×

  رؤا

تراجع حركة النهضة التونسية.. الأسباب والدلالات

01/04/2023

بثينة جبنون

ناشرة ورئيسة تحرير مجلة "بثينة"

شهدت حركة النهضة التونسية خلال السنوات الماضية تراجعًا ملحوظًا على المستويين السياسي والتنظيمي؛ حيث عرفت تقلصًا متناميًا لقاعدة مؤيديها، منذ أول انتخابات شاركت فيها بعد عام 2011، هذا إلى جانب تزايد حالة الرفض الشعبي والمجتمعي للحركة وتوجهاتها السياسية والفكرية. فالشعب التونسي الذي ثار على نظام حكمه في عام 2011، بسبب تردّي الأوضاع المعيشية والتنموية وغياب الحريات وغير ذلك، ولكنه فوجئ بعد مرور عقد كامل من الزمن، بأن الحال لم يتغير، بل شهدت بعض القطاعات الإنتاجية تدهورًا يفوق ما كانت عليه قبل الثورة. ولم تفلح الحكومات المتتالية التي قادتها حركة النهضة سوى في إشعال الحرائق السياسية، وافتعال الأزمات والفتَن، من أجل صرف أنظار الشعب التونسي عن الفشل الحكومي المتواصل في إدارة شؤون البلاد، والأزمات المتعددة التي تعاني منها الحركة، والتي ساهمت في تزايد وتيرة الانقسامات داخلها، منذ إعلان الرئيس قيس سعيد عن عدد من التدابير الاستثنائية في 25 يوليو 2021؛ وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول أبرز الأسباب التي أدت إلى تراجع الحركة، وأهم التداعيات المحتملة لهذ التراجع على الحركة وعلى الحياة السياسية في تونس التي شهدت عقب حراك 2011، مرحلة خطيرة وغير مسبوقة في تاريخها، إذ أتاح ذلك فرصة سانحة لحزب النهضة الإخواني للثأر من القوى التنويرية، التي حكمت تونس على مدى عقود استقلالها.

 

أولًا: البرغماتية السياسية للنهضة التونسية:

يشير تطور النهضة، من حركة كانت تسمى بـ” الاتجاه الإسلامي ” المحظورة  في زمن الرئيس الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس الراحل زين العابدين بن علي، إلى حزب سياسي بعد انتفاضة 2011، يدَّعي الفصل بين الدعَوي والسياسي وفك ارتباطه بالتنظيم العالمي للإخوان، إلى رغبة النهضة في الاستفادة من الحراك وجني ثماره دون دفع أي تكلفة، خاصة وأن التنظيم الدولي للإخوان يبدو أنه اختار الفرع التونسي كنموذج لتحسين صورته، من خلال محاولة التخلي عن المظهر التقليدي المتطرف لتعرض نفسها في حُلة مقبولة على المجتمع التونسي في الداخل وأيضًا على المجتمع الدولي في الخارج. ومن الجدير بالذكر أن العلاقة العلنية بين النهضة والتنظيم الدولي للإخوان قد بدأت تظهر بشكل علني وجليّ، بعد أن كشفت وسائل الإعلام في أكثر من مرة مشاركة زعيم الحركة راشد الغنوشي في اجتماعات التنظيم، التي أعقبت عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي بعد ثورة 30 يونيو 2013. وكان من دلائل هذا ظهور الشيخ عبد الفتاح مورو، نائب رئيس “النهضة” وأحد قادتها التاريخيين في الاجتماع، الذي عقده التنظيم العالمي للجماعة في أحد فنادق مدينة لاهور، عاصمة إقليم البنجاب الباكستاني، والذي بحثت خلاله قيادات الإخوان أسباب انتكاسة حكم الجماعة في مصر وتداعياتها[1].

ومن الجدير بالذكر في هذا الإطار أنه منذ عام 2011، والجماعة تنتهج السياسية البراغماتية في الاستحواذ على السلطة، من خلال تلوين خطابها والتعاطي مع نمط الثقافة الاجتماعية السائدة لدى المجتمع التونسي ومحاولة إظهار وجه مغاير عن “الإسلام السياسي” التقليدي، عبر تبنّي مفهوم الإسلام الديمقراطي للحصول على دعم النخب الغربية والمجتمع الدولي، وذلك لتحقيق مكاسب سياسية، رغم أنها تمثل امتدادًا للتنظيم العالمي للإخوان (عقليًا وفكريًا وهيكليًا).

وقد تدرجت الحركة في تونس منذ نشأتها من السرية إلى العلنية، وعرفت قياداتها السجون والمنفى ثم كراسي الحكم والسلطة، وانتقلت من حركة إسلامية إلى حزب سياسي في سنة 2011 ، وتمكنت بطريقة براغماتية من التسويق لخطابها، على أنها حزب معاصر بعيد عن توظيف الدين يجمع بين التحديث الإيجابي من جهة، من خلال الزعم بتطوير الفكر الإسلامي وتجديده بما يواكب المتغيرات الزمنية والسياسية، وكذلك المشاركة في العمل السياسي، ومحاولة طمس تاريخها في التطرف، فضلًا عن توجيه الاتهامات إليها بممارسة الإرهاب، على غرار اتهام الصحبي العمري، القيادي السابق في حركة النهضة، رئيسَ الحكومة الأسبق وأمين عام حركة النهضة، حمادي الجبالي، بالوقوف وراء تفجيرات فنادق مدينتيْ سوسة والمنستير على الساحل الشرقي سنة 1987[2].

ثانيًا: أبرز مؤشرات التراجع:

يمكن القول إن هناك عددًا من المؤشرات التي يمكن أن تكشف التراجع المستمر الذي تشهده حركة النهضة الإخوانية في تونس، حيث التطورات المتسارعة على الساحة السياسية التونسية، قد أثرت عليها بقوة. فمن الصعود الساحق في انتخابات 2011 وحتى السقوط المدوّي، بعد قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو 2021. وفي ضوء ذلك يمكن تحديد أبرز المؤشرات في النقاط التالية:

التراجع البرلماني: رغم أن حزب النهضة كان قد حقق نجاحًا كبيرًا في الانتخابات التشريعية 2011، وصعد إلى سدّة الحكم بـ 89 مقعدًا من جملة 217 مقعدًا في المجلس الوطني التأسيسي، محتلًا بذلك صدارة تطلعات التونسيين أيضًا، ومتربعًا على عرش المشهد السياسي، لكنه تراجع في انتخابات 2014. تراجع الحزب ليحتل المرتبة الثانية من حيث عدد المقاعد بالبرلمان التونسي بـ 69 مقعدًا خلف نداء تونس الذي استحوذ على 85 مقعدًا. واستمر هذا التراجع في الانتخابات التشريعية في 2019، فقد حصل الحزب على 52 مقعدًا من جملة 217 مقعدًا بالبرلمان، لتكون بذلك تشريعية 2019، بداية “الانحدار السياسي للنهضة” رغم اعتلاء زعيمها راشد الغنوشي رئاسة البرلمان التونسي، الذي دخل بدوره في فوضى عارمة تتالت فيها المطالبات وعرائض سحب الثقة منه[3]. كما ساهم سوء الأداء البرلماني لأعضاء النهضة في فقدان الثقة لدى الجمهور المناصر لهم، وهو ما تشير إليه أعداد الناخبين المؤيدين لهم في الانتخابات الثلاث التي شهدتها البلاد منذ 2011، والتي وصل عدد الناخبين فيها إلى                  مليون و498 ألف ناخب، ثم تراجعت إلى 947 ألف في انتخابات 2014، ثم وصلت إلى 561,132 ناخبًا في انتخابات 2019، هذا يعني فقدان الثقة لدى ناخبيهم، وربما هذا ما دفع بعض القيادات المنشقة عن الحركة في التفكير في تأسيس حزب سياسيي جديد[4].

الفشل السياسي:

يمكن القول إن حركة النهضة قد فشلت في إدارة البلاد في الفترة التي تصدرت فيها المشهد السياسي في البلاد، منذ عام 2021، بالنظر إلى أنها تعاملت مع الدولة وأجهزتها وفقًا لمنطق الغنيمة وعلى أساس مصالحها الخاصة والحزبية، على الرغم مما أبدته في الظاهر مع شركائها من توافق على التشاركية في الحكم، لكن هذا التوافق كان مغشوشًا وأثبتته الوقائع بعد ذلك، حيث إنه  من الواضح أن الحركة تتعامل مع الحكم على أساس تقسيم الكعكة، معتمِدة في ذلك على ما توفره المنظومة السياسية والانتخابية لها باعتبارها الحزب الأكثر حضورًا في البرلمان، لتقوم بكل شيء حتى تضمن الصورة الحكومية التي تؤمِّن مصالحها، وهو ما جعل بعض المراقبين يصف النهضة بأنها على استعداد للتضحية بتونس من أجل البقاء في السلطة[5]؛ خاصة مع استمرار الاتهامات الموجهة إلى النهضة بعدم الفصل بين الدعوي والسياسي، واستمرار محاولتها لاستقطاب الشباب إلى صفوفها. لذلك كانوا يركزون على المناهج التعليمية والندوات التي تعتبر أدوات للتمديد المجتمعي والتغلغل في قطاعات الطلاب، وحتى محاولة التغلغل واختراق مؤسسات الدولة من خلال توظيفهم لمنتسبيهم بعد منحهم العفو التشريعي العام وحصولهم على تعويضات مادية، ساهمت في عجز مالي كبير في ميزانية الدولة. وربما هذا ما دفع الرئيس التونسي قيس سعيد إلى اتخاذ خطوات إصلاحية عميقة في تونس بداية من 25 يوليو 2021، لإزاحة خطر الحركة الإخوانية عن البلاد؛ بدأت بتجميد البرلمان ذي الغالبية الإخوانية، ثم حلّه لاحقًا، وإقالة الحكومة، وتبع ذلك تغييرات في القضاء وكافة مؤسسات الدولة، ووصلت إلى الاستفتاء على دستور جديد، يتبعه إعداد قانون للانتخابات وتنظيم عمل الأحزاب والمنظمات وشروط تمويلها [6].

 

تزايد الاتهامات بالعنف والإرهاب:

شهدت السنوات الماضية  تسليط الأضواء على الاتهامات الموجهة إلى النهضة بالتورط في عدد من القضايا، التي تمس الأمن  القومي التونسي، والتي كان من أبرزها، الاتهام بتأسيس جهاز سري كان يُشرف على قضايا الاغتيالات السياسية لشخصيات وطنية وشخصيات أمنية، مثل الناشطين السياسيين بلعيد والحاج البراهمي؛ حيث أشارت لجنة الدفاع عن الضحايا في مؤتمر صحفي إلى تورط حركة النهضة عبر “تنظيم سري” في اغتيال المعارضين، وأكدت أن العديد من الوثائق التي يرجح ارتباطها بالملف مودعة في غرف سوداء لدى وزارة الداخلية، وبالتالي تحمّلهم مسؤولياتهم الجنائية، يضاف إلى ذلك اتهام الحركة بالتورط في تسفير الشباب إلى بؤر التوتر (لبيبا، وسوريا والعراق). وعلى ضوء ذلك الاتهام تم إيقاف رئيس الحكومة الأسبق علي العريض، وأيضًا وزير العدل آنذاك نور الدين البحيري الذي ثبت تورطه في منح جوازات سفر للمقاتلين[7]، حيث أوقفت النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب في سبتمبر 2022، رجل الأعمال والنائب السابق عن حزب النهضة محمد فريخة وآمر (محافظ) سابق لمطار تونس قرطاج الدولي وقيادات أمنية ونهضوية، على ذمة التحقيقات المتعلقة بشبهات التورط في شبكات تسفير تونسيين إلى بؤر التوترـ ووفق اللجنة التونسية لمكافحة الإرهاب (حكومية)، والتي تشكلت في 2019، فإن “عدد التونسيين في بؤر التوتر بلغ حوالي ثلاثة آلاف، عاد منهم إلى تونس 1000 عنصر إرهابي، في الفترة الفاصلة بين 2011 وحتى أكتوبر/ تشرين الأول 2018[8].

 

الرفض الخارجي للحركة:

خلال تواجد النهضة في الحكم في تونس، انخرطت الحركة في محاور إقليمية قسَّمت الشعب التونسي في سياق ملفات سياسية وإيديولوجية، أدت إلى عزل تونس وإفساد علاقاتها الديبلوماسية مع بعض الدول. كانت من تداعياتها المس من الثوابت التونسية التاريخية في العلاقات الدولية وإدخال الدولة التونسية في سياسة المحاور، وهو ما جعل هناك حالة من الرفض الإقليمي لها، بعد أن أثبتت مواقفها أنها تسعى إلى تكريس المشروع الإخواني في المنطقة. فعلى سبيل المثال، في الأزمة السورية اتخذ الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي قرارًا بطرد السفير السوري بتونس، وإغلاق السفارة، واستضافة مؤتمر “أصدقاء سورية ” بتاريخ 24 فبراير 2012 في العاصمة التونسية تونس، وذلك بقرار من حكومة الإخواني حمادي الجبالي. وتم الاعتراف بالمجلس الوطني في يوليو 2012،  في أول انتخابات تشريعية التي أوصلت المؤتمر الوطني العام كمؤسسة تشريعية، حيث انبثقت عنه حكومة فايز السراج، التي كان يدافع عنها راشد الغنوشي زعيم النهضة بقوة، وهو ما كشف عنه رئيس النهضة في حوار مع القناة التلفزيونية الخاصة “نسمة”،إن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية فايز السراج يمثل الشرعية الدولية في ليبيا، وإن تونس تعترف بحكومة ليبية واحدة، جاء ذلك في تعليق على ما أثارته الجلسة البرلمانية الأخيرة بشأن الموقف من النزاع الليبي، دون أن يستبعد حدوث تغيرات داخل الحكومة التونسية في حديثه عن الشأن الداخلي[9].

 

ثالثًا: أبرز دلالات تراجع حركة النهضة:

يمكن القول إن التراجع المستمر الذي تشهده حركة النهضة التونسية، والتي كانت تعد من أبرز أذرع جماعة الإخوان في المنطقة العربية، يعكس عددًا من الدلالات المهمة، يمكن تحديد أبرزها في النقاط التالية:

 

الفشل الفكري:

كانت النهضة قد زعمت عقب الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، عن “تفهُّمها الغضب الشعبي المتنامي، خصوصًا في أوساط الشباب بسبب الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي، بعد عشر سنوات من الثورة، وعبَّر مجلس شورى الحركة، عن “ضرورة قيام الحركة بنقد ذاتي معمق لسياساتها خلال المرحلة الماضية، والقيام بالمراجعات الضرورية، والتجديد في برامجها وإطاراتها في أفق مؤتمرها الحادي عشر، وكان من المقرر أن تعقد الحركة مؤتمرها نهاية 2021، لمناقشتها العديد من القضايا من بينها مسألة المراجعات الداخلية، إلا أنه تأجَّل لأسباب داخلية، منها الانشقاقات التي تعيشها، ورفض عدد كبير من قيادييها ترشّح رئيسها الحالي راشد الغنوشي لولاية ثالثة، وتمسّكهم باحترام النظام الأساسي للحركة، الذي ينص على عدم ترشّح رئيس الحركة، لأكثر من دورتين[10]، ومن جهة أخرى يبدو أن هناك حالة وعي بين مكونات الشعب التونسي بالمخاطر الفكرية للنهضة، والتي عملت من خلال استراتيجية مدروسة على تطوير مظهرها الخارجي في سياق مراجعة فكرية لتكون مقبولة شعبيًا، وتنويع طرق التعبئة لخدمة أجنداتها وتحقيق أهدافها السياسية، لإحكام قبضتها على المجتمع والدولة والتخطيط للحكم بتونس.

 

فشل الحركة في إدارة البلاد:

كشفت الفترة التي تولت فيها حركة النهضة قيادة البلاد في تونس، والتي يحلو للبعض بأن يصفها بالعشرية السوداء، عن قلة الخبرة لدى قادتها في إدارة شؤون الدولة، نظرًا إلى أن أغلبهم لم يكونوا من الكفاءات وتم اختيارهم طبقًا لنهج العقيدة والسمع والطاعة. والأسوأ من ذلك أن بعضهم كانوا في السجون داخل تونس في عهد الرئيس الراحل بن علي، ومُنِحوا العفو التشريعي العام بعد سقوط نظام بن علي، حيث يبدو أن الحركة منذ تصدرها المشهد السياسي في تونس في عام 2011، وحتى اليوم تتعامل مع الدولة وأجهزتها وفقًا لمنطق الغنيمة وعلى أساس مصالحها الخاصة والحزبية، على الرغم مما أبدته في الظاهر مع شركائها من توافق على التشاركية في الحكم. لكن هذا التوافق كان مغشوشًا وأثبتته الوقائع بعد ذلك، إذ تتعامل مع الحكم على أساس تقسيم الكعكة، معتمدة في ذلك على ما توفره المنظومة السياسية والانتخابية لها باعتبارها الحزب الأكثر حضورًا في البرلمان، لتقوم بكل شيء حتى تضمن الصورة الحكومية التي تؤمِّن مصالحها.

لذا وقعت تونس في حالة من الجمود السياسي والفشل البرلماني والحكومي. وتمادت حركة النهضة في محاولات إفشال الجميع، ولم تحاول تشجيع الحكومة على تنفيذ أي مخطط اقتصادي أو تنموي يساعد على الخروج من هذا الوضع المتأزم، رغم إدراك راشد الغنوشي ورفاقه أن بلادهم تعاني عجزًا تجاريًا كبيرًا طيلة السنوات الماضية، وأن وباء كورونا تسبب في تراجع النشاط السياحي بنسبة تفوق 60 %، فضلًا عن تراجع معدلات التصدير الزراعي وارتفاع الأسعار وغير ذلك من مؤشرات جعلت السبيل الوحيد لإنقاذ الاقتصاد التونسي من انهيار وشيك هو الحصول على قرض جديد من المؤسسات الدولية المانحة[11].

 

تزايد حدة الانقسامات الداخلية:

شهدت حركة النهضة في تونس صراعًا متصاعدًا بين قياداتها، ويرجع ذلك بشكل رئيس إلى إشكالية خلافة راشد الغنوشي في منصب رئيس الحركة، حيث أصبحت الحركة منقسمة بين فريقين؛ أحدهما مؤيِّد لبقاء الغنوشي في رئاسة الحركة عبر تجديد ترشُّحه لتولي دورة رئاسية ثالثة للحفاظ على استقرار الحركة وبقائها في صدارة المشهد السياسي بالبلاد، بينما يرفض الفريق الآخر تعديل القانون الداخلي للحركة الذي ينص على عدم جواز تولي الغنوشي رئاسة الحركة لأكثر من دورتين متتاليتين. كما شهدت انقسامات في صفوفها من حيث مستوى التنظيم الهَرَمي للحركة والتفاوت الجيلي على مستوى العضوية؛ حيث تصاعدت الخلافات بين قيادات الصف الأول والصف الثاني، وانشقاقات بعض القيادات بحزب النهضة التي شكلت أحزابًا جديدة بسبب انفراد راشد الغنوشي بكل قرارات الحركة وعدم التداول الديمقراطي على منصب رئيس الحركة، حيث يرفض راشد الغنوشي والمقربين له إجراء مؤتمر للحزب ينتخب فيه رئيس الحزب ديمقراطيًا، إلى جانب اتهام الغنوشي بالفساد إذ ينعم هو وحاشيته الضيقة، منهم ابنه معاذ وصهره رفيق عبد السلام، بالرفاهية والأموال والبذخ، كما تُحمِّله بعض القيادات من الصف الثاني ما آلت إليه قراراته السياسية التي أفقدتهم الثقة لدى قواعدهم الشعبية[12].

 

العجز عن الحشد والتأييد:

اتجهت حركة “النهضة” الإخوانية، منذ الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، وما تبعها من خطوات قضائية تستهدف محاسبة الفاسدين، وتوجيه مجموعة من الاتهامات إليها تتعلق بإفساد المجال السياسي، وتلقي تمويلات خارجية، واختراق القضاء، إلى جانب اتهامات تتعلق بالإرهاب وملف الاغتيالات السياسية، إلى استغلال الظروف الاقتصادية التي تمر بها تونس مؤخرًا، في الحشد ضد الرئيس وتأليب الرأي العام ضده، ولكنها فشلت في ذلك. ففي محاولة يائسة للضغط على الرئيس التونسي قيس سعيد والعودة إلى المشهد من جديد، سعى إخوان تونس إلى حشد أنصارهم في 14 يناير 2023 من خلال وقفة، نظمتها الحركة في شارع الحبيب بورقيبة بقلب العاصمة لإحياء ذكرى سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في 2011، ولم يشارك فيها إلا القليل، وكشفت بجلاء عن تداعي التنظيم الإرهابي، وغياب الموالين له بعد الفضائح التي كشفها النظام القضائي بشأن قيادات التنظيم مؤخرًا، كما كشفت بشكل كبير عن وعي الشعب التونسي بمخططات ومؤامرات تلك الجماعة الإرهابية[13].

الخاتمة:

في ضوء المعطيات السابقة، يمكن القول إن التراجع السياسي والاجتماعي والتنظيمي لحركة النهضة سيستمر إلى الفترات القادمة، في ظل وجود العديد من الأزمات الداخلية والخارجية التي تعاني منها الحركة، وتزايد وعي الشعب التونسي بمخاطر الحركة وأهدافها الخبيثة، بعد أن كشفت مشروعهم الذي يمثل تهديدًا للدولة الوطنية، ونواياهم تجاه البلاد ومدى انتهازيتهم للوصول إلى الحكم والعودة إلى البرلمان بكل الوسائل، مما جعلها تبدو منبوذة خلال الفترة الأخيرة، وذلك بالتوازي مع استمرار  الانقسامات والانشقاقات داخلها، والتي طالت العديد من القيادات ذات الثقل التنظيمي داخل النهضة، على غرار الرجل الثاني في الحركة ونائب رئيسها عبد الفتاح مورو، وقائدها التاريخي عبد الحميد الجلاصي، وأمينها العام زياد العذاري، وقبله رياض الشعيبي وزبير الشهودي، وهي الاستقالات التي عكست حالة الانقسام والتشتت والتصدُّع الذي تعيشه الحركة. ووصف الغنوشي المختلفين معه والمطالبين له بعدم الترشح مرة أخرى بأنهم “كيانٌ موازٍ” يهدف إلى تقسيم الحركة، ومن ثمَّ إضعافها سياسيًا، وهو ما يشير إلى أن الحركة تتجه نحو مزيد من التفكك والانهيار، وذلك بعد أن فقدت مقومات البقاء في صدارة المشهد السياسي.

 

المراجع

[1] تتبع الروابط بين حركة النهضة التونسية والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، موقع بوابة أفريقيا، بتاريخ 5 فبراير 2014، على الرابط: https://2u.pw/rjVpMY

[2] جدل في تونس حول منفذي سلسلة تفجيرات عام 1987، العربية نت، بتاريخ 9 يونيو 2013، على الرابط:

https://2u.pw/YRDXR6

[3] الحضور السياسي لحركة النهضة في تونس.. من الاكتساح إلى الانهيار، موقع بوابة أفريقيا الإخبارية، بتاريخ 14 يوليو 2022، على الرابط: https://2u.pw/HhSYqK

[4] تونس.. تأسيس حزب جديد من رحم حركة النهضة، موقع العربية نت، بتاريخ 28 يونيو 2022، على الرابط:

https://2u.pw/xXPfjz

[5] لماذا تحمل “النهضة” مسؤولية فشل الحكومة في تونس؟ موقع اندبندنت عربية، بتاريخ 23 يوليو 2021، على الرابط:

https://2u.pw/2odAZa

 

[6] النهضة في عين العاصفة.. ومنشقون عن الغنوشي يحضرّون لحزب جديد، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 15 أغسطس 2022، على الرابط: https://2u.pw/qZRc7A

 

[7] دفاع بلعيد والبراهمي: دلائل تثبت تورط النهضة في الاغتيالات، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 23 يوليو 2020، على الرابط: https://2u.pw/r8ekOg

 

[8] تونس تقترب من الرأس المدبرة لشبكات تسفير الشباب إلى بؤر التوتر، موقع ميدل ايست أونلاين، بتاريخ 13 سبتمبر 2022، على الرابط: https://2u.pw/P41L51

 

[9] الغنوشي: السراج يمثل الشرعية الدولية في ليبيا، موقع الجزيرة نت، بتاريخ 6 يونيو 2020، على الرابط:

 

 https://2u.pw/dT9CEb

 

[10] هل انفرط عقد “حركة النهضة” بعد إجراءات 25 يوليو؟، موقع اندبتدنت عربية، بتاريخ 3 يناير 2022، على الرابط:

 

 https://2u.pw/PDcdyz

 

[11] تونس وفاتورة فشل حركة النهضة، موقع صحيفة العرب، بتاريخ 30 يوليو 2021، على الرابط:

 

 https://2u.pw/4jDEax

 

[12] خلافة “الغنوشي” وتصاعُد الانقسامات داخل حركة النهضة في تونس: الدلالات والسيناريوهات، مركز الإمارات للسياسات، 24 أكتوبر 2020، على الرابط: https://2u.pw/6nNfki

 

[13] سقوط جديد لإخوان تونس.. فشل في الحشد و”النهضة” بلا حليف، موقع العين الإخبارية، بتاريخ 17 يناير 2023، على الرابط: https://2u.pw/LStBlx

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  العالم بعد فوز دونالد ترامب
←  الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية: مصالح حيوية وتحديات معقدة
←  عصر طرق الحرير الجديدة في الشرق الأوسط
←  انسحاب بايدن وسيناريوهات وصول هاريس إلى البيت الأبيض
←  المناظرة الرئاسية الأولى بين جو بايدن وترامب.. القضايا والتداعيات
←  مصرع الرئيس الإيراني.. الأبعاد والتداعيات والسيناريوهات المحتملة
←  حدود وتأثيرات التصعيد الإيراني الإسرائيلي المتبادل
←  د. سرحد سها كوبكجوغلو:مشروع طريق التنمية العراقي التركي
←  الاتجاهات الاستراتيجية في عام 2024
←  بريكس والسعي لنظام متعدد الأطراف.. التطلعات والتحديات
←  بريكس والدعوة إلى إعادة التوازن للنظام الدولي
←  ​آثارالانتخابات على الحرب في اوكرانيا ومنطقة الخليج العربي وسوريا
←  تحوُّلات أولويّات الاستهداف عند التنظيمات الإرهابيّة
←  عودة العلاقات السعودية – الإيرانية.. أبعاد الاتفاق والانعكاسات المحتملة
←  دور الأناشيد “الجهادية” في الاستقطاب الرقمي
←  غياب المراجعة الفكرية لـ “الإخوان” وحضور التراجع السياسي منير أديب
←  الأمن النووي… قلق عالمي دائم
←  تراجع حركة النهضة التونسية.. الأسباب والدلالات
←  حرب الرقائق.. اختبار رئيسي لهيمنة أمريكا الاقتصادية
←  الأمن السيبراني في 2023: تحولات وتحديات عصر الذكاء الاصطناعي
←  أوجه التشابه بين “الإخوان المسلمين” و”إخوان الصفا”: تعاليم ورسائل سياسوية باسم الدين
←  أنظمة الإنذار المبكر ودورها في التصدي للإرهاب
←  قيود طالبان على المرأة ومستقبل الإرهاب في أفغانستان
←  بغداد ـ واشنطن.. المسار المعقد في حكومة السوداني
←  جزر المحيط الهادي.. منطقة متجددة للصراع الجيوسياسي بين واشنطن وبكين
←  العراق: ما بعد انتخاب الرئيس
←  الانتخابات النصفية 2022 وصراع السيطرة على الكونغرس
←  العلاقات التركية-الأمريكية.. فرص التقارب وتحدياته ومكاسب متبادلة
←  دلالات مقتل زعيم تنظيم الدولة وأبعاده
←  التنمية المستدامة والمواطنة الصالحة