×

  رؤا

التآم جروح التاريخ.. تكريم ضحايا جينوسايد الأنفال

25/01/2025

مجلة(News Week) الامريكية/الترجمة والتحرير:محمد شيخ عثمان

24-01-2025

في مايو/أيار 2003، وقفت إلى جانب النائبة البريطانية الراحلة والناشطة الإنسانية آن كلويد عند مقبرة جماعية بالقرب من بغداد ، وهي الموقع الذي يضم رفات الآلاف الذين أعدمهم نظام صدام حسين.

 ومن بين البقايا المرعبة، بقيت صورة واحدة عالقة في ذهني ـ خصلة شعر طفل مضفرة بعناية ومربوطة بشريط أحمر صغير، ومغطاة بالطين.

وكان من المعتقد أن المقبرة الواقعة بالقرب من المحاويل، والتي تعد واحدة من أكبر المقابر التي تم اكتشافها بعد سقوط النظام البعثي، تضم ما يصل إلى 15 الآف روح وكان اكتشافها بمثابة تذكير مرعب بالوحشية التي عصفت بالعراق ذات يوم والحزن الدائم الذي تعيشه الأسر الساعية إلى الحصول على إجابات.

وبعد عقدين من الزمن، وجدت نفسي مرة أخرى عند مقبرة جماعية - هذه المرة في صحراء تل الشيخية في قضاء السلمان بمحافظة المثنى.

تحت هذه الأرض القاحلة، يرقد رفات نحو 100 امرأة وطفل كردي ، ضحايا إبادة الأنفال  وعلى بعد أمتار، تم تحديد ثلاثة مقابر جماعية أخرى ويعتقد أنها تحتوي على رفات ضحايا الأنفال ايضا، مما يجعل هذا الموقع أكبر موقع من نوعه في العراق.

ويشكل هذا الاكتشاف شهادة صارخة على فظائع حملة الإبادة التي شنها صدام حسين، فضلاً عن كونه دعوة إلى العمل - لتكريم ذكرى أولئك الذين فقدوا أرواحهم وتوفير الراحة لأسرهم .

وترسم التحقيقات الجنائية الأولية في رفات الضحايا المستخرجة صورة مروعة للحظات الأخيرة في حياة الضحايا.

وتشير الأدلة إلى أن الضحايا تعرضوا لإطلاق النار من الجانبين، قبل أن يتم إطلاق النار عليهم مرة أخرى من أعلى.

وتكشف رفات بعض البالغين عن محاولات يائسة لحماية الأطفال من الرصاص، حيث تم وضع أجسادهم بشكل يحميهم من الرصاص.

لقد اودت مذبحة الأنفال، والتي تعد واحدة من أحلك فصول التاريخ الحديث ، بحياة 182 ألف كردي وآشوري وشبكي وتركماني وايزدي ومندائي، كما دمرت 4500 قرية،ففي غضون بضعة أشهر فقط في عام 1988، شن النظام البعثي حملة إبادة ضد كرد العراق، فقام بتهجيرهم قسراً وقتلهم بحجة قمع التمرد.

 واليوم، تصرخ أصداء هؤلاء الضحايا من أجل الاعتراف والعدالة،ولكن الطريق إلى العدالة ليس سهلا ومعبدا ولا سريعا فمنذ عام 2019، لم يتم الكشف إلا عن مقبرتين جماعيتين لضحايا حملة الأنفال ، ولا تزال أعداد لاحصر لها من المقابر الجماعية الأخرى مخفية تحت التربة.

 إن عملية الحفر والتعرف على الجثث ومطابقة الحمض النووي دقيقة ومعقدة، وتتطلب خبرة علمية متقدمة وعزيمة لا هوادة فيها.

وللمرة الأولى، يتم تنسيق عملية تحديد الهوية رسميًا من خلال جهد مشترك بين أطباء من وزارة العدل، واللجنة الدولية للمفقودين، ومؤسسة الشهداء، ودائرة الطب الشرعي التابعة لوزارة الصحة، وخبراء محليين آخرين، وكل ذلك باشراف مكتبي الخاص لهذا الشأن.

حتى الآن، تم جمع 1200 عينة دم من أسر المختفين - في المقام الأول في كلار وجمجمال وكويه - من أصل 1600 أسرة مسجلة. وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن أولويتنا هي إعادة رفات الضحايا إلى أسرهم، ومنحهم كرامة الدفن اللائق ومنحهم قدرًا من العزاء في معرفة أن تضحياتهم من أجل الحرية لم ولن تُنسى ولكن العراق ليس الوحيد الذي يعاني من مثل هذه الفظائع، ففي الآونة الأخيرة، تم اكتشاف مقابر جماعية بالقرب من دمشق ، يقال إنها تحتوي على رفات الآلاف من ضحايا نظام بشار الأسد المخلوع .

 ومثل العراق، تواجه سوريا الآن عملية مؤلمة خاصة بها تتمثل في تحديد هوية الضحايا، والحفاظ على الأدلة، وضمان العدالة لأسر الضحايا.

إن أياً من المهمتين لا يخلو من العقبات فقد أعاقت العقبات السياسية والتأخيرات البيروقراطية التقدم في العراق، ولكن كما تعهدت لأسر الضحايا، فإننا لن ندخر أي جهد في التغلب على البيروقراطية والمضي قدماً.

 إن هذا العمل لم ينته بعد، وما زالت المهمة التي تنتظرنا ضخمة ويتعين علينا أن نحافظ على هذه المواقع باعتبارها شواهد دائمة على تضحيات الضحايا، وتحذيرات للأجيال القادمة من عواقب الاستبداد الجامح.

إن الدروس المستفادة من مذبحة الأنفال تتردد في أرجاء العراق، فهذه المقابر الجماعية وما تكشف عنه من حقائق مروعة تسلط الضوء على الألم المشترك الذي تعاني منه الأمم التي مزقتها أعمال العنف والقمع، حيث حولت الأنظمة الاستبدادية أراضيها إلى مقابر صامتة.

 ومسؤوليتنا الجماعية كأمم تتلخص في الحفاظ على هذا التاريخ والعمل بلا كلل لمنع تكرار مثل هذه الفظائع.

وعندما وقفت على تلك الأرض المقدسة في صحراء تل الشيخية، شعرت بمعاناة الضحايا ومدى إلحاح مسؤوليتنا.

 إن أسرهم تستحق أكثر من تعاطفنا؛ فهي تستحق العمل والجهد الدائم.

إن هذا العمل لا يتعلق بالماضي فحسب، بل يتعلق بمستقبلنا أيضا،ًفإن كل حياة ضاعت في تلك القبور هي شهادة على ثمن الصمت والتقاعس عن العمل ولابد وأن نروي قصصهم، وأن نحفر تضحياتهم في ضمير الإنسانية إلى الأبد.

ويتعين علينا معاً أن نحافظ على ذكراهم، وأن نحقق العدالة، وأن نبني مستقبلاً لا يتشبث فيه أي طفل بأمه من الخوف والهلع.

*شاناز إبراهيم أحمد هي السيدة الأولى للعراق.

  مواضيع أخرى للمؤلف