أوجه التشابه بين “الإخوان المسلمين” و”إخوان الصفا”: تعاليم ورسائل سياسوية باسم الدين
د. وائل صالح..خبير إسلام سياسي
مقدمة
لم تنشق علينا الأرض لتخرج لنا جماعة الإخوان المسلمين[1] من العدم، فلقد تأثرت الجماعة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، كما بيّنا في دراسات سابقة، ومن بين هذه الدراسات: “جماعة الإخوان والعلوم الاجتماعية والإنسانية: هل قرأ البنّا جوستاف لوبون ومكيافيلي؟”. ومما لا شك فيه أن الجماعة قد تأثرت أيضًا بالتيارات والأفكار والجماعات الإشكالية القديمة في الثقافة العربية والإسلامية. وفي هذا السياق يمكننا أن نقول إن جماعة الإخوان هي في ذات الوقت ابنة زمانها، كما أنها ابنة جزء من ثقافتها، فهي – مثلها مثل أي أيديولوجيا – حصيلةٌ لبعض مكونات بيئتها وموروثها الثقافي، ولكنها – كتنظيم – تخضع لعمليات التأثير من حيث أساليب عملها بالتنظيمات المعاصرة لها في العالم.
تهدف هذه الدراسة لاختبار أوجه التشابه بين الإخوان المسلمين وإخوان الصفا[2]، رغم أن هناك كثيرًا من الباحثين يرى أنه شتان ما بين الجماعتين؛ ففِكْر إخوان الصفا – بالنسبة لهم – هو الأكثر استنارة في التراث العربي[3]، وأن إخوان الصفا لهم فلسفة ورؤية أكثر عمقًا من أيديولوجيا الإخوان المسلمين، وأن السياق له دور في إحداث فرق هائل قد يصل إلى درجة التعارض بين إخوان الصفا وبين إخوان العصر الحالي (الإخوان المسلمين).
وهناك من الباحثين من يرى أن المقارنة بين “الإخوان المسلمين” وبين “إخوان الصفا” فيها تداخلٌ فيما يخص الإسماعيلية وإخوان الصفا، وأن الأخيرة – كفِكْر – لم تدخل البيئة الإسماعيلية الفاطمية إلَّا في حقبة الإسماعيلية الطيبية[4] (أي بعد سقوط الدولة الفاطمية)؛ وبالتالي فإن أي محاولة لإيجاد روابط بينها وبين الفكر الإسماعيلي – الذي يمكن مقارنته بفكر الإخوان – يكون محل نظر وشك عميق. وذلك على عكس المقارنة بين دعوة الإخوان المسلمين وبين “الدعوة الإسماعيلية” القريبة الشَّبَه بتنظيم الإخوان، بل وبغيرها من التنظيمات السرية.
وعمومًا، نادرةٌ هي الدراسات التي أخذت على عاتقها مقارنة جماعة الإخوان المسلمين بالفرق والجماعات في التاريخ العربي الإسلامي. وعادةً ما يتم إجراء المقارنة بين الإخوان والخوارج من قِبَل مناهضي أيديولوجيا الإخوان، وذلك في صورة يغلب عليها التصريحات أو الفتاوى[5].
في هذا السياق، تطمح تلك الدراسة إلى رصد أوجه التشابه بين الإخوان المسلمين وبين إخوان الصفا في بعض مراحلهما، وهذه الدراسة يمكن لها أن تندرج تحت ما نسميه في مركز تريندز للبحوث والاستشارات باسم “الإسلامويات التطبيقية”، والتي تهدف إلى البحث عن “أوجه التشابه بين الإسلاموية، وخصوصًا جماعة الإخوان المسلمين، وبين التنظيمات والأفكار الإشكالية القديمة والمعاصرة؛ وذلك من أجل فَهْمٍ أفضل لتنظيمهم وخطابهم، وسلوكياتهم على أرض الواقع، ودينامياتهم الداخلية، ومدى خطورتهم على المجتمعات، واستشراف مآلهم”[6].
ولكن يجب التأكيد هنا – وقبل أن نبدأ تلك الدراسة – على أن نتائج تقييم الفكر هي في الغالب نتيجة للمنهج والإطار المعرفي المستخدم في البحث. وهنا يكمن سبب تعارُض النتائج البحثية في بعض الأحيان. فبعض الباحثين يستند في دراسته لإخوان الصفا إلى المرويات التاريخية عنها، وهناك دراسات أخرى تعتمد على تحليل خطاب الرسائل بأدوات مناهج علوم اللغة الحديثة، وهناك من جمع بين الاثنين. وأخيرًا، فإن كل فِكْر له دورة حياة، وله تحولات وقراءات مختلفة، يُكمل بعضها بعضًا في الغالب من أجل رؤية الظاهرة في شمولها، وليس في أحد أوجهها فحسب، أو حصرها في فترة معينة من تطورها. وبناء على ما سبق، سوف نناقش في النقاط التالية فرضية وجود بعض أوجه التشابه بين جماعة الإخوان المسلمين وجماعة إخوان الصفا[7].
هل من أوجه تشابه بين جماعة الإخوان المسلمين وجماعة إخوان الصفا؟
على العكس من حالة جماعة الإخوان المسلمين، لم تركز الدراسات كثيرًا على الجوانب السياسية لجماعة إخوان الصفا بالقدر الكافي، حتى جاء كتاب “الفلسفة السياسية لإخوان الصفا”، للدكتور محمد فريد حجاب، الصادر عام 1982، ليسد تلك الفجوة[8].
ولقد تأكدنا من خلال ذلك الكتاب – وهو ملخص لأطروحته لنيل درجة الدكتوراه – من فرضية اشتراك جماعة الإخوان المسلمين مع جماعة إخوان الصفا في الكثير من المناحي. بدايةً من تَشَارُك الجماعتين لقب “الإخوان”، المبني على فكرة الإخاء التي كانت منتشرة بين معظم الحركات الثورية في التاريخ الإسلامي، كحركات الحزمية والبابكية والإسماعيلية[9]، التي كان من ضمن أهدافها مقاومة العصبية القومية. وعمومًا، فإن الشرق قد عرف الكثير من الطرق الصوفية والدرويشية، التي كانت تهدف لأن يتعامل منتسبوها فيما بينهم معاملة الإخوة[10]. ويُقال إن جماعة إخوان الصفا هي أول حلقة أخوية[11] ظهرت بين القرامطة[12].
واعتمادًا على كتاب “الفلسفة السياسية لإخوان الصفا” لمحمد فريد حجاب، وكتاب “الإسلام السياسي في زمن ما بعد الربيع العربي، هل دخلنا عصر موت الإسلاموية؟” لوائل صالح وباتريس بروديير[13]، نستطيع تأكيد الكثير من المشتركات بين جماعة الإخوان المسلمين مع جماعة إخوان الصفا، نفصلها في النقاط الآتية:
كُلٌّ من الجماعتين يستهدف إقامة مملكة الله بدلًا من مملكة الأرض القائمة بين المسلمين، والتي يمثل استهداف زوالها هدفهما الأسمى.
2. تشابه المصطلحات والعناوين المستخدمة في تنظيرهما لأيديولوجيتهما، فمن يتابع رسائل إخوان الصفا يلاحظ أنها تُوَجَّه في الغالب إلى “الأخ البار الرحيم”، بينما تُوَجَّه رسائل الإخوان المسلمين إلى “الأخ أو أيها الإخوان”. كما تحمل التعاليم والنصوص المؤسسة لجماعة الإخوان المسلمين عنوان الرسائل (رسائل حسن البنّا) مثلما هو الأمر في حالة إخوان الصفا. ولكن رسائل الإخوان المسلمين لم تشتمل إلَّا على رسائل سياسية وفقهية في غالبها الأعم، وذلك بعكس رسائل إخوان الصفا التي امتدت لتشمل الرياضيات والمنطقيات، …إلخ. ولكن مجمل الرسائل – عند كُلٍّ منهما – تعبر عن جماعة مضطهدة، تبدو النزعات السياسية في جميع أجزائها، والتفاني في خدمة مصالح الجماعة حتى الموت، هما الرابط الأساسي لأتباع كُلٍّ منهما. ومثلما لعبت رسائل إخوان الصفا دورًا مهمًا في توحيد فكر التنظيمات والأفرع المنتمية لإخوان الصفا، والمنتشرة في الأماكن المختلفة في زمنها، كذلك لعبت رسائل البنّا نفس الدور في زمن الإخوان.
كُلٌّ منهما جماعة من الصعب خضوعها للتقسيمات التقليدية للجماعات في تاريخ الإسلام، فقد جمعت إخوان الصفا بين الفلسفة والصوفية والرسائل السياسية، في حين أنشأ حسن البنّا جماعة قال عنها إنها: “دعوة سلفية، طريقة سُنية، حقيقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة علمية ثقافية، شراكة اقتصادية، وفكرة اجتماعية”.
كُلٌّ من الجماعتين له نظرة فلسفية للعالم، تحدد ماهية الاجتماع السياسي بين البشر. ففي حالة إخوان الصفا كانت تلك الجماعة سباقة حتى على نظريات ابن تيمية في مطلع منهاج الكرامة والحسبة، وابن خلدون عن أحوال البشر والعمران والاجتماع السياسي. وجماعة الإخوان هي الجماعة الأم للإسلاموية المعاصرة، والتي تمخض عنها معظم الجماعات الإسلاموية الأخرى.
كُلٌّ منهما يُمحص جوانب ما أسمياه “الإفلاس السياسي والروحي في مجتمعيهما”، وينطلق من ذلك لنزع الشرعية عمَّن سواه من الفاعلين السياسيين الآخرين، وحصر الشرعية بهما تحديدًا.
تعاليم ورسائل كُلٍّ منهما مكتوبة – غالبًا – بشكل يستهدف أن يكون عُرضة دائمًا للتفسيرات المتناقضة.
تعاوُن كُلٍّ منهما مع الجماعات الأكثر تطرفًا، إذ تعاون إخوان الصفا مع الإسماعيلية كحركة متطرفة راديكالية تُناوئ الخلافة العباسية في القرن الرابع الهجري، وتعاونت جماعة الاخوان – على سبيل المثال – مع الجماعات المتطرفة في سيناء بعد عزل مرسي.
كُلٌّ منهما انتقد كل طبقات المجتمع نقدًا لاذعًا، لدرجة التشهير بها، ومُدّعِيًا في الوقت ذاته أن لديه حلولًا لكل المشاكل.
9. كُلٌّ منهما تمكن من إقامة دولة له بشكلٍ ما، فالفرقة الباطنية والدعوة الإسماعيلية أقامتا دولة العبيدين في مصر وشمال أفريقيا، اعتمادًا على رسائل دعوة إخوان الصفا ومكائدهم، أكثر من اعتمادها على السيف في ساحة القتال. وجماعة الإخوان نجحت هي الأخرى في الوصول إلى الحكم – أو التحكم فيه – في دول مثل تركيا والسودان زمن البشير.
لدى كُلٍّ من الجماعتين مفهوم التغيير الثوري، والتبشير بقرب زوال أهل الشر، وانبثاق دولة أهل الخير التي لن تتحقق إلَّا من خلال وصولهما إلى السلطة. وهذا المفهوم له مكانة مميزة في رسائل إخوان الصفا دون غيره في المؤلفات الإسلامية الأخرى، كما أن لديه نفس المكانة في رسائل الإخوان المسلمين.
تقسيمات إخوان الصفا السياسية إلى شرعية وغير شرعية، وإلى ظالمة ونبوية، سبقت كتابات كثيرة، مثل كتابات ابن خلدون والمقريزي. وقد أعاد الإخوان تلك التقسيمات بعدما كانت شبه غائبة عن الساحة الفكرية بدايةً من دولة محمد علي الوطنية في مصر، والتي فصل فيها بين الديني والسياسوي.
ربط إخوان الصفا بين فكرة الإمامة (الخلافة الشرعية) وشروط الخلافة التي اعتبروها أصلًا من أصول الدين – لا فرعًا من فروعه – وبين نظرية فلسفية كنظرية “الإنسان المطلق” أو “الإنسان الكامل”. وعلى نفس المنوال تميز الإخوان المسلمون عن بقية التيارات والمدارس السُّنية المعاصرة بجعل مسألة الخلافة أصلًا من أصول الدين وليست فرعًا من فروعه. وهكذا نرى أن العقيدة الدينية لدى كُلٍّ منهما تلعب دورًا مثيلًا للدور الذي تلعبه الأيديولوجيا في الفكر السياسي المعاصر.
الإخوان المسلمون – مثَلُهم كمَثِل إخوان الصفا – جعلوا من عقيدتهم الدينية أيديولوجيا سياسية تحفز على حركة ثورية. ويسعى كُلٌّ منهما لمحاولة تغيير صورة المجتمع السياسي، وتكون البداية عن طريق عدم العنف، ثم تصل إليه بمرور الوقت.
حاول إخوان الصفا تحقيق تصورهم عن الاجتماع السياسي بين البشر، من خلال حركة سياسية هدفها نشر الدعوة السرية في مختلف أقاليم الدولة، وبين مختلف طبقاتها، في إطار خطة قوامها التشهير بالنظام القائم والتبشير بمدينتهم الفاضلة. وهكذا فعل أيضًا الإخوان المسلمون بنشر دعوتهم في ربوع مصر وجميع الأقطار العربية وخارجها.
تأثير إخوان الصفا لم يقف عند حد عصرهم فحسب، إذ تركت آثارها في كتابات كثير من الفلاسفة من بعدهم، ومنهم الفارابي. وهكذا أيضًا جماعة الإخوان المسلمين، فلقد تأثر بها كثير من التيارات الإسلاموية والتقليدية الأخرى.
الدعوة السرية والتَّقِيَّة وصون الأسرار، كلها من المبادئ الأساسية التي تنظم حركة كُلٍّ من الجماعتين.
تأثر كُلٌّ من التنظيمين بالثقافات الأخرى، ولا سيّما الفارسية منها، وخصوصًا في فكرة تآخي الدين والدولة، والصراع بين “خليفة الله” وبين “حكم الضلال والكفر”.
في رسائل إخوان الصفا – كما في النصوص المؤسسة للإسلاموية الإخوانية – تظهر آراء وتعاليم من بعض الديانات الأخرى، سواء المُنَزَّلَة منها أو غير المُنَزَّلَة.
مثلما أسهم ظهور الجماعات والتنظيمات السرية – مثل الحشاشين والقرامطة – في إضعاف الدولة الإسلامية في التاريخ الإسلامي[14]، كذلك أسهم ظهور الإخوان المسلمين في إضعاف الدولة العربية الوطنية.
نظام المراتب لدى الجماعتين منهج متعدد الجوانب؛ فهو من ناحية منهج في التنشئة السياسية، يهدف إلى بلوغ أعضاء الجماعة الكمال مع النموذج المنظّر له، والمستهدف من قبل الجماعتين. ومن ناحية أخرى فهو منهج في التخصص؛ يهدف أن يقوم أهل كل مرتبة أو طبقة من الطبقات بالعمل الذي يتناسب مع استعداداتهم الفطرية أو المكتسبة. وهو من ناحية ثالثة فكرة فلسفية تهدف إلى إثبات ضرورة الإمامة، وتأكيد عصمة الإمام أو المرشد، باعتباره حلقة رئيسية من حلقات المراتب، وبدونها لا يمكن للنظام الطبيعي لهذه المراتب أن يكون كاملًا. ومن المعروف أن نظام المراتب الذي بُنيت عليه كلتا الجماعتين كان على أساس هرمي.
كُلٌّ من التنظيمين يحيط به جَوٌّ من الأسرار، وتغشاهما أساليب من المكر والخداع.
تتفق الخصائص العامة لإخوان الصفا مع الخصائص العامة للإخوان المسلمين؛ فكلتاهما تعبير عن عقيدة سياسية ذات جوهر ديني، وتقوم على الدعاية التشهيرية بالنظام القائم في الحكم، وتُضمر مفهومًا خاصًا لنظرية الدولة وكيفية ممارسة السلطة. وكلتاهما تُعتبر دعوة حركية تسعى لتحقيق أهداف معينة محددة مسبقًا، وتمثل محورًا للنشاط المنبعث من مذهبها. وكُلٌّ منهما دعوة جماهيرية تخاطب المجموع، وتسعى لتحقيق أهدافها عن طريق التكتل الجماهيري والوحدة الحركية.
العمل على الانتشار في كل طوائف الفئات الاجتماعية، وفي المواقع التي تتيح معرفة النوابض الحقيقية للدولة، باعتبارها هدفًا رئيسيًا لكلتا الجماعتين.
تفضيل ضم الشبان والفتيات، مع عدم غلق الباب أمام الشيوخ، هو من الأسس التي تقوم عليها كُلٌّ من الجماعتين.
تشابه شروط الدعوة للعضوية لدى كُلٍّ من الجماعتين.
ارتباط المرتبة التي يحصل عليها المنتمي لكُلٍّ من الجماعتين بالسن.
نظام الخلايا من الأسس التي يقوم عليها التنظيم في كُلٍّ من الجماعتين.
فكرة الطاعة هي الفكرة التي يرتكز عليها نظام الترقي في مراتب الجماعة. ولا تقف الطاعة عند التضحية بالمال والجهد فحسب، بل تمتد إلى التضحية بالنفس.
الخاتمة
مما سبق يتبين لنا أن أهم أوجه التشابه بين جماعتي الإخوان المسلمين وإخوان الصفا أن كُلًا منهما استخدم الدين لتحقيق أهداف سياسية؛ ولتحقيق ذلك جمع كُلٌّ منهما بين نظام المراتب لتصنيف منتسبيه من حيث درجة الأهمية والدور، واعتبر كُلٌّ منهما – بطريقته – أن الإمامة أو الخلافة الشرعية أصل من أصول الدين، وليست فرعًا من فروعه. كما يتبيّن أن العقيدة الدينية لدى كُلٍّ منهما تلعب دورًا مثيلًا للدور الذي تلعبه الأيديولوجيا الثورية في الفكر السياسي المعاصر، حيث يسعى كُلٌّ منهما لمحاولة تغيير صورة المجتمع السياسي، وتكون البداية عن طريق عدم العنف، ثم تصل إليه بمرور الوقت. واعتمدت كُلٌّ منهما على الدعوة السرية والتَّقِيَّة وصون الأسرار باعتبارها رُكْنًا أساسيًا في عملهما على الأرض. وكُلٌّ منهما تأثر بالأفكار التي كانت سائدة في عصرهما، وبالأفكار التي سبقتهما في التاريخ العربي الإسلامي. كذلك صَنَّفَتْ كُلٌّ منهما الفاعلين الآخرين في الحياة السياسية والدينية إلى شرعية وغير شرعية، وإلى إسلامية وغير إسلامية. وكُلٌّ منهما اعتمد على نظام الخلايا، وعلى فكرة الطاعة التي لا تقف عند التضحية بالمال والجهد فحسب، بل تمتد إلى التضحية بالنفس. وكذلك تتشابه شروط الدعوة للعضوية لدى كُلٍّ من الجماعتين، لا سيّما من حيث تفضيل ضم الشبان والفتيات، مع عدم غلق الباب أمام الشيوخ. وغنيٌّ عن الذكر أن كُلًا من الجماعتين قد تعاونت مع الجماعات الأخرى – الأكثر تطرفًا – في فترة من فترات تطورها.
كما نستطيع أن نقول إن تسييس أي حركة فكرية – كُلّيّانية أو شمولية – يؤدي بمرور الوقت إلى تطرفها، وأن أكثر الأيديولوجيات تطرفًا هي الشمولية الكليانية منها، خصوصًا لو تمكنت من الحكم. وهو ما تؤكده لنا الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت من خلال مصطلحها Idéocratie أو ما يُسمى “حُكْم الفِكْر”، الذي تبدو فيه السلطة في خدمة فكرة واحدة كبيرة، وفي هذا النوع من نظام الحكم تصبح الأيديولوجيا أداة دعاية، ويصبح المجتمع تحت السيطرة المطلقة لوسائل الإعلام والدعاية لدى تلك الأيديولوجيا، كما تُختزل شرعية السلطة السياسية في سلطة قائد معين، أو جماعة معينة تحتكر النسق القيمي[15].
ونود أن نختم تلك الدراسة الاستكشافية القصيرة بالقول إنه ينبغي أن تكون هناك دراسات أخرى أكثر عمقًا حول هذا الموضوع، وحول أوجه التشابه بين الإسلاموية وبين التنظيمات والأفكار الإشكالية القديمة والمعاصرة بشكل عام. وقد باتت هذه الدراسات ضرورة ملحة إذا أردنا حقيقةً أن نفهم بشكل شموليّ ظاهرة الإسلام السياسي وخطاباته، وسلوكياته على أرض الواقع، وكذلك الديناميات الداخلية لجماعات الإسلام السياسي، ومدى خطورتها على المجتمعات، واستشراف مآلها.
المراجع
[1] . الإسلاموية – التي أنشأها حسن البنا في مصر عام 1928، وتمثل جماعة الإخوان المسلمين أمها وأباها – تُعَرَّف عادةً على أنها “الأفكار والحركات التي تستهدف إقامة نظام أو دولة إسلامية تطبق الشريعة”. “ويُعد الارتباط بالوصول للسلطة الملمح الأساسي للحركات الإسلاموية، وهو ما يفرقها عن الجماعات الدينية غير السياسية، مثل جماعة التبليغ والدعوة. وينصب الاهتمام الرئيسي للإسلاموية على إقامة مجتمع عقائدي شمولي يحدد كل الأهداف الأخرى المتعلقة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية … إلخ”.
Asef Bayat, “Islamic Movements,” in The Wiley-Blckwell Encyclopedia of Social and Political Movements, eds. David Snow, Donatella della Porta, Bert Klandermans, Doug McAdam (New York and London: Wiley-Blackwell, 2013).
وهناك من الباحثين من يُعرف الإسلاموية على أنها “[…] الانتقال بالدين من نظام روحي إلى نظام للاحتجاج السياسي […]؛ فهي تستغل المشاكل السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وما إلى ذلك، من خلال احتكار قيم الدين الإسلامي المتصلة بالعدالة والمساواة لصالحها، وشحن المخيال الشعبي بأنها الهوية الإسلامية الصحيحة. فتتحول الهوية الإسلامية إلى أيديولوجيا دينية، تعمل أساسًا كاستراتيجية لإضفاء الشرعية السياسية، أو العكس، لنزع الشرعية السياسية. وهكذا يتم استخدام الإسلام لأغراض سياسية […]”.
Abderrahim LAMCHICHI, Islam, islamisme et modernité, Paris, L’Harmattan, 1994, 272 p, p. 32.
[2] . “رغم ازدهار الحياة العقلية والفكرية في القرن الرابع الهجري؛ نتيجة حركة الترجمة النشيطة إلى العربية لكتب فلاسفة اليونان القدامى، وما دَوَّنَه أدباء الفرس وحكماء الهند، فإن هذه الحياة الفكرية الباذخة ترافقت مع ضعف كبير أصاب الحياة السياسية؛ حيث تعالت النبرات الانفصالية الرافضة لسلطان الخلافة ببغداد. وكان من بين هؤلاء الرافضين جماعة على مذهب الشيعة الإسماعيلية سُميت ﺑ «إخوان الصفا»، وضعوا كتابًا ضم أهم الآراء الفلسفية والعلمية في ذلك الوقت، فكان يشبه دائرة معارف متكاملة لا غنى عنها للمثقف العربي وقتها. وقد هدف مؤلفوها إلى تغيير البنية العقلية السائدة والمسيطرة في المجتمع العربي، كبديل للأنساق الثقافية التقليدية التي يقدمها مثقفو السلطة”.
ويُعَرَّف عادةً إخوان الصفا كالتالي:
“مجموعة من الفلاسفة العرب المسلمين، عاشوا في القرن العاشر الميلادي في مدينة البصرة بالعراق، واتفقوا على توحيد المذاهب الإسلامية، والنظريات الفلسفية، ويُنسب إليهم كتاب «رسائل إخوان الصفا”. »ويرجح المؤرخون أن «إخوان الصفا وخلان الوفا» ينحدرون من الفكر الإسماعيلي. وتختلف طبقات «إخوان الصفا» الاجتماعية؛ فمنهم أبناء الطبقة الغنية كالملوك والأمراء والوزراء، ومنهم أبناء عامة الشعب كالعمال والكُتَّاب والتجار، ومنهم أبناء الأدباء والعلماء والفقهاء، وفئاتهم، لم يتم تحديد أسمائهم، ولا سكنهم، ولا عددهم. وقد اختلف المؤرخون في ماهيتهم ومذهبهم وهويتهم، ولكنهم قد تركوا رسائلهم التي تُعد موسوعة هائلة تضمنت أهم فنون الثقافة التي وُجدت في عصرهم، ويبلغ عددها اثنتين وخمسين رسالة، هدفها المعلن «التظافر للسعي إلى سعادة النفس عن طريق العلوم التي تطهر النفس». وقد اهتم «إخوان الصفا» بالفلسفات اليونانية وفلسفة فارس والهند القديمة، وكانوا يدمجونها مع الفلسفة الإسلامية في شرحهم لنظرية الخلق. وكانوا يهدفون إلى التقريب بين الأديان والفلسفة، ومحو فكرة ازدراء الفلسفة لدى المتدينين، وبيان أن الإسلام والفلسفة لا يتعارضان؛ ولهذا السبب كانوا يكتبون في الخفاء، ويتجمعون بشكل أشبه بالخلايا السياسية السرية في العصر الحديث. كما اهتم «إخوان الصفا» بجميع الأديان السماوية، وعلوم الفلك، والرياضيات والموسيقى والمعادن والنبات والحيوان.
وفي خلافهم حول تصنيف «إخوان الصفا»، ذهب بعض علماء المسلمين إلى اتهامهم بالهرطقة والإلحاد، ووصفوا فكرهم بالزندقة والفساد، بينما ذهب آخرون إلى اعتبارهم من أتباع المعتزلة، وقال آخرون إنهم يتبعون المدرسة الباطنية. وقيل إنهم كانوا يتبعون أسلوب التقية في إخفاء هويتهم، كما قيل إن ابن المقفع كان واحدًا منهم”.
انظر خير الدين الزركلي، رسائل إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء (الجزء الأول)، https://www.hindawi.org/books/95926405/
[3] . وائل فاروق، تحليل الخطاب في رسائل إخوان الصفا، شرفات، مكتبة الإسكندرية، 2018.
[4] . اختلف البيت الفاطمي في مصر فيمن يخلف منصور الآمر بأحكام الله بن أحمد المستعلي بالله، وارتأى بعضهم أن الطيب أبي القاسم بن منصور هو الإمام فعُرفوا بالطيِّبية، بينما بايع آخرون الحافظ لدين الله ابن عم الآمر بأحكام الله، فعُرفوا بالحافظية.
[5] . دار الإفتاء المصرية: “الإخوان خوارج العصر وأعداء مصر”، ومغردون يتهمون المؤسسة الدينية بـ “خدمة الحاكم”، بي بي سي، 22 فبراير 2019، https://www.bbc.com/arabic/trending-47336714
[6]. وائل صالح، الإسلامويات التطبيقية: نحو مرجعية معرفية عربية لتناول ظاهرة الإسلام السياسي، سلسلة اتجاهات الإسلام السياسي، العدد 5، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، https://bit.ly/3HJmx0D
[7] . محمد فريد حجاب، الفلسفة السياسية لإخوان الصفا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982. ص ص 5 – 17.
[8] . المصدر السابق.
[9] . انظر محمد نصر عبد الرحمن، دراسات التاريخ العباسي في العالم العربي، رؤية ببليوجرافية، جامعة الملك فيصل وجامعة عين شمس، https://bit.ly/3BIfiSU
[10] . المصدر السابق، ص 25.
[11] . لمزيد من التفاصيل عن أصل تسمية الإخوان يرجى الرجوع إلى:
Nader El-Bizri, The Ikhwan al-Safa and their Rasail: An Introduction, Oxford University Press and The Institute of Ismaili Studies, 2008.
[12] . فرقة إسماعيلية أقامت دولة إثر ثورة اجتماعية وسياسية ضد الدولة العباسية، وانشقت عن باقي الشيعة الإسماعيلية بعد رفضهم إمامة عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية. للمزيد من المعلومات حول القرامطة يمكن الاطلاع على:
ميكال يان دي خويه، نشأتهم، دولتهم وعلاقتهم بالفاطميين، ترجمة حسيني زينة، دار ابن خلدون، 225 صفحة.
[13] . Wael Saleh et Patrice Brodeur, L’ISLAM POLITIQUE À L’ÈRE DU POST-PRINTEMPS ARABE, Sommes-nous entrés dans l’ère du nécro-islamisme?, Collection : Études post-printemps arabe, L’Harmattan, 244 p.
. محمد فريد حجاب، مرجع سبق ذكره، ص 105. [14]
[15]. جان فرانسوا دورتييه، ترجمة: محمد الحاج سالم، لماذا لا تموت الأيديولوجيات أبدًا؟، ترجمات، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 28 ديسمبر 2016،
|