×

  رؤا

حرب الرقائق.. اختبار رئيسي لهيمنة أمريكا الاقتصادية

01/04/2023

موزة المرزوقي...مساعد باحث

 

مقدمة

طبقًا لـ “كريس ميلر”[1]، صاحب الكتاب الأفضل في عام 2022، ثمة حرب رقائق تجري رحاها حاليًا بين الولايات المتحدة والصين، بالتواكب مع أبعاد الصراع المتعددة والمتنوعة بين الدولة المهيمِنة والدولة المتحدية. ولكن حرب الرقائق هذه ستحدد معالم الهيمنة الدولية المستقبلية إلى حد كبير؛ فالرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات سلعة استراتيجية تدخل في صناعة كل شيء تقريبًا، وتقف وراء كل منتج “ذكي” في العالم، بدءًا من الهواتف المتحركة، ومرورا بالسيارات، وصولًا إلى نظم التسلح الاستراتيجي، بما في ذلك الأسلحة النووية.

والفقرات التالية تحاول تسليط الضوء على واحدة من أهم المحددات للاستقرار الاقتصادي والسياسي العالمي في السنوات القليلة القادمة. وهي تنطلق من تحليل السياسات والسلوكيات الأمريكية في حرب الرقائق ثم عرض ردود الفعل والسياسات الصينية، يلي ذلك عرض دور الأطراف الثالثة، ولاسيما دور هولندا واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية في هذا الصراع، ليصل إلى رسم رؤية مستقبلية حول فرص واتجاهات هذا الصراع ومآلاته المحتملة.

 

أولًا- السياسات والسلوكيات الأمريكية في حرب الرقائق:

تعتمد جميع أنظمة ومنصات الدفاع الأمريكية على أشباه الموصلات في أدائها. وبالتالي، فإنّ أي تراجع في قدرات واشنطن في هذه الصناعة، أو أي وصول لأحد المنافسين-وخصوصا المنافس الصيني- للمستوى التقني الأمريكي، من شأنه أن يشكل تهديدًا مباشرًا لقدراتها العسكرية. كما أنّ الاقتصاد الأمريكي، والاقتصاد العالمي بصفةٍ عامة، يعتمد على هذه التكنولوجيا في عملياته اليومية. ولذلك، فإن ضمان ريادة الولايات المتحدة في صناعة أشباه الموصلات، وتأمين سلامة سلاسل التوريد في جميع مراحلها (تصميم، تصنيع، تعبئة، وتوزيع) أصبح يشكل أولوية وطنية لواشنطن.

وبعد عقود من نقل إنتاج بعض مراحل صناعة أشباه الموصلات من الأراضي الأمريكية إلى الخارج، مدفوعة بحوافز عدة أبرزها تخفيض تكاليف الإنتاج والاقتراب من الأسواق، أدركت واشنطن مخاطر التبعية التشغيلية لدول شرق آسيا. ففي حين لا تزال تهيمن واشنطن على مجالات البحث وتطوير الرقائق بنسبة 85% من الأسواق العالمية، إلا أن مراحل الإنتاج والتعبئة والتوزيع تجري في تايوان والصين وكوريا الجنوبية.

 

أهداف الولايات المتحدة في سوق أشباه الموصلات

ولذلك، كثفت الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن مساعيها لإعادة التصنيع إلى الأراضي الأمريكية. ففي إطار التداعيات الاقتصادية بسبب جائحة “كوفيد-19” والتي أدت إلى نقص عالمي في سلاسل التوريد، والتداعيات الجيوسياسية للحرب الروسية-الأوكرانية، أدركت واشنطن مدى هشاشة السوق العالمية وسلاسل التوريد للرقائق الإلكترونية؛ في ظل الاعتماد شبه الكلي على تايوان. وفي هذا الخصوص، تزداد المخاوف من قيام الصين بعملية عسكرية في تايوان مماثلة لما تقوم به روسيا في أوكرانيا، لضم تايوان وفرض سياسة الصين الواحدة عمليًا. فأي هجوم صيني على تايوان سوف تكون له آثار باهظة ليس فقط على الاقتصاد الأمريكي بل وعلى الاقتصاد العالمي كذلك. ووفقًا لصاحب كتاب “حرب الرقائق”، فإنّ “صاروخًا واحدًا ضد شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) Taiwan Semiconductor Manufacturing Company سيتسبب في خسائر تقدر بمئات المليارات من التأخير في إنتاج الهواتف ومراكز البيانات والمركبات وشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية وغيرها من التقنيات”[2].

وفي هذا الصدد، صوّت مجلس النواب الأمريكي بالموافقة على التشريع رقم 187-243 بتعزيز تصنيع الرقائق على الأراضي الأمريكية. وتبلغ قيمة حزمة المشروع 280 مليار دولار[3]. ومن الأنظمة التي طُبقت بعد إطلاق تشريعات الكونغرس هو القيام بإضافة الشركات الصينية إلى القائمة التي لم يتم التحقق منها، إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إكمال الزيارات الميدانية لتحديد ما إذا كان يمكن الوثوق بها لتلقي صادرات التكنولوجيا الأمريكية الحساسة وتقبل عمليات التفتيش.

وتدرك الولايات المتحدة، التي تسيطر على رقائق السيليكون، أن طموحات الصين الاقتصادية تعد تهديدًا مباشرًا على موقعها الاقتصادي العالمي وبشكل خاص على مكانتها الرائدة في التجارة الدولية. ومن المعلوم أن تصنيع أشباه الموصلات يتنوع، حسب القدرات التكنولوجية، إلى ثلاثة أنواع أساسية من الصناعة: الأول هو صناعة معدات وخطوط إنتاج الرقائق؛ والثاني هو تصميم رقائق الإنتاج، والثالث هو عملية تصنيع الرقائق نفسها. وتتركز القدرات التكنولوجية الصينية الحالية في النوع الثالث من صناعة رقائق التكنولوجيا، بل واحتلت في العام 2019 المرتبة الأولى عالميًا في هذا المجال، وبحصة عالمية تصل لنحو 35%، وبمعدلات نمو سنوية متسارعة. وفي المقابل، فإن قدراتها التقنية المحدودة في تصنيع وسائل إنتاج الرقائق وفي تطوير تصميماتها الفائقة التقنية جعلتها تستورد ما قيمته نحو 350 مليار دولار في عام الجائحة وحده 2020. وعند النظر إلى معدلات النمو السنوية، فإن صناعة الرقائق في الصين تشهد تطورًا متسارعًا، كمًا وكيفًا[4].

وعلى ضوء ما سبق، قامت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الصين، بحيث يكون هناك حظر على إمداد الشركات الصينية برقائق معينة إذا كانت تحمل التكنولوجيا الأمريكية، أو يمكن للصين اختراق ما بها من معارف تقنية. ومن أهم الأنظمة والسياسات الأمريكية لتقييد وصول الصين إلى الرقائق الإلكترونية، قانون CHIPS الذي صدر في ظل إدارة بايدن لتقييد وصول الصين إلى معدات صناعة أشباه الموصلات الأمريكية وعزلها عن رقائق محددة تمت صناعتها في أي مكان في العالم باستخدام التكنولوجيا الأمريكية. ويجري العمل بهذا القانون منذ أغسطس 2022؛ ويهدف لتعزيز القدرة التنافسية والابتكار والأمن القومي للولايات المتحدة، وتحفيز الاستثمارات في القدرة المحلية على تصنيع أشباه الموصلات[5].

بالإضافة إلى ذلك، تم إقرار قانون قيمته 52 مليار دولار من قبل إدارة بايدن لتطوير أشباه الموصلات لسد الضعف الذي سببه فقدان الأسواق الصينية في مجال الرقائق[6]. كما اندلعت حرب تجارية بين البلدين في عام 2018 عندما طبقت الولايات المتحدة أول تعريفات جمركية تخص الصين. وعند انتهاء هذه الحرب التجارية على مدار الأعوام الماضية، برز عام 2022 بالضوابط العديدة التي فرضتها الولايات المتحدة على فرص حيازة الصين على الرقائق الإلكترونية. وهذه التوترات لا تمنع أن البلدين لديهما شراكات تجارية عديدة، وأن حجم التبادل التجاري بينهما وصل إلى نسبة 28%. ومن جهة أخرى، فان القيود التجارية التي تتبعها الولايات المتحدة لا تتماشى مع العديد من أحكام الاتفاقية العامة لمنظمة التجارة العالمية لعام 1994حسب شكاوى الصين. ولأن الدولتين عضوان في هذه المنظمة؛ طلبت الصين إجراء مشاورات بشأن النزاع فيما يتعلق ببعض الرقائق ومنتجات التصنيع. فيما ترى الولايات المتحدة أن منظمة التجارة الدولية ليست أرضية ناجحة لتسوية النزاع على الرقائق بين البلدين، ولاسيما أنها ترى أن تنافس الصين في هذه السوق يهدد أمنها القومي.

 

ثانيًا- ردود الفعل والسياسات الصينية:

تنفق الصين أموالًا كل عام على استيراد الرقائق أكثر مما تنفقه على النفط. علاوة على ذلك، تكرس الصين أفضل عقولها ومليارات الدولارات لتطوير تكنولوجيا أشباه الموصلات الخاصة بها، في محاولة لتحرير نفسها من قيود الرقائق الأمريكية، وهو ما يضع التفوق الأمريكي، خاصة العسكري منه على المحك. فإذا نجحت بكين فإنها ستعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وتعيد ضبط ميزان القوى العسكرية[7].

كما أن التطور النوعي للجيش الصيني خلال العقد الماضي من حكم الرئيس الصيني شي جين بينغ، من بناء أكبر أسطول بحري عالمي، وتطوير الترسانة النووية، شكل محفزًا رئيسيًا للإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية، التي سبق الإشارة إليها، ضد الصين، في مسعى لتقويض هذا التقدم العسكري لبكين الذي تراه واشنطن صاعدًا بتكنولوجيا أمريكية، ويشكل تهديدًا قوميًا للولايات المتحدة وحلفائها، بل وللنظام الدولي القائم برمته.

وقد حفَّزت الجهود الأمريكية لإعاقة تقدم الصين في تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية الرئيس “شي” إلى السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، تحت ما أسماه، في مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير أكتوبر الماضي، بالنزعة “القومية التكنولوجية” في الصين[8]، وتشير خطوات شي لـ “كسب المعركة” في التقنيات الأساسية، إلى عزم بكين على إجراء إصلاحات شاملة لتطوير صناعة التكنولوجيا، تحت نهج “الأمة بأكملها”؛ حيث يتم تعبئة جميع الموارد الوطنية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا، من خلال تشجيع الشركات المملوكة للدولة ومعاهد البحوث والشركات الناشئة في القطاع الخاص على ابتكار تقنيات بديلة عن الأجنبية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن فرص النجاح لمساعي الصين للاستقلال التكنولوجي بعيدا عن الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على ثلاثة عوامل أساسية:

 

أولها هو العامل الداخلي المرتبط بنجاح العلماء الصينين ومراكز الأبحاث الصينية في الوصول إلى تكنولوجيا تصميم وإنتاج معدات الرقائق فائقة التقنية والتي تعلو عن المستوى المستخدم حاليا في صناعة التكنولوجيا الصينية.

ثانيها هو تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن التشدد الحالي وقبولها ببعض الحلول الوسط، متمثلة في السماح للشركات الصينية للنفاذ لمعدات أمريكية تنتج رقائق تمكن الصين من تطوير الأسلحة والطائرات فائقة التقنية.

أما ثالث هذه العوامل فهو نفاذ الصين للتكنولوجيا اليابانية والهولندية المنافسة للتكنولوجيا الأمريكية والتي تتقارب معها في مستوى التقنية.

وفي ضوء المحددات السابقة، فمن المهم تحديد موقف الطرف الثالث والمتمثل في حالتي اليابان وهولندا لنقل معدات تكنولوجيا الطباعة الحجرية فائقة التقنية للصين.

 

ثالثًا- دور الأطراف الثالثة، ولاسيما هولندا واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية في هذا الصراع:

تتلخص الفرضية الأساسية لهذا القسم من المقالة في أن دور الأطراف الثالثة، والتي تتمكن إنتاج تكنولوجيا الرقائق أو تصميمات الرقائق أو خطوط الإنتاج نفسها، مثل هولندا واليابان اللتان تمتلكان تكنولوجيا إنتاج وتصميم الرقائق،  وتايوان وكوريا الجنوبية اللتان تمتلكان خطوط إنتاج الرقائق، سوف يكون متغيرًا أساسيًا مرجحًا لأي من الطرفين الأساسيين المنخرطين في حرب الرقائق؛ الولايات المتحدة والصين.

وفي هذا الصدد، تسعى الولايات المتحدة لتحويل الضوابط الأحادية الجانب إلى ضوابط متعددة الأطراف، من خلال إشراك أكبر الدول المنتجة لأشباه الموصلات في العالم، ولاسيما اليابان وهولندا، وتتشارك الدول الرائدة في صناعة الرقائق وأشباه الموصلات المخاوف الأمريكية من التطور الصيني في هذه الصناعة، وسعت هذه الدول إلى تشكيل تحالفات اقتصادية لتأمين “وإن كان جزئيًا” سلاسل توريد أشباه الموصلات ومنع الصين من الوصول إلى الطليعة في هذه التكنولوجيا، حيث تؤكد هذه التحالفات على أهمية الرقائق للاقتصادات والأمن القومي، ومواجهة التحديات التي تطرحها الصين[9].

وفي عام 2021، اقترحت الولايات المتحدة تشكيل تحالف “Chip 4″، كجزء من مخطط أوسع يهدف إلى تعزيز “أمن” و”مرونة” سلاسل توريد أشباه الموصلات، وذلك عن طريق تقليل اعتماد العالم على الرقائق المصنوعة في الصين. وتشمل المبادرة اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وكلها تتفوق في قطاعات معينة من صناعة أشباه الموصلات، وكلها تحمل مخاوف بشأن المسار المستقبلي لسياسة الصين الخارجية. حيث يهدف التحالف إلى إعادة هيكلة سلسلة التوريد العالمية لأشباه الموصلات، بحيث تصبح أقل اعتمادًا على الصين من خلال تنويع قدرات التصنيع جغرافيًا بعيدًا عن بكين، وحماية الملكية الفكرية للشركات من الدول الأعضاء، وتنسيق ضوابط محددة على الصادرات فيما يتعلق بالصين[10].

ولكن فاعلية تلك التحالفات أصبحت محل شك، مع تباين المواقف بين الشركاء، كتوتر العلاقات السياسية والتجارية بين كوريا الجنوبية واليابان على أثر قضايا الاستعمار التاريخية، ومستوى العلاقات الاقتصادية بين كوريا الجنوبية والصين، حيث تعتبر الصين أكبر سوق لأشباه الموصلات الكورية الجنوبية؛ حيث تتخوف “سيؤول” من إجراءات انتقامية صينية محتملة بسبب انضمامها للمبادرة، بالإضافة لاعتمادها على المواد الخام التي تستوردها من الصين لإنتاج الرقائق. كما تُطرح – تحديًا – لفاعلية هذه المبادرة تلك المخاوفُ التنافسية بين الشركات التايوانية وكوريا الجنوبية (شكلت مجتمعة أكثر من 80% من سوق تصنيع أشباه الموصلات العالمية في عام 2021)، حيث تعارض الشركات الخاصة المتنافسة مشاركة التكنولوجيا مع منافسيها التجاريين، فضلًا عن مقدار الوقت اللازم لتنفيذ مبادرات إعادة التوطين.

ثمة علاقة اعتماد متبادل مكثف بين الولايات المتحدة وتايوان في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية؛ حيث تصدر الولايات المتحدة إلى تايوان 45% من معدات تصنيع أشباه الموصلات. وبدورها، تصدر تايوان إلى الولايات المتحدة منتجات رقائق بلغت قيمتها في 2020 حوالي 28.8 مليار دولار. وتعد شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) Taiwan Semiconductor Manufacturing Company أكبر شركة في العالم في صنع الرقائق، حيث تُسهم بأكثر من 60% من الإنتاج العالمي. ويقدر رأس مال الشركة السوقي بـ 350 مليار دولار، أي ما يعادل خمسة أضعاف شركة “إنديتكس” الأمريكية التي تقوم بصناعة الرقائق[11]. لذا حتى مع التطور التكنولوجي للولايات المتحدة، فإنها تعتمد على تايوان في إنتاج الرقائق والتي تم تصميمها وصناعة معدات إنتاجها مسبقا في الولايات المتحدة واليابان وهولندا. كما تعد صناعة أشباه الموصلات المحطة الرئيسية للاستثمار الأجنبي المباشر الأمريكي في تايوان، حيث توظف هذه الاستثمارات 8 آلاف عامل تايواني سنويًا، بحجم ملياري دولار[12]. وبسبب التوتر المتصاعد بين الصين وتايوان من جهة والولايات المتحدة والصين من جهة أخرى، فإن الشركة تريد توسيع وجودها؛ حتى يكون كيانها ممتدًا عبر القارات في حالة حدوث أي مشاكل في سلاسل الإمداد. وبالفعل بدأت الشركة بناء مصنعها في الولايات المتحدة بتكلفة 12 مليار دولار[13].

وفي فترة تصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة حول تايوان، جادلت رئيسة تايوان “تساي إنغ وين” مؤخرًا في مجلة “فورين أفيرز” بأن صناعة الرقائق في الجزيرة هي “درع سيليكون” يسمح لتايوان بحماية نفسها والآخرين من المحاولات العدوانية من قبل الأنظمة التي قد تتسبب تعطيل سلاسل التوريد العالمية. ومن المؤكد أن صناعة الرقائق في الجزيرة تجبر الولايات المتحدة على أخذ قضية الدفاع عن تايوان بجدية أكبر. ومع ذلك، فإن تركيز إنتاج أشباه الموصلات في تايوان يعرّض الاقتصاد العالمي للخطر، إذا لم يردع “درع السيليكون” الصين[14].

كما كثفت واشنطن من ضغوطها على شركة “ASML” الهولندية، وهي واحدة من الشركات الرئيسية في العالم التي تصنع آلات تصنيع الرقائق المتطورة والتي تحرص الصين على الوصول إليها، فهي تصنّع وتبيع آلات الطباعة الحجرية للأشعة فوق البنفسجية المتطرفة (EUV) بقيمة 200 مليون دولار لمصنعي أشباه الموصلات مثل الشركة التايوانية الرائدة TSMC[15]. ويُلاحظ أن الصين هي واحدة من أكبر عملاء ASML التي وصل حجم مبيعاتها في عام 2022 إلى حوالي 21 مليار يورو.

وبدأت الضغوط الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حيث سحبت الحكومة الهولندية في عام 2018 ترخيص ASML لتصدير أجهزتها الـ EUV إلى الصين، بالتزامن مع الحرب التجارية التي أطلقتها واشنطن مع بكين، والتي تمحورت حول السيطرة على هذه التكنولوجيا المهمة، حيث حاولت واشنطن قطع الإمدادات عن الشركات الصينية. وتخشى الولايات المتحدة أنه بشحن الآلات إلى الصين، يمكن أن يبدأ رواد التكنولوجيا الصينية تصنيع أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا في العالم، والتي لها تطبيقات ذكاء اصطناعي عسكرية ومتقدمة. ولكن من جانب آخر تخشى الشركة الهولندية أن يتم إقصاؤها من ثاني أكبر اقتصادات العالم، وتحديدًا في ظل ما تراه “تناقضًا” من الجانب الأمريكي الذي يستمر في بيع الرقائق المتطورة إلى الصين، فضلًا عن استفادة الشركات الأمريكية التي تبيع التكنولوجيا المعفية من القيود المفروضة على الصين؛ حيث أكد الرئيس التنفيذي للشركة، أن عدد موردي معدات الرقائق الأمريكيين “يبلغ 25% أو في بعض الأحيان أكثر من 30%”، في حين بلغت مبيعات الشركة للصين 15% [16].

وفي زيارة رئيس الوزراء الهولندي “مارك روته” للولايات المتحدة، في 17 يناير 2022، ناقش معه الرئيس بايدن جهود الولايات المتحدة لتقييد وصول الصين إلى أشباه الموصلات عن طريق القيود على الصادرات. وتحاول إدارة بايدن جعل هولندا على نفس المسار منذ أن أعلنت وزارة التجارة الأمريكية في أكتوبر 2022 ضوابط تصدير جديدة تستهدف الصين[17].

وفي حالة اليابان، تُجري الولايات المتحدة محادثات مستمرة بشأن قيود التصدير الأكثر صرامة للحد من بيع تكنولوجيا تصنيع أشباه الموصلات إلى الصين. وقد استضاف الرئيس الأمريكي بايدن رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا” في 13 يناير من العام الجاري 2023 لإجراء محادثات متعمقة حول طرق وبدائل منع وصول الصين للتكنولوجيا اليابانية في صناعة الرقائق. حيث أنه بدون 5 شركات بعينها، من المستحيل على الصين الوصول حاليا لصناعة رقائق متقدمة: واحدة هولندية، واثنتين يابانية، وثلاث شركات أمريكية في كاليفورنيا.

خاتمة

في حرب الرقائق الإلكترونية بين الولايات المتحدة والصين، تحاول الأولى الحفاظ على ريادتها التكنولوجية، وتكافح الثانية لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وهذا الصراع يُعدُّ اختبارًا حقيقيًا لقدرة واشنطن على الحفاظ على هيمنتها الدولية الآخذة في الانحسار، وقدرة بكين على مواصلة الصعود لقمة الاقتصاد العالمي وقطبية الهيكل الدولي.

ويرى المحللون الصينيون أن حظر الرقائق على الصين سوف «يسيس» قضايا التكنولوجيا، وسيمنح الولايات المتحدة انتصارًا باهظ الثمن، حيث إن الصين (ثاني أكبر اقتصاد في العالم من حيث حجم الإنتاج) تمثل سوقًا ضخمة لتصدير الرقائق الأمريكية، كما أن أكثر من 60% من عائدات شركات الرقائق الأمريكية تأتي من التصدير للصين، بالإضافة إلى تأثير الحظر الأمريكي على ارتفاع أسعار العديد من السلع الاستهلاكية الصينية التي تُصَدَّر للأسواق الأمريكية. في الوقت الحالي تنتصر الولايات المتحدة، لكن حرب الرقائق التي أعلنتها على الصين تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي. وقد نرى في الفترة المقبلة جهودًا مكثفة من قبل الولايات المتحدة لإبعاد الصين عن شبكات الابتكار، وفي المقابل سنرى جهودًا صينية لبناء سلسلة توريد خاصة بها بدون الولايات المتحدة؛ وقد يعني هذا أن هذه الصناعة ستنقسم عالميًا إلى بيئتين: واحدة محورها الصين، والأخرى محورها بقية العالم. وهذا له تداعيات هائلة على الاقتصاد العالمي، حيث سيتم إجبار اللاعبين في هذا المجال على اختيار أحد الطرفين، وربما يتم منع كثير منهم من الوصول إلى السوق الصينية.

لكن الفرضية السابقة مرهونة بنجاح الصين للوصول لتكنولوجيا الطباعة الحجرية الأكثر تقدما في عالمنا المعاصر. ولقد سبق وعرضت المقالة أن هذا الاحتمال مرشح للحدوث في حالات معينة وفي ظروف احتمالية منخفضة في ظل التشدد الأمريكي الحالي، وفي ظل القبول الياباني والهولندي للضوابط الأمريكية الحالية في سوق التكنولوجيا الفائقة للرقائق وأشباه الموصلات العالمية.

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  حدود وتأثيرات التصعيد الإيراني الإسرائيلي المتبادل
←  د. سرحد سها كوبكجوغلو:مشروع طريق التنمية العراقي التركي
←  الاتجاهات الاستراتيجية في عام 2024
←  بريكس والسعي لنظام متعدد الأطراف.. التطلعات والتحديات
←  بريكس والدعوة إلى إعادة التوازن للنظام الدولي
←  ​آثارالانتخابات على الحرب في اوكرانيا ومنطقة الخليج العربي وسوريا
←  تحوُّلات أولويّات الاستهداف عند التنظيمات الإرهابيّة
←  عودة العلاقات السعودية – الإيرانية.. أبعاد الاتفاق والانعكاسات المحتملة
←  دور الأناشيد “الجهادية” في الاستقطاب الرقمي
←  غياب المراجعة الفكرية لـ “الإخوان” وحضور التراجع السياسي منير أديب
←  الأمن النووي… قلق عالمي دائم
←  تراجع حركة النهضة التونسية.. الأسباب والدلالات
←  حرب الرقائق.. اختبار رئيسي لهيمنة أمريكا الاقتصادية
←  الأمن السيبراني في 2023: تحولات وتحديات عصر الذكاء الاصطناعي
←  أوجه التشابه بين “الإخوان المسلمين” و”إخوان الصفا”: تعاليم ورسائل سياسوية باسم الدين
←  أنظمة الإنذار المبكر ودورها في التصدي للإرهاب
←  قيود طالبان على المرأة ومستقبل الإرهاب في أفغانستان
←  بغداد ـ واشنطن.. المسار المعقد في حكومة السوداني
←  جزر المحيط الهادي.. منطقة متجددة للصراع الجيوسياسي بين واشنطن وبكين
←  العراق: ما بعد انتخاب الرئيس
←  الانتخابات النصفية 2022 وصراع السيطرة على الكونغرس
←  العلاقات التركية-الأمريكية.. فرص التقارب وتحدياته ومكاسب متبادلة
←  دلالات مقتل زعيم تنظيم الدولة وأبعاده
←  التنمية المستدامة والمواطنة الصالحة