشعر بالقلق بشأن الحفاظ على علاقة مستقرة مع واشنطن.

 ففي أكتوبر 2024، قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، نجحت سيؤول في التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة؛ لتقاسم تكاليف تمركز القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية للفترة من 2020 إلى 2026. مع ذلك، أصر ترامب على إعادة التفاوض حول الاتفاق، قائلًا إن على كوريا الجنوبية أن تدفع المزيد؛ لأنها دولة ثرية. وبالنسبة لسيؤول، فإن إعادة التفاوض ليست خيارًا مطروحًا.

وحتى لو اضطرت الدولتان لإعادة التفاوض، فسيكون ذلك مصدرًا خطيرًا للنزاع بين البلدين، إذا أثار ترامب مسألة تقليص أو سحب القوات الأمريكية.

وعلى غرار إدارة بايدن، يريد ترامب نزع السلاح النووي من كوريا الشمالية، لكن دبلوماسيته الاستعراضية غير التقليدية، المتمثلة في لقاء كيم جونغ أون شخصيًا، كما فعل في ولايته الأولى، ستسبب إحراجًا لكوريا الجنوبية، وتضيف شكوكًا إلى العلاقة بين سيؤول وواشنطن.

ولأن كوريا الجنوبية هي الطرف الأكثر تعرضًا للتهديد الكوري الشمالي، ولكي تضمن عدم استبعادها من العلاقات الأمريكية-الكورية الشمالية، فيجب عليها التركيز على القضاء على التهديد النووي لبيونغ يانغ، وتحويل كوريا الشمالية إلى دولة طبيعية من خلال مشاورات شاملة مع إدارة ترامب.

 وفي سياق المنافسة على الهيمنة بين واشنطن وبكين، سيواصل ترامب التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادي؛ لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد، وقد يُعطي كوريا الجنوبية، حليف الولايات المتحدة، دورًا استراتيجيًا محوريًا في احتواء التوسع الصيني.

لقد كان على كوريا الجنوبية، عادةً، أن توازن بين الولايات المتحدة والصين؛ لأن الأخيرة هي أكبر شريك تجاري لها، لكن 40% من سفن الشحن الكورية الجنوبية تمر عبر مضيق تايوان، وتعمل بكين على تصعيد التوترات في المنطقة، فضلًا عن أن شريان حياة الاقتصاد الكوري الجنوبي هو أشباه الموصلات، وقد بدأت سلسلة توريد أشباه الموصلات تعيد تنظيم نفسها حول الولايات المتحدة، باستبعاد الصين. لذا، فإن الحكومة الكورية الجنوبية اليمينية الحالية، الموالية للولايات المتحدة، على استعداد لتلبية مطالب واشنطن، حتى لو كان ذلك على حساب درجةٍ من التدهور في العلاقات مع بكين.

على المدى البعيد، سيكون من الحكمة لكوريا الجنوبية أن تختار الولايات المتحدة بدلًا من الصين. فقد ظلت اتفاقية التجارة الحرة بين سيؤول وواشنطن رمزًا للتحالف بين الجانبين، وأفادت كلًا منهما في المجال الأمني، وفي التجارة أيضًا.

 لكن ترامب، الذي يؤيد الحمائية، يرى أن اتفاقية التجارة الحرة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة غير مواتية لواشنطن، ويريد إعادة التفاوض بشأنها. وإذا زادت الحواجز الجمركية تحت ستار “وضْع أمريكا أولًا،” فقد يتضرر الاقتصاد الكوري الجنوبي، الذي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الصادرات.

 

(5) مستقبل “الناتو” في ظل رئاسته

يثير فوز الرئيس دونالد ترامب بولاية ثانية الكثير من القلق والترقب لدى دول حلف الناتو، خاصة بعد تجديد مطالباته، في أثناء حملته الانتخابية، لدول الحلف بضرورة زيادة إنفاقها العسكري على الأقل بنسبة 3% من إجمالي إنتاجها القومي.

 وما الأمر تعقيدًا هو تصريحات نائب الرئيس، جيمس ديفيد فانس، التي أعرب فيها عن معارضته لمزيد من الدعم الأمريكي لأوكرانيا.

هنا، نشير إلى أن الدول الأعضاء في “الناتو” رفعت بالفعل إنفاقها على الدفاع، لكن الإنفاق لايزال غير متساوٍ، حيث تخصص بولندا وإستونيا، كلتاهما على الجبهة الشرقية لـ”الناتو”،4.1% و3.4 % من ناتجهما المحلي الإجمالي على التوالي للدفاع، فيما تخصص البرتغال 1.6% وإسبانيا 1.3% فقط.

 

توجد ثلاثة أسباب رئيسية للقلق الأوروبي من تولى ترامب سد الحكم؛

 أولها: الخوف من استمرار تدهور القيم الديمقراطية في الولايات المتحدة، وتأثير ذلك في النظام الدولي.

ثانيها: انسحاب واشنطن من حلف الناتو، حيث لاتزال الولايات المتحدة تمثل دعمًا حيويًا لـ”الناتو” وأوكرانيا. ومن دون التزام واشنطن، قد يفتقر الحلف إلى القيادة السياسية والقدرات العسكرية اللازمة للدفاع عن أوروبا.

ويتعلق ثالثها بالعلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي، حيث يخشى الأوروبيون أن يعود ترامب إلى فرض الرسوم الجمركية، وممارسة ضغوط اقتصادية على دول الاتحاد الأوروبي.

وقد أثارت تهديدات ترامب بوقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وسحب عضوية واشنطن من حلف الناتو، وشعار “أمريكا أولًا”، حنق دول الحلف وغضبها، الأمر الذي جعل الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي يناشد، في 18 يوليو الماضي، الولايات المتحدة عدم التوقف عن دعمها المهم لأوكرانيا في مواجهة روسيا حتى بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

وتدل كل المؤشرات على أن فوز ترامب من شأنه الضغط على كييف؛ للوصول إلى نهاية الحرب؛ بطريقة قد لا تكون متوافقة مع نظرة الدول الغربية .

 في هذا السياق، حذر رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، في 12 يوليو الماضي، من أن إعادة انتخاب ترامب من شأنها أن تُغير الديناميكية المالية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بدعم أوكرانيا، ودعا إلى بذل جهود لتخفيف التوترات، وتهيئة الظروف لوقف إطلاق النار، وربما بدء مفاوضات السلام.

في الواقع، فإن هذه المخاوف لم تساور دول “الناتو” فقط، لكن أيضًا أعضاء الكونجرس الأمريكي، الأمر الذي دفعه لسنّ تشريع يمنع الرئيس من الانسحاب من حلف الناتو، ما لم يوافق الكونجرس على ذلك، إما بموجب تصويت مجلس الشيوخ لمصلحة القرار بغالبية الثلثين، أو بقرار من مجلسي النواب والشيوخ.

 بيد أن ترامب يستطيع الالتفاف على هذا الحظر، وقد أثار بالفعل الشكوك حول مدى استعداده لاحترام المادة الخامسة من بند الدفاع المشترك، التي أقرها حلف الناتو.

ومن خلال حجب التمويل واستدعاء القوات الأمريكية والقادة الأمريكيين من أوروبا، ومنع اتخاذ قرارات مهمة في مجلس شمال الأطلسي، فمن الممكن لترامب أن يضعف التحالف بشكل كبير من دون أن يخرج منه رسميًا، وحتى لو لم يسحب الدعم الأمريكي.

إن فوز ترامب زاد من المخاوف الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، بشكل واسع، ولاسيما أنه “يعامل حلف الناتو وكأنه نادٍ يدفع الرسوم”، الأمر الذي يدفع الدول الأوروبية إلى التفكير جديًا في توجهها نحو تشكيل قوة عسكرية خارج إطار الحلف، حيث بات لديها يقين مما هو قادم من تحولات في هيكلية التحديات التي يمكن أن تعلنها دول الحلف في المديين المتوسط والطويل.

وقد عملت الدول الأوروبية، في الآونة الأخيرة، على تعزيز صيغة الدفاع الأوروبي المشترك، وهي تحدد وتشير إلى المطلوب من خلال تطوير القدرات الدفاعية الأوروبية الاستراتيجية ذات الأهداف الرئيسية، ليس لاستبدالها محل الحلف الأطلنطي، بل لتكون إلى جانبه ومكملة لما يجرى من تطورات.

 ومن ثم، فإن دول “الناتو” ستظل تراقب ما يجري من تحولات حقيقية متعلقة بموقف ترامب من الحلف،وستعمل في الوقت نفسه على بناء القدرة النووية الأوروبية، وزيادة الإنفاق العسكري.

 

(6) حرب أوكرانيا

 

– الوضع الراهن

شهدت الحرب الروسية-الأوكرانية تطورات عدة، فقد شنت القوات الروسية هجومًا مضادًا في مقاطعة كورسك ضد القوات الأوكرانية، وتقدمت كيلومترات عدة في مناطق الاحتلال الأوكراني، وتواصل تأمين مكاسب “يومية” ثابتة ومتزايدة في الجبهة الشرقية الرئيسية، وتتقدم نحو مدينة كوبيانسك، ذات الأهمية اللوجستية في مقاطعة خاركيف.

في خضم هذه التطورات العسكرية غير المواتية للمصالح الأوكرانية، أعلن الرئيس فولوديمير زيلينسكي “خطة النصر” لإنهاء الحرب بحلول العام المقبل، والمكوّنة من عدة نقاط، أهمها انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وتعزيز قدراتها الدفاعية، بما في ذلك رفع القيود على استخدام الأسلحة الغربية البعيدة المدى في العمق الروسي.

فيما عدا ذلك، يستمر القتال الموضعي في الخطوط الأمامية بأكملها، ويتبادل الطرفان الضربات الجوية والصاروخية ضد مرافق البنية التحتية والأهداف العسكرية واللوجستية. وفيما يتواصَل كلٌ من الدعم العسكري والسياسي الغربي، لاسيما الأمريكي، لأوكرانيا، يبدو أن هناك اصطفافًا من جانب الصين وإيران وكوريا الشمالية إلى جانب روسيا.

 

– ترامب والحرب الروسية-الأوكرانية

يُلقي دونالد ترامب باللوم جزئيًا على الرئيس الأوكراني زيلينسكي لاندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وأطلق عليه أنه “واحد من أعظم مندوبي المبيعات… كلما جاء إلينا، نمنحه 100 مليار دولار”. على الجانب الآخر، لدى ترامب تصورٌ إيجابي عن الرئيس بوتين، بل إعجاب شخصي به؛ فهو رجل قوي، يدافع عن مصالح بلاده.

ويزعم ترامب أنه لو كان في منصبه عام 2022، لما اندلعت هذه الحرب من الأساس. وتعهد بأنه، في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية 2024، سوف ينهي الحرب في مدة 24 ساعة، وقبل تسلمه رسميًا منصبه في 20 يناير 2025. بعبارةٍ محددة، يؤكد ترامب أن هذه الحرب يجب أن تنتهي فورًا؛ لأنها تستنزف الاقتصاد الأمريكي، وتحرف اهتمام بلاده عن التهديد الرئيسي، الذي تواجهه لقيادتها الدولية، وهو تنامي صعود الصين، وزيادة تحديها للنفوذ والمصالح الأمريكية.

انتقد ترامب الحجم الكبير للمساعدات الأمريكية المقدمة لأوكرانيا، وإنْ أوضح أنه لا يعارض مساعدتها من حيث المبدأ، وأظهر تعاطفًا تجاه الشعب الأوكراني. لكنه، بالقطع، سوف يُحجّم هذه المساعدات في حال فوزه بالانتخابات، وسوف يستخدمها ورقة ضغط سياسية على كييف؛ للقبول ببدء التفاوض مع روسيا لإنهاء الحرب.

وقد أشار مقربون من ترامب إلى خطة يقترحها، يتم بموجبها الاعتراف بسيادة روسيا على المناطق الشرقية الأوكرانية وشبه جزيرة القرم، وذلك عن طريق الضغط على الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، لقبول الدخول في مفاوضات سلام مع موسكو لإنهاء الحرب.

 لكنّ الأقرب للتصور هو إعلان ترامب صفقةً سياسية كبرى لإنهاء الحرب، تتضمن منح إقليم الدونباس الأوكراني (بمقاطعتيه: دونيتسك ولوهانسك) استقلالًا ذاتيًا واسع النطاق، أو ربما تحويله إلى إقليم فيدرالي في دولةٍ فيدرالية أوكرانية على نمط نموذج إقليم كردستان في العراق، وانسحاب القوات الروسية والأوكرانية إلى حدود ما قبل 22 فبراير 2022، وتعهد روسيا باحترام سيادة أوكرانيا؛ ما يعني إلغاء قرار موسكو ضمَ المقاطعات الأربع في شرقي وجنوبي أوكرانيا (مقاطعات دونيتسك ولوهانسك وزابوروجيا وخيرسون) في سبتمبر 2022. في مقابل ذلك، سوف يتم رفع العقوبات الأمريكية والغربية على موسكو، وإعادة تطبيع العلاقات الأمريكية-الروسية، والاعتراف بمصالح موسكو في أوكرانيا؛ ما يعني التعهد بعدم انضمام كييف لحلف الناتو.

لكن التداعيات السياسية والاستراتيجية لإنهاء الحرب سوف تكون هائلة، أهمها حصول انقسام في الجبهة الغربية المساندة لأوكرانيا، لاسيما داخل حلف الناتو، الذي يتخذ ترامب موقفًا حادًا تجاهه على أية حال، وزيادة احتمالات تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة والصين؛ وذلك لأن الأولى سوف تُركز اهتمامها على منطقة الإندوباسيفيك.

 

(7) تركيا والملف السوري

ستظل العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا تتسم بالبراغماتية، وقائمة على الصفقات أساسًا، مع التركيز على الاتفاقات المخصَّصة الغرض عوضًا عن الشراكة الاستراتيجية المستقرة. وستواصل إدارة ترامب إعطاء الأولوية للمكاسب القصيرة المدى، مدفوعةً بأجندته الانعزالية، مع التركيز على الإنفاق الدفاعي والحمائية الاقتصادية، بالاقتران بالحلول السريعة والوحشية للاشتباكات المطولة في الشرق الأوسط والانسحاب من المنطقة.

قد يؤدي هذا التوجه، إلى جانب تركيز ترامب على مسرح المحيطين الهندي والهادي، إلى زيادة الإنفاق الدفاعي الأمريكي، من خلال قانون إقرار الدفاع الوطني في الولايات المتحدة (NDAA)، إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي؛ ما سيؤثر في دور تركيا في حلف الناتو، حيث تعيد الولايات المتحدة معايرة تركيزها، وترسل إشارات بتراجع التزامها نحو التحالف. ومن شأن نهج ترامب الرامي إلى بدء مفاوضات سريعة لإنهاء الحرب في أوكرانيا حفظ الوقت والدم والمال، لكنه سيزيد من الضغط على أنقرة؛ لاتخاذ قرارات صعبة بشأن موقفها الدفاعي، ودورها داخل حلف الناتو.

وسوف تعتمد تركيا على النجاح المتصور للمخطط القائم على عقد الصفقات بين الرئيسين أردوغان وترامب، وستسعى بشكل مكثف إلى تحقيق مراجعات للسياسات في واشنطن، مع التركيز أساسًا على سوريا.

ويعتقد مقررو السياسات الأتراك أن فريق الأمن القومي لدى ترامب أكثر تفهمًا لمخاوفهم حيال التعاون الأمريكي مع وحدات حماية الشعب/حزب الاتحاد الديمقراطي (YPG/PYD)، التي تُعدّ منظمة إرهابية تعمل تحت غطاء حزب العمال الكردستاني (PKK) المحظور.

وقد أشير صراحة في خطة الرئيس ترامب، المعنونة “مشروع 2025، إلى الدعم الأمريكي إلى المجموعات الكردية، ودُعِي إلى إعادة النظر في هذه السياسة. وستتابع أنقرة التواصل مع الفريق الجديد للأمن القومي لترامب الآخذ في التشكل، وتأمل تركيا أن تجد فرصة من أجل رفع سريع للعقوبات المفروضة عليها بموجب “قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات” (CAATSA)، حيث يُعدّ ترامب أكثر تعاطفًا مع الموقف التركي، مقارنةً بموقفه، في أثناء فترة رئاسته السابقة، وهذا من شأنه أن يفسح المجال لاستئناف المفاوضات بشأن العودة إلى برنامج المقاتلات من طراز إف-35 وتعزيز التعاون في مجال الصناعة الدفاعية.

غير أن هذه العلاقة ستكون معرضة للخطر؛ نتيجة لتباين السياسات تجاه الحرب في غزة، حيث يُتوقع أن يؤدي دعم تركيا لحركة حماس والفصائل الفلسطينية الأوسع إلى نشوب خلافات مع الإدارة الأمريكية. وسيبقى دعم الولايات المتحدة لإسرائيل قويًّا، وقد يُعطي تل أبيب حرية أوسع للتحرك في المنطقة.

قد يرفع هذا من حدة التوتر بالنسبة لأنقرة، خاصة إذا أثارت تصرفات إسرائيل ردود فعل من إيران؛ ما قد يجر تركيا إلى صراع إقليمي أوسع، خاصةً إذا ردت طهران باستهداف منشآت النفط في الخليج؛ ما يهدد بارتفاع أسعار النفط إلى المستويات المسجلة، في أثناء تعافي الاقتصاد العالمي من جائحة كوفيد-19 عام 2022.

فضلًا عن ذلك، فإن علاقة أنقرة بجامعة الدول العربية وموقفها من الأزمة السورية سيشكلان أبعادًا رئيسية في سياستها الخارجية. فهناك تعارض بين موقف الرئيس التركي أردوغان، المناهض للنظام السوري، والمواقف الأكثر حيادًا أو الداعمة لبعض الدول الأعضاء في الجامعة العربية.

وتدعم تركيا قوى المعارضة في سوريا، وهذا يتماشى مع الموقف الأمريكي من حيث تركيزه على مكافحة تنظيم داعش، لكنه يتعارض مع الدعم الأمريكي لقوات وحدات حماية الشعب/حزب الاتحاد الديمقراطي. ورغم هذه الخلافات، قد يسمح النهج غير المتدخل لترامب وتخفيفه من المشاركة في المنطقة لتركيا بفرض مزيد من النفوذ في شمال سوريا دون تدخل أمريكي مباشر.

 

من الناحية الاقتصادية،

سيؤدي ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي في عهد ترامب؛ بسبب سياساته الحمائية المدفوعة بالرسوم الجمركية، إلى الضغط على الاقتصاد التركي الذي يعتمد على الواردات بالدولار والصادرات باليورو.

وقد تؤدي السياسات الحمائية لترامب إلى انخفاض اليورو مقابل الدولار إلى مستوى 1,05؛ ما يُضعف نسبة الصادرات إلى الواردات لدى أنقرة، حيث إن ارتفاع الدولار يعني الحاجة إلى مزيد من اليورو لتغطية كل دولار من واردات تركيا؛ ما يؤدي إلى زيادة التكاليف، وربما تفاقم مشكلات ديونها الخارجية. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعامل ترامب مع العجز في الحساب الجاري الأمريكي، من خلال فرض رسوم جمركية واسعة (بنسبة 20 في المئة) على الواردات، خاصة من الصين (بنسبة 60 في المئة)، قد يؤدي إلى تباطؤ في التجارة العالمية؛ ما يؤثر سلبًا في الاقتصاد التركي القائم على التصدير.

يُبرِز النهج البراغماتي في العلاقات بين واشنطن وأنقرة استراتيجية تركيا التحوطية من خلال توسيع شراكاتها، وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، التي تزداد تقلباتها، في حين أن نزعات ترامب الانعزالية تتيح لأنقرة مساحة أكبر للمناورة في المنطقة. في المجمل، قد ترى تركيا في ترامب شريكًا مفيدًا، لكنه غير متوقع، ما يجعلها تفضل التعاون التكتيكي، مع الاستمرار في تنويع شراكاتها، وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة في مشهد إقليمي متعدد الأقطاب على نحو متزايد.

 

(8) أمريكا الجنوبية

 

– سياسات الهجرة غير الشرعية

تعد الهجرة غير الشرعية قضية رئيسية في الولايات المتحدة، ومن المتعارف عليه أن الجمهوريين أكثر تشددًا في سياسات الهجرة من الديمقراطيين. لكن مع تحول الرأي العام الأمريكي، صعّد كل من الحزبين خطابه تجاه موضوع الهجرة، فكان من الملاحظ أن هناك تصعيدًا في خطاب ترامب، في أثناء حملته الانتخابية حول الهجرة، إلى حد وصف المهاجرين بأنهم قتلة مختلون عقليًا، مسؤولون عن “تسميم دماء بلادنا”، ويدَّعِي أنه سينفذ “أكبر عملية ترحيل في تاريخ الولايات المتحدة”.

قبل فوزه، كان ترامب قد تعهد، حال عودته للبيت الأبيض، بتنفيذ ما سماه “أكبر عملية ترحيل في التاريخ الأمريكي”، وذلك من خلال استدعاء سلطات الطوارئ، وتنشيط الاحتياطيين العسكريين، والاعتماد على دعم حكام جمهوريين؛ لتنفيذ هذا الترحيل الجماعي القسري للمهاجرين غير المسجلين.

كذلك، كان الرئيس ترامب قد حمّل، في المناظرة الرئاسية، التي جمعته بمرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس، في شهر سبتمبر الماضي، وقبل فوزه بالانتخابات الأخيرة، مسؤوليةَ وصول الكثير من المهاجرين “المجرمين”، على البلاد، وأن سياسات إدارة بايدن السيئة “قد دمرت البلاد”، وأنه إذا أصبحت هاريس رئيسة، فـ”ستتحول الولايات المتحدة إلى فنزويلا”.

لذا، فمن المتوقع أن ينفذ ترامب سلسلة من الإجراءات لتنفيذ تلك السياسات التي وعد قبيل انتخابه، وبحسب ما تسمح بها ديناميات فترة حكمه به؛ ومن أهم تلك الإجراءات:

 

*عسكرة الحدود الجنوبية.

*أمننــة الهجــرة.

*الترحيل الجماعي القسري.

*عسكرة القضاء الخاص بالهجرة، وذلك بسن قوانين أو بتفعيل قوانين، مثل قانون العدو الأجنبي الذي وُضع عام 1798، لتسريع طرد المهاجرين غير الشرعيين من الولايات المتحدة.

**وقف الهجرة لمدة معينة قابلة للتمديد أو للتغيير “بناء على الظروف الاقتصادية في حينه”.

 

– العلاقات السياسية الأمريكية-الفنزويلية

تتزامن الانتخابات الأمريكية مع مواجهة نظام مادورو، الحاكم في فنزويلا، تحدياتٍ كبيرة لتزايد الضغوط الإقليمية والدولية عليه للتراجع عن نتائج الانتخابات الأخيرة، خاصة مع اعتراف دول عديدة، على رأسها الولايات المتحدة، بفوز مرشح المعارضة، إدموندو غونزاليس أوروتيا.

  في هذا السياق، من المرجح أن تُبقي الإدارة الجديدة على جوانب رئيسية في السياسة الأمريكية تجاه كاراكاس، مثل دعم الولايات المتحدة للمعارضة الفنزويلية، غير أن إدارة ترامب الجديدة ربما تلجأ إلى مساندة أعمال، مثل انقلاب أو تدخل عسكري في فنزويلا، وذلك بشكل غير مباشر. ففي أغسطس الماضي، صرح ترامب بأن فنزويلا يحكمها ديكتاتور.

ويُذكر أن مادورو كان قد اتهم ترامب بمساندة ما وصفه بمحاولة انقلاب عام 2019 بالتعاون مع ما وصفه بـ”اليمين المتطرف”.

لكن في المقابل، هناك تاريخ حافل لترامب في طرح المبادرات المفاجئة، ولعل أبرز مبادراته من هذا النوع، عندما كان في الحكم، لقاؤه مع الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ، عام 2019، الذي فاجأ حينها حتى الداخل الأمريكي.

 في هذا السياق، فإن من غير المستبعد أن يستمر سلوك ترامب الخاص بالقيام بمبادرات فردية مفاجئة، ومن الممكن أن يطرح مبادرات مفاجئة تجاه فنزويلا ومادورو.

 

(9) مستقبل حرب غزة برئاسة ترامب:

على الرغم من أنه من غير المرجح أن يكون لفوز ترامب تأثير ذو مغزى في مستقبل قطاع غزة، أو مآلات الحرب هناك، فإن فوزه  ربما يعني مزيدًا من تراجع هذه القضية على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، بحيث إنه إذا لم تقع حوادث كبرى تمثل تهديدًا حقيقيًّا للولايات المتحدة أو المصالح الأمريكية والإسرائيلية، فلن يكون هناك اهتمام أو حوار حقيقي حول صفقة لإنهاء الحرب وتحرير الرهائن. في الوقت نفسه، سيستمر تدفق الدعم بأشكاله المتعددة إلى تل أبيب؛ من أجل ضمان تحقيق إسرائيل “النصر”، كما أشار ترامب غير مرة.

– مواقف ترامب الرئيسية حيال الحرب في غزة

 

تأكيد الدعم القوي لإسرائيل

كثيرًا ما وصف ترامب نفسه بأنه “أفضل صديق” لإسرائيل. على سبيل المثال، خلال خطابه أمام المجلس الإسرائيلي-الأمريكي في واشنطن في 19 سبتمبر، صرح بالقول: “سنجعل إسرائيل عظيمة مرة أخرى”، وأكد أنه بفضل أصوات اليهود الأمريكيين، سيكون “مدافعًا” و”حاميًا” و”أفضل صديق لليهود الأمريكيين في البيت الأبيض على الإطلاق”.

وذكر أن هذه الانتخابات الأمريكية هي “الانتخابات الأكثر أهمية في تاريخ إسرائيل”، وأن إسرائيل في “ورطة كبيرة”، وسوف “تُمحى عن وجه الأرض” إذا لم يفز. وقال إن هجوم 7 أكتوبر كان “إحدى أحلك الساعات في تاريخ البشرية”، موضحًا أنه كان “هجومًا على الإنسانية نفسها”، وأن هذا الهجوم كشف عن “وحشية مخيفة” و”بهجة شيطانية”. وشدد على أن الرابطة بين الولايات المتحدة وإسرائيل “قوية ودائمة”، لكنها ستكون “أقوى وأقرب مما كانت عليه من قبل”، إذا فاز في الانتخابات.

في هذا السياق، تحدث ترامب أيضًا عن منح إسرائيل كل ما تحتاج إليه للدفاع عن نفسها، والسماح لها “بإنهاء المهمة”، ألا وهي القضاء على “حماس”. وخلال حدث تذكاري في السابع من أكتوبر في فلوريدا، تعهد ترامب بأنه “سيدعم حق إسرائيل في الفوز في حربها ضد الإرهاب”. وفي حديثه أمام تجمع “الوقوف مع إسرائيل” في 7 أكتوبر، قال نائب ترامب، جي دي فانس: “لأننا نريد السلام أكثر من أي شيء آخر، ولأننا نود منع هذا من أن يصبح صراعًا إقليميًّا أوسع نطاقًا، فإننا ندعم حق إسرائيل في الوجود، وندعم حقها في الدفاع عن نفسها، والقيام بكل ما يلزم لإنهاء الحرب.

 

دعم خطط إسرائيل بشأن القطاع

يبدو من تصريحات ترامب أنه يؤيد بالكامل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع؛ حتى تحقق إسرائيل أهدافها هناك، ليس فقط القضاء على “حماس”، وإنما -ربما- الاستمرار في البقاء في القطاع، وضمه إلى إسرائيل. ففي مؤتمر صحفي عُقد في منتصف أغسطس الماضي، انتقد ترامب هاريس وإدارة بايدن لدعوتهما المتكررة لوقف إطلاق النار. وقال ترامب: “منذ البداية، عملت هاريس على تقييد يد إسرائيل خلف ظهرها، وطالبت بوقف إطلاق النار الفوري، وطالبت دائمًا بوقف إطلاق النار”، وهو ما أكد ترامب أنه “لن يسمح لحماس لإعادة تجميع صفوفها، وشن هجوم جديد على غرار هجوم 7 أكتوبر”.

وخلال المقابلة التي أجراها مع مذيع الراديو المحافظ هيو هيوت، في ذكرى هجوم السابع من أكتوبر “طوفان الأقصى”، قال ترامب إنه زار قطاع غزة من قبل. وفيما شككت صحيفة نيويورك تايمز في هذا الأمر، وزعمت أنه لا يوجد سجل لهذه الزيارة، قال مسئول بحملة المرشح الجمهوري، رفض الكشف عن هويته “إن غزة في إسرائيل، ولقد كان ترامب في إسرائيل”.

وقالت صحيفة نيويورك تايمز إن التصريحات تجدد التساؤلات بشأن النهج الذي سيتبعه ترامب إذا فاز بفترة رئاسية أخرى، وأشارت إلى أن بعض المسؤولين في إسرائيل، ومنهم المتطرفون في حكومة بنيامين نتنياهو، يؤيدون فكرة إعادة احتلال غزة وضمها لإسرائيل.

 

غزة بعد وصول ترامب للرئاسة

يشير سجل تصريحات ترامب إلى أنه في حال فوزه بولاية رئاسية ثانية، لن يدعم خطط تل أبيب لاستمرار العمليات في قطاع غزة فحسب، وإنما ربما يدعم خطط ضم القطاع إلى إسرائيل وعودة الاستيطان هناك.

فبالنظر إلى قضية إنهاء الحرب في القطاع، يؤيد ترامب بشكل واضح استمرار العمليات الإسرائيلية هناك؛ حتى تستكمل تل أبيب أهدافها. لهذا، من غير المرجح أن تدعم إدارة ترامب أية خطط لعقد صفقات مع حماس لوقف الحرب وإعادة الرهائن.

وبالنظر إلى خطط إدارة القطاع، يؤكد تصريحه المشار إليه أعلاه أنه يَعُدُّ قطاع غزة جزءًا من إسرائيل. لهذا، من المرجح أن يدعم خطط اليمين المتطرف في إسرائيل لضم القطاع وإعادة الاستيطان، أو على الأقل لن يبدي معارضة حقيقية لها. على أقل تقدير، فإن ميل تل أبيب نحو احتلال عسكري مفتوح يشمل السيطرة الإسرائيلية على الحدود بين مصر وغزة ووسط غزة، فضلًا عن تنفيذ عمليات عسكرية متكررة بقوات بحجم لواء، سيلقى دعمًا وتأييدًا من إدارة ترامب. وستتفق الإدارة مع الحكومة الإسرائيلية على ضرورة استمرار العمليات الإسرائيلية في القطاع لدحر التمرد، من دون أن تسمي الوجود العسكري على الأرض احتلالًا.

 

(10) ملفات أفريقيا الملحة

ثمة  اختلاف فيما يتعلق بالسياسات التي سيتبعها ترامب حيال أفريقيا، ففي حين يرى البعض بأن سياساته لن تختلف عن ولايته الأولى، خاصة فيما يتعلق بالنهج “الانعزالي”، وعدم إيلاء الأفارقة “التقدير المناسب”، تذهب بعض التحليلات إلى احتمالية حدوث تغيير في توجهات سياسة ترامب تجاه القارة نحو مزيد من التقارب مع الدول الأفريقية، استنادًا إلى ما تضمنه مشروع ترامب 2025 الذي يزعم أن فريقه يدرك الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا على المدى الطويل، وكذلك في ضوء مبادئ استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي ترى في الصين وروسيا التهديد الرئيسي في القارة.

في ضوء التطورات الجيواستراتيجية في القارة، خلال السنوات الأربع الماضية، لا يُتوقع استمرار إدارة ترامب في نهجها السابق، وإن كانت التغييرات ستتم بصورة جزئية، ووفقًا لكل قضية وأهميتها النسبية للإدارة الأمريكية.

 

– الاستقرار السياسي في أفريقيا

تظل أفكار دونالد ترامب متسقة إلى حد كبير مع ولايته الأولى (2017- 2021)، التي تتمحور حول الانعزالية والنزعة القومية. ومع تعهده بمواصلة برنامجه “أمريكا أولًا”، وخفض المساعدات الخارجية، تزداد التوقعات حول تبني واشنطن نهجًا انعزاليًّا تجاه أفريقيا. فقد تراوح نهج ترامب تجاه القارة في ولايته الأولى بين الازدراء والإهمال، وكان سلبيًّا بشكل عام بالنسبة لها، حيث لم يسبق لترامب زيارة القارة الأفريقية طوال السنوات الأربع في فترته الأولى.

وماتزال التصريحات المثيرة للجدل التي وصف فيها ترامب بعض الدول الأفريقية بـ “القذرة” عالقة في أذهان الأفارقة الذين يخشى معظمهم صعوده للسلطة مرة أخرى، لاسيّما أن ترامب قد سخر مجددًا من الدول الأفريقية، بعدما علق ساخرًا على حادث إطلاق نار من شاب موريتاني في شيكاغو، عبر منصة “X”: “هل سمعت من قبل عن دولة اسمها موريتانيا؟“.

يعزز ذلك الأمر من الترجيحات بألَّا يعطي ترامب الأولوية لأفريقيا بعد الانتخابات، ما يعني استمرار تراجع القارة في حساباته. بمعنى آخر، يجب توقع قدر كبير من الاستمرارية في النهج الأساسي لواشنطن تجاه أفريقيا، الذي يتضمن قدرًا قليلًا من المبادرات الإنمائية والمساعدات الإنسانية الرئيسية.

وفي ضوء التهديدات الأمنية، التي تشهدها بعض دول القارة الأفريقية، بما في ذلك دول الساحل وغرب أفريقيا؛ نتيجة اضطراب الأوضاع السياسية؛ بسبب سلسلة الانقلابات العسكرية التي شملت بعض دولها خلال السنوات الأربع الماضية، واتساع نشاط بعض التنظيمات الإرهابية المتمركزة هناك، لاسيّما تنظيمَيْ “القاعدة” و”داعش”، إضافة إلى تصاعد النفوذين الصيني والروسي، لاسيّما في غرب أفريقيا، الذي عَدَّه مايكل لانجلي، قائد أفريكوم، بمنزلة أنشطة مزعزعة للاستقرار في غرب أفريقيا تهدد المصالح الأمريكية؛ في ضوء كل ما سبق لا يبدو في الأفق أي تغيير محتمل في سياسة ترامب، إذ تظل رؤيته تدور حول “ما المصلحة التي لدى واشنطن في تعريض الجنود الأمريكيين للخطر في معارك في أفريقيا لم تكن لها؟”، بما يعزز نهج ترامب الذي يقوم على الحد من الوجود العسكري الأمريكي في القارة، وهو ما قد يدفعه إلى استئناف عملية الانسحاب الأمريكي من بعض الدول الأفريقية على غرار ما جرى في الصومال، قبل أن يتراجع بايدن في هذا القرار، عقب وصوله للسلطة عام 2021. فربما يفكر ترامب في نشر القوات الأمريكية، على سبيل المثال، في المحيط الهادي، مقابل تخفيف مهامها بشكل خاص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الأمر الذي يهدد بتقويض المصالح الأمنية الأمريكية، لاسيّما في ظل تنامي النفوذين الصيني والروسي على الساحة الأفريقية.

ثمة اختبار صعب، ربما يحدد مسار العلاقات الأمريكية-الأفريقية، عندما يحين التصديق على قانون النمو والفرص في أفريقيا (أجوا) المقرر له عام 2025، وإن كانت الترجيحات تشير إلى أن ولاية ترامب الثانية ربما تركز على تعزيز التعاون التجاري الثنائي مع القارة، من خلال إبرام المزيد من الاتفاقيات التجارية الثنائية على حساب الصفقات المتعددة الأطراف، بما قد يدفعه للسعي لتقوية قانون “أجوا” خلال الفترة المقبلة، وإن كان ذلك -في حالة تنفيذه- سيظل غير كافٍ لإحداث تحول جوهري في مسألة تطوير العلاقات الأمريكية-الأفريقية في ولاية ترامب الثانية.

يرجح سعي إدارة ترامب إلى الحفاظ على الشراكات النوعية في بعض دول القارة؛ لتحقيق أجندة مستقرة تجاه بعض الملفات، ومن هذه الأنظمة: كينيا وإثيوبيا في شرق أفريقيا، وغانا والسنغال في الغرب، ومصر في منطقة حوض النيل والبحر الأحمر.

 

– قضية سد النهضة

بدا موقف إدارة ترامب الأولى تجاه أزمة سد النهضة متوافقًا بشكل ملحوظ مع الرؤية المصرية، وهو ما عبرت عنه “الرعاية” الأمريكية للاتفاق الذي لم يكتمل بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا في يناير 2020، بعدما انسحبت أديس أبابا؛ بحجة أن الجانب الأمريكي ينحاز بشكل واضح للموقف المصري، وأن واشنطن تجاوزت الدور المنوط بها من كونها مراقبًا، في ضوء انحيازها الواضح للجانب المصري، بحسب الرواية الإثيوبية. ومع ذلك، لم تضغط واشنطن بشكل قوي على أطراف الأزمة من أجل التوصل لتسوية شاملة في هذا الملف.

من المتوقع ألّا تتحرك إدارة ترامب نحو تسوية هذه الأزمة، ما لم يتحرك أي من أطرافها لطلب الوساطة الأمريكية، أو عند تأزم الموقف، حال احتمال اندلاع مواجهة بين أطرافها، لاسيّما أن نهج ترامب سيظل منكفئًا على الملفات الداخلية في المشهد الأمريكي، استنادًا لشعاره “أمريكا أولًا”، وفي ضوء تراجع أولوية أفريقيا في برنامجه وسياسته.

 

– أمن البحر الأحمر

في ضوء السياق الأمني المضطرب، الذي يشهده إقليم البحر الأحمر، وكذلك منطقة القرن الأفريقي، لاسيّما مع تكثيف جماعة الحوثي، المدعومة إيرانيًّا، لهجماتها وعملياتها في البحر الأحمر ضد السفن التجارية المارة عبر مضيق باب المندب، يرى ترامب أن تأمين السفن الصينية إلى أوروبا ليس من اختصاص واشنطن، وبالتالي يمكن إسناد الحماية لأطراف إقليمية؛ للاضطلاع بمسؤولية أمن البحر الأحمر ضد التهديدات الأمنية المتنامية هناك من بعض الفاعلين من غير الدول، مثل الحوثي، وكذلك حركة الشباب المجاهدين الصومالية.

من المتوقع أن يتأثر النفوذ الأمريكي في المنطقة إذا أعاد ترامب -عقب وصوله المحتمل للسلطة- عملية انسحاب الجنود الأمريكيين من الصومال، وهو ما يمثل فرصة لبعض القوى المنافسة؛ لتعزيز حضورها ونفوذها هناك على حساب الحضور الأمريكي.

يرجح دعم ترامب للوجود العسكري الإسرائيلي في إقليم أرض الصومال (مشروع القاعدة العسكرية)، في ظل حاجة كلتا الدولتين إلى تقويض العمليات التي تقوم بها جماعة الحوثيين في البحر الأحمر، إلّا أن هذا الأمر مرتبط ببعض الحوافز التي قد تمنحها الإدارة لمصر والصومال للقبول بمشروع القاعدة.

 

(11) جماعات الإسلام السياسي والإرهاب

 

– جماعة الإخوان المسلمين

نتيجة للضربات التي تلقتها جماعة الإخوان، منذ ما يسمى الربيع العربي، خرجت الجماعة من معادلات العلاقات الدولية إلى حد كبير، وذلك لخروجها من دائرة التأثير في الشارع العربي من ناحية، وخروجها تقريبًا من الاستخدام الجيواستراتيجي للصراع بين الدول من ناحية أخرى.

في هذا السياق، من المرجح أن تستثمر إدارة ترامب تلك الفرصة لحصار وتقويض المنظمات والمؤسسات التي تتبع الجماعة، وذلك من خلال قوانين وإجراءات تهدف للحد من تأثيرها الدولي من جانب، وللحد من تأثيرها في الانتخابات الأمريكية باحتكارها للصوت المسلم مستقبلًا، وكذلك الحد من تأثير خطابها في المجتمعات المسلمة بالداخل الأمريكي، من جانب آخر. ومن الأمور التي تعزز تلك الفرضية أن ترامب عادةً ما يهدف لخطب وُدّ الدول العربية المناهضة للجماعة.

لكن من غير المرجح أن تصنف إدارة ترامب الإخوان جماعةً إرهابية، إلّا إذا وقع حدث جلل يسمح له بفعل ذلك، أو إذا تنامَى ما يمكن أن نطلق عليه التحالف الناشئ بين الإسلاموية (بشقيها السُّني والشيعي) وبين “الأوراسية الجديدة”، بشكل يشكل خطرًا على مصالح الولايات المتحدة، وهو التحالف الذي يمثل قُبلة الحياة للإسلاموية للعودة في التأثير في العلاقات الدولية.

 

– الجماعات المتطرفة والإرهابية

ستعطي إدارة ترامب أولوية لمواجهة الإرهاب، لاسيّما التنظيمات المسلحة العابرة للحدود، على غرار تنظيمَيْ “القاعدة” و”داعش”، أو حتى التنظيمات الإرهابية المحلية على غرار “بوكو حرام” و”طالبان باكستان”، وستسمح باستخدام القدرات العسكرية لتقويض تهديدات تلك التنظيمات، والاعتماد بشكل رئيسي على استراتيجية استهداف الرؤوس، التي تهدف إلى القضاء على قادة التنظيمات الإرهابية. وما يرجح هذا النهج سوابقُ نجاحه في منع شن هجمات، خاصة ضد الولايات المتحدة ومصالحها الخارجية، وسهولة تنفيذه بالاعتماد أكثر من أي وقت مضى على الطائرات المسيّرة؛ للحفاظ على أرواح الجنود الأمريكيين.

بالتوازي مع الاستراتيجية السابقة، ستنتهج إدارة ترامب آلياتٍ أخرى، مثل تجفيف مصادر التمويل للتنظيمات الإرهابية، بالإضافة إلى التضييق على تمويل الإرهاب، من خلال فرض عقوبات اقتصادية، وهو ما أشار إليه السيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، في مطلع أغسطس 2024، حيث اقترح فرض رسوم جمركية على الدول التي تشتري النفط من دول تخضع للعقوبات الأمريكية، أو التي تمول الإرهاب مثل إيران.

ستُضيّق إدارة ترامب أكثر من أي وقت مضى الخناق على التنظيمات الإسلامية المختلفة على الأراضي الأمريكية، مثل حركة حماس، حيث نُشِرَ على منصة الحزب الجمهوري الأمريكي برنامج لعام 2024، مُكَوَّن من 20 نقطة موجزة، تشكل في مجملها وثيقة لسياسات الحزب. وشدد البرنامج على ضرورة “ترحيل المؤيدين لـحركة حماس. ونصت إحدى النقاط الواردة تحت فصل بعنوان “إعادة التفكير السليم للحكومة وتجديد ركائز الحضارة الأمريكية”، على أن اللجنة الوطنية تتعهد بأن “يُدين الجمهوريون معاداة السامية، وأن يؤيدوا إلغاء تأشيرات الرعايا الأجانب الذين يدعمون الإرهاب والجهاد”، وأنهم “سيحاسبون مَنْ يرتكبون أعمال عنف ضد الشعب اليهودي.

 

(12) الاقتصاد العالمي

بعد إعلان فوز دونالد ترامب، في سباق الرئاسة الأمريكية، رسميًا، تباينت استجابة متغيرات الاقتصاد العالمي اللحظية لذلك. وفي ضوء تنفيذ البرامج والسياسات التي سبق أن أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإنه يتوقع أن تترك تأثيرات عميقة وطويلة الأجل على مجريات الاقتصاد العالمي، وسيكون التأمل فيها مفيدًا في عملية استشراف توجهات الاقتصاد العالمي في المستقبل المنظور.

ورغم ما بينها من تشابك وتداخل، تتوزع أبرز الآثار التي سيتركها فوز دونالد ترامب على مجريات الاقتصاد العالمي على مستويات تحليلية عدة، كما يوضحها الشكل التالي، والفقرات التحليلية التي تليه:

 

-تقلبات حذرة للأسواق الدولية:

 فيما يتعلق بالتأثير في حركة الأسواق الدولية، ورغم أن قضايا الاقتصاد الداخلية هي التي ستحكم التحركات الآنية للإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة ترامب، فإن الأسواق الدولية، بما فيها أسواق المال وأسواق السلع والعملات وأسواق الطاقة، تنتظر تقلبات حذرة. ونتيجة لمخاوف احتدام التنافس الدولي، يُتوقع أن تشهد أسعار الطاقة عالميًا تراجعًا ثم استقرارًا في الشهور القليلة القادمة. وعلى العكس من ذلك، من المتوقع أن يزداد الزخم في حركة أسواق المال الدولية، باستثناء الأسواق الأوروبية والصينية المهدَّدة بالحمائية من ترامب]؛ لتتابع الازدهار المتوقع لأسهم الشركات الأمريكية، التي ستستفيد من الدعم القوي المتوقع أن يقدمه ترامب للشركات المحلية.

 

-تعمُّق وانتشار ظاهرة التجزؤ العالمي:

 فيما يخص التأثيرات في الدول والتكتلات الاقتصادية، فمن المتوقع أن تتعمّق حدة الخلافات الاقتصادية مع حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والحلفاء في آسيا.

 ولأن ترامب يفضل الجمارك على العقوبات، فإنه يُتَوَقَّع حدوث موجة جديدة من الحمائية الدولية التي غالبًا ما تؤثر سلبًا في انتظام سلاسل التجارة العالمية، وتزيد من محفزات الانفصال بين التكتلات الاقتصادية. ونظرًا لأن الاتحاد الأوروبي يمتلك أوراقًا متعددة للضغط، فيُتوقع أن تظهر موجة جديدة من التنافس داخل التحالف الغربي؛ ما قد يشكل متنفسًا للصين في تعزيز التعاون من الاتحاد الأوروبي.

 

-احتدام التنافس التكنولوجي واتساع نطاقه:

رغم التناظر في اهتمام الديمقراطيين والجمهوريين بقضايا التنافس التكنولوجي الدولي، لما لهذه القضايا من تأثير حاسم في الريادة الأمريكية عالميًا، فمايزال من المتوقع أن تتسع رقعة التنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب، وبينها وبين الصين من جانب آخر. وقد يدفع حصار ترامب لبكين -تكنولوجيًّا- إلى مزيد من الضغوط التي ستقوم بها الصين على اليابان؛ للحصول على الأجيال الجديدة من معدات تصنيع الرقائق المحظورة أمريكيًّا.

هناك تأثيرات قطاعية دولية متخصصة من المتوقع حدوثها في الأجل المنظور، بما في ذلك:

 

ازدهار الأصول المشفرة:

 بالتوازي مع سعيه للسيطرة على سوق العملات المشفرة، وإيمانه بالأصول المشفرة، ستشهد تلك السوق زخمًا واضحًا في الشهور القليلة المقبلة، وستتعزز مكاسب هذه الأصول من الدعم النفسي والتنظيمي الذي يقدمه له فوز ترامب بالرئاسة.

 

الدفاع عن الدولرة وتنامي السياسات المضادة:

 فيما صار التخلي عن الدولرة توجهًا تدعمه روسيا بصورة معلنة، فإنه تحت دعاوى حماية الهيمنة الدولية للدولار الأمريكي، يُتوقع أن يقع النظام النقدي الدولي، بما فيه صندوق النقد الدولي، تحت ضغوط مكثفة، وإجراءات عقابية، قد تعلنها قريبًا إدارة ترامب؛ لمنع مزيد من الزخم الذي تكتسبه أنظمة الدفع والأصول الاحتياطية البديلة للدولار.

 

تهديد العمل المناخي الدولي:

 في فترته الأولى، انسحب ترامب من الترتيبات المناخية الدولية تحت دعوى أنها غير عادلة من المنظور الأمريكي، فضلًا عن إضرارها بالمصالح الأمريكية. ونتيجة لدخول العمل المناخي ضمن محفزات الصراع الأمريكي-الصيني، فمن المتوقع أن تتهدد الشراكة الدولية في قضايا المناخ، بما قد يؤثر سلبيًّا في حوافز الاستثمارات في التحول إلى الطاقة الجديدة في السنوات القليلة القادمة.

في محصلة كلية للتأثيرات المتوقعة، بعد إعلان فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، رسميًا، فإن المشهد الاقتصادي العالمي في الشهور القليلة القادمة سيتأثر بصورة تميل أكثر وأكثر ناحية التنافس المحتدم والصراع الاقتصادي المحموم، ليس فقط بين الولايات المتحدة ومنافسيها التقليديين، بل أيضًا بينها وبين حلفائها في آسيا وأوروبا.

 

الخاتمة

في النهاية، فإن فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية قد يدفع بالعديد من المتغيرات الجديدة -والاستثنائية إذا جاز التعبير- في السياسة الخارجية الأمريكية.

 وسيؤدي فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية إلى استمرارية نهجه في السياسة الخارجية بشكل أكثر حسمًا، وهو ما قد يحمل تداعيات كبيرة على ملفات عدة من ملفات السياسة الخارجية المذكورة عاليه. ومن المتوقع أن يعزز ترامب من سياسة “أمريكا أولًا”، ما يعني تقليص الالتزامات الدولية، وزيادة التركيز على المصالح الأمريكية المباشرة. وقد تشهد التحالفات التقليدية، خاصة مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، مزيدًا من الضغوط لإعادة التفاوض حول الالتزامات الدفاعية والتجارية، مع رغبة ترامب في تقليص الدعم الأمريكي المالي والعسكري.

وفيما يتعلق بالصين، من المرجح أن تتواصل الحرب التجارية، مع تصاعد التوترات الاقتصادية والسياسية. وقد يدفع ترامب باتجاه المزيد من العقوبات والتعريفات الجمركية، مع التركيز على محاولة تقليص النفوذ الصيني في الأسواق العالمية.

 أمّا في الشرق الأوسط، فسيستمر دعمه القوي لإسرائيل وسياساته الصارمة تجاه إيران، وسيتصاعد تأزم ملف حرب غزة بصورة معتبرة، مع استمرار استراتيجية الضغط الأقصى على طهران. وعلى صعيد آخر، سيكون التغير المناخي وتعاون الولايات المتحدة في المنظمات الدولية البيئية في أدنى مستوياته، حيث أبدى ترامب معارضة صريحة لهذه القضايا.

 وبشكل عام، ستكون سياسة ترامب الخارجية قائمة على تعزيز السيادة الأمريكية، وتقليص الانخراط في المبادرات الدولية المتعددة الأطراف، مع التركيز على الصفقات الثنائية الاستثنائية التي تحقق مكاسب اقتصادية واضحة وعميقة وحاسمة.

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  العالم بعد فوز دونالد ترامب
←  الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية: مصالح حيوية وتحديات معقدة
←  عصر طرق الحرير الجديدة في الشرق الأوسط
←  انسحاب بايدن وسيناريوهات وصول هاريس إلى البيت الأبيض
←  المناظرة الرئاسية الأولى بين جو بايدن وترامب.. القضايا والتداعيات
←  مصرع الرئيس الإيراني.. الأبعاد والتداعيات والسيناريوهات المحتملة
←  حدود وتأثيرات التصعيد الإيراني الإسرائيلي المتبادل
←  د. سرحد سها كوبكجوغلو:مشروع طريق التنمية العراقي التركي
←  الاتجاهات الاستراتيجية في عام 2024
←  بريكس والسعي لنظام متعدد الأطراف.. التطلعات والتحديات
←  بريكس والدعوة إلى إعادة التوازن للنظام الدولي
←  ​آثارالانتخابات على الحرب في اوكرانيا ومنطقة الخليج العربي وسوريا
←  تحوُّلات أولويّات الاستهداف عند التنظيمات الإرهابيّة
←  عودة العلاقات السعودية – الإيرانية.. أبعاد الاتفاق والانعكاسات المحتملة
←  دور الأناشيد “الجهادية” في الاستقطاب الرقمي
←  غياب المراجعة الفكرية لـ “الإخوان” وحضور التراجع السياسي منير أديب
←  الأمن النووي… قلق عالمي دائم
←  تراجع حركة النهضة التونسية.. الأسباب والدلالات
←  حرب الرقائق.. اختبار رئيسي لهيمنة أمريكا الاقتصادية
←  الأمن السيبراني في 2023: تحولات وتحديات عصر الذكاء الاصطناعي
←  أوجه التشابه بين “الإخوان المسلمين” و”إخوان الصفا”: تعاليم ورسائل سياسوية باسم الدين
←  أنظمة الإنذار المبكر ودورها في التصدي للإرهاب
←  قيود طالبان على المرأة ومستقبل الإرهاب في أفغانستان
←  بغداد ـ واشنطن.. المسار المعقد في حكومة السوداني
←  جزر المحيط الهادي.. منطقة متجددة للصراع الجيوسياسي بين واشنطن وبكين
←  العراق: ما بعد انتخاب الرئيس
←  الانتخابات النصفية 2022 وصراع السيطرة على الكونغرس
←  العلاقات التركية-الأمريكية.. فرص التقارب وتحدياته ومكاسب متبادلة
←  دلالات مقتل زعيم تنظيم الدولة وأبعاده
←  التنمية المستدامة والمواطنة الصالحة