الأمن النووي… قلق عالمي دائم
د. محمد عاكف جمال..باحث وكاتب عراقي
مقدمة
نقل القرن العشرون الإنسان في كل مكان من العالم نقلة نوعية بدرجات متفاوتة على مختلف المستويات علميًّا وفكريًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا ومجتمعيًّا وسياسيًّا، فالتعرف على البنية الأساسية لتركيب المادة والنظريات التي بنيت حولها لم يكن له تداعيات على نظرية المعرفة، وهو أمر على قدر كبير من الأهمية، بقدر ما كان له من تداعيات على استراتيجيات النخب السياسية التي نشأت في أطر القرن الفكرية والثقافية ووصلت بعد ذلك بعقود من الزمن إلى مواقع صنع القرارات في دولها. فبالقدر الذي فتحت فيه العلوم الحديثة بوابات واسعة أمام الحلم الإنساني بعالم الغد، فتحت كذلك بوابات واسعة تفضي إلى عوالم الظلام، فقد فتح القرن العشرون المجال واسعًا لوأد كل الأحلام ومنح الإنسان -في موقع صناعة القرار في بعض الدول- السلطة على إنهاء الحياة على سطح هذا الكوكب، وهو ما أبقى الإنسان في قلق دائم على ما قد يأتي به الغد.
لقد اتصفت الرؤى التي ولدت مطلع القرن المذكور ببعد فكري عميق، ولّدته تحولات العلم الفيزيائي، ولاسيما (نظرية النسبية والنظرية الكوانتية) وصنفت وقتها بأنها رؤى جديدة تمامًا على الوسط العلمي، تتحدى بقوة المبدأ الذي أُرسيت على قواعده الفلسفة السائدة التي نشأت عليها علوم القرن التاسع عشر، وهو “الحتمية” الذي يتبنى “العِلِّية” أي “السببية” في تفسير الظواهر الطبيعية. وقد نجحت هذه الرؤى في فرض حضورها على هذا الوسط، فظاهرة النشاط النووي الإشعاعي قد شذت عن مبدأ السببية الذي بُنيت عليه العلوم منذ عهد أرسطو، وفتحت الباب أمام اعتماد مبدأ “الصدفة” الذي تحكمه قواعد الاحتمال و”مبدأ العشوائية” أو “مبدأ الفوضى” الذي لم يكن يحظى باهتمام علماء القرن التاسع عشر، إذ أصبح ذلك المبدأ علمًا قائمًا بذاته في القرن العشرين تجاوز الاهتمام به وبتداعياته اهتمامات الأسرة العلمية، ليدخل حلبة العالم السياسي، ويُتداول بين أساطينه حين أصبح مصطلح “الفوضى الخلاقة” مألوفًا في أوساطه.
الأمن النووي
في خطاب تاريخي ألقاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في أبريل عام 2009 في العاصمة التشيكية براغ[1]، أعلن فيه عن رؤية جديدة في أن يصبح عالمنا “عالمًا خاليًا من الأسلحة النووية”، واقترح لتحقيق هذه الرؤية أن يكون “الأمن النووي” ضمن الأهداف الثلاثة الأساسية لهذه الرؤية، بالإضافة إلى “نزع السلاح النووي” و”عدم انتشار الأسلحة النووية” موضحًا أن “الأمن النووي” يتمثل في ضمان توفير الحماية من أي مخاطر قد يتعرض لها الأفراد أو الجماعات بسبب المواد النووية الخطرة، في جميع أنحاء العالم، في غضون أربع سنوات. وفي سبتمبر من العام نفسه (وللمرة الخامسة التي يجتمع فيها مجلس الأمن الدولي على مستوى الرؤساء منذ تأسيسه عام 1946) برئاسة الرئيس الأمريكي، اتُّخذ بإجماع الآراء قرارٌ غير ملزم يدعو إلى إرساء عالم خالٍ من الأسلحة النووية وخفض الترسانة النووية للدول الكبرى. وقد فُسِّرَ هذا القرار في حينه بأنه بوادر توافق أمريكي روسي للضغط على إيران[2] التي بدأ برنامجها النووي يسبب بعض القلق في الأوساط الدولية، في ضوء سياساتها المعلنة بالعداء للولايات المتحدة والتوسع في النفوذ على حساب جيرانها العرب وتقديم نفسها قوة إقليمية لها ما تقوله في شأنها السياسي. وقد وقّع على هامش هذا الاجتماع مائة وخمسون وزير خارجية إعلانًا يدعو إلى التسريع في وضع معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية موضع التنفيذ.
البدايات الأولى
منذ البدايات الأولى لاستخدامات الطاقة النووية مطلع القرن العشرين، نشأت الحاجة إلى التعامل معها بحرص وحذر شديدين يتفقان مع المخاطر المعروفة عنها آنذاك، جسديًّا ووراثيًّا، وتحسُّبًا لما هو غير معروف عن هذه المخاطر. ومع التوسع لاحقًا في استخدام الطاقة النووية من الأغراض العسكرية إلى الأغراض السلمية في خمسينيات القرن المنصرم، سواء لإنتاج الطاقة الكهربائية أو لإجراء البحوث العلمية أو لإنتاج النظائر المشعة للاستخدام في المجال الطبي والصناعي والزراعي، ازدادت الحاجة إلى ابتكار وسائل التعرف على حجم التعرض لمخاطر هذه الطاقة على مستوى الأفراد والمؤسسات وظهرت الحاجة إلى أفراد متخصصين وإلى مؤسسات رسمية متخصصة تقوم بهذا الغرض وجهات دولية استشارية لضمان التعامل مع هذه المخاطر بما يتفق مع ما توصلت إليه الأبحاث العلمية والطبية عن مخاطر التعرض لها.
ويعني “الأمن النووي” وفق تعريف الوكالة الدولية للطاقة الذرية[3] التي تأسست عام 1957، الوقاية من السرقة أو التخريب أو الدخول غير المصرح به أو النقل غير المشروع أو أي أعمال ضارة أخرى تسببها المواد النووية أو المرافق المرتبطة بها. ويعني توفير الظروف التشغيلية السليمة لجميع العاملين فيها أو الذين هم على مقربة منها، ومنع وقوع الحوادث أو التخفيف من آثارها عند وقوعها على نحو يحقق وقاية العاملين والجمهور والممتلكات والبيئة عمومًا. ويشمل ذلك محطات الطاقة النووية ومختبرات البحث العلمي والمستشفيات وأي مؤسسة تَدْخُلُ بعض المواد النووية في دائرة استخداماتها في الصناعة والزراعة وغير ذلك.
وتقع مسؤوليات تأمين السلامة على عاتق كل دولة تستخدم التكنولوجيا النووية وتتعامل مع النفايات الناتجة عن ذلك. وتعمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من خلال مسؤولياتها في إدارة شؤون السلامة والأمن النووي دوليًّا، على توفير إطار قانوني عالمي للسلامة والأمن لحماية الناس والمجتمعات والبيئة. ويوفر هذا الإطار سبل التحديث والتنمية لقدرات استخدام الطاقة النووية وتطبيق معايير السلامة والأمن وتوفير المتطلبات لذلك، إلا أنه ليس للوكالة سلطة لفرض هذا الإطار على أي دولة.
ولا تقتصر إجراءات الوكالة الدولية للطاقة الذرية على الإشراف على الأنشطة النووية ووضع اللوائح وإصدار التعليمات بل تعتمد الصكوك القانونية الدولية الرئيسية المتوافرة تحت رعايتها وأبرزها اتفاقية الحماية المادية للمواد النووية وتعديلها لعام 2005 التي تنص على “تدابير الحماية المادية التي يتعين تطبيقها على المواد النووية في النقل الدولي، فضلاً عن التدابير المتعلقة بالجرائم الجنائية المتصلة بالمواد النووية”.
النفايات النووية
تُنتج النفايات النووية المشعة في جميع المراحل التي يمر بها الوقود النووي حيث يُنتج بعضها في أثناء عمليات التعدين والطحن والتصنيع النهائي، لكن الكمية الأكبر تأتي من الانشطار الفعلي لليورانيوم في قلب المفاعل النووي لإنتاج الطاقة الكهربائية، والتي يتم جمعها والتحفظ عليها خلال عملية معالجة الوقود المستخدم وفصل عنصر البلوتونيوم 239 الذي لا مجال لاستخدامه في الوقت الحاضر إلا في القنابل النووية.
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه النفايات تُنتَج في المستشفيات، وفي مختبرات الجامعات، وفي مراكز البحث العلمي، وفي المؤسسات الصناعية التي تستخدم فيها المواد النووية المشعة، بعد انتهاء الغرض من استعمالها أو عند انتهاء صلاحياتها، ولم تعد تصلح للاستخدام في أي مجال آخر. إلا أن هذه النفايات تبقى فعالة، وما يصدر عنها من إشعاعات، خاصة من النوع المتوسط والثقيل، يتسبب في العديد من الأخطار البيئية، عن طريق تلويثها للماء والهواء والتربة أو دخولها في بعض أنسجة الكائنات الحية.
وتصنف هذه النفايات بحسب درجة خطورتها ودرجة تأثيرها في البيئة، وتُعامَلُ تقنيًّا وأمنيًّا وفق ذلك حين يجري التخلص منها، وأهم مصادر هذه النفايات: المفاعلات النووية ومحطات معالجة الوقود النووي والمستشفيات والمختبرات البحثية، بالإضافة إلى أنها تتولد في أثناء إيقاف تشغيل المفاعلات النووية لأغراض الصيانة.
فالنفايات النووية خطيرة يجب التخلص منها بطرائق آمنة لا تؤثر في التوازن البيئي، ويتم ذلك إما بدفنها في أعماق البحار والمحيطات، أو في باطن الأرض داخل حفر عميقة، أو بإعادة استخدامها مرةً أخرى لاستخراج ما يمكن استخراجه من الطاقة منها. وتعتمد طريقة التخلّص من هذه النفايات على درجة خطورتها سواء من ناحية شدتها الإشعاعية أو عمرها النصفي. وعلى عكس أي قطاع صناعي آخر في أي مؤسسة، فإن القطاع النووي يتحمل المسؤولية كاملةً للتخلص من نفاياته وينشئ لها مرافق خاصة.
تقدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية حجم النفايات النووية المتراكم منذ بدء تشغيل أولى محطات الطاقة النووية بما يعادل 22 ألف متر مكعب، أي ما يعادل حجم مبنى بارتفاع ثلاثة أمتار تقريبًا يغطي مساحة ملعب كرة قدم[4].
ومع خطورة هذه النفايات تبقى الطاقة النووية ذات جاذبية كبيرة خاصة فيما يتعلق بالأضرار التي تلحق بالبيئة، فحجم هذه النفايات لا يقارن بما يتولد عن استخدام الوقود الأحفوري من نفايات، فمقابل كل (كيلو واط ساعة) تنتج المحطات النووية 3 مليغرام من النفايات مقابل 700 غرام من ثاني أكسيد الكربون تنتجها المحطات العاملة بالوقود الأحفوري[5]، وفوق ذلك فتشغيل محطة كهربائية نووية قدرتها 1000 ميغا واط تنتج سنويًّا ما يعادل 3 أمتار مكعبة من النفايات النووية عالية المستوى يمكن خزنها باطمئنان في هذا المكان أو ذاك، في حين تشغيل محطة بدرجة القدرة نفسها، باستخدام الفحم ينتج 300 ألف طن من الرماد وأكثر من 6 ملايين طن من غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي يبقى عالقًا في الغلاف الجوي، لذلك تتم، ومنذ سنوات، الاستعاضة عن الفحم بالغاز الطبيعي الذي يحد من انبعاث حوالي 50 % من غاز ثاني أوكسيد الكربون.
الإرهاب يدخل الحلبة
لم يكن “الأمن النووي” قضية ذات طابع سياسي خلال فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، بالإضافة إلى تراجع المخاوف من قيام حرب نووية تراجُعًا كبيرًا بعد سقوط جدار برلين ثم سقوط الاتحاد السوفيتي، في بداية تسعينيات القرن الماضي، إذ أصبح الغالب على العلاقات الأمريكية الروسية سمة التعاون، وليس التنافس والعدائية. إلا أن ما حدث في 11 سبتمبر 2001 غيّر الوضع بشكل خطير جدًّا، إذ نشأت مخاوف جديدة لم تكن في الحسبان حين دخلت حلبة الصراع الدولي قوى جديدة تتبنى الإرهاب أيديولوجيا سياسية لها. تتركز هذه المخاوف حول احتمال حصول هذه القوى على سلاح نووي أو على مواد تصنيعه للاستخدام في هجمات إرهابية مستقبلية.
فوفقًا لما صدر عن دوائر استخبارية عالمية، فإن هذه المخاوف ليست في غير محلها، فقد صدر عن السلطات الرسمية الروسية[6] في عصر الانحطاط الذي شهدته الدولة إثر سقوط الاتحاد السوفيتي، وهي دولة تمتلك ترسانة هائلة من الأسلحة النووية ومواد تصنيعها، ولديها أعداد كبيرة من العلماء والفنيين ممن لهم دراية معمقة بتكنولوجيا السلاح النووي بوجود مئات المحاولات لتهريب هذه الأسلحة أو المواد التي تدخل في صناعتها منذ سبتمبر 2001. بينما اعترفت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بكشفها خطط الإرهابيين للحصول على معلومات نووية، وقد رصدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية العديد من المحاولات في هذا الشأن.
يرى خبراء الأمن النووي في الدول الغربية أن هناك سيناريوهات عديدة يمكن أن تلجأ إليها المنظمات الإرهابية للحصول على مواد نووية:
السيناريو الأول – وهو الأصعب – يتمثل في سرقة سلاح نووي جاهز من أحد البلدان التي تمتلكها بطريقة ما ليست الإغراءات المالية بعيدة عن ذلك، ويقوم السيناريو الثاني على سرقة اليورانيوم المخصب بدرجات عالية واستخدامه في جهاز نووي بدائي أو بيعه لدولة ما، لا ترغب في الإعلان عن نواياها في الحصول على سلاح نووي، وفي كلتا الحالتين، يتطلب وجود متخصصين للقيام بذلك، وليس مجرد إرهابيين عاديين. أما السيناريو الثالث فيتمثل في استهداف منشأة نووية قائمة بالفعل وتفجيرها في بلد مستهدف، مما يسبب الانهيار والتسرب الإشعاعي من تلك المنشأة، والاستفادة سياسيًّا من هذا الحدث في توظيفه لمصلحتها إعلاميًّا. في حين أن السيناريو الرابع، وهو الأرجح وفقًا للخبراء، يتلخص في قيام الإرهابيين بسرقة المواد المشعة من منشآت طبية أو من مراكز أبحاث أو من قطاعات صناعية، واستخدامها في صنع قنبلة قذرة، يمكن استخدامها في تلويث مياه الشرب أو تلويث مناطق ذات كثافة سكانية عالية.
إلا أن ازدياد عدد الدول الساعية لامتلاك ناصية الطاقة النووية، والتعرف على خباياها ضاعف المخاوف ليس فقط من الأفراد والمنظمات المصنفة إرهابيًّا، بل من دول بعينها تثير سياساتها الكثير من الشكوك، مما فرض التعامل مع “الأمن النووي” على أعلى المستويات، والدعوة إلى عقد قمم دولية لمقاربتها، فالتأثير السياسي لقرارات القمم أشد كثيرًا من تأثير قرارات أو توصيات تصدر عن منظمات أو وكالات تابعة للأمم المتحدة، ينقصها ما تمتلكه الدول من أذرع وقدرات.
إن استخدام الطاقة النووية لأغراض إنتاج الطاقة الكهربائية أو لإجراء البحوث العلمية أو لإنتاج النظائر المشعة للاستفادة منها في الطب والصناعة وغير ذلك، والحصول على مفاعلات نووية لأجل ذلك، لا يتطلب بالضرورة امتلاك تقنية تخصيب اليورانيوم المثيرة للشكوك، فعدد الدول التي لديها مفاعلات نووية لهذا الغرض أو ذاك يربو على العشرات، ولكنَّ قلةً منها فقط تقوم بتخصيب اليورانيوم، وتتحمل عبء كلفته المادية الباهظة، وتتحمل ما يترتب على امتلاك هذه التقنيات من مسؤولية دولية سياسية وأخلاقية؛ إذ إن معظم هذه الدول تعمل على توفير حاجتها من الوقود النووي من مُجهِّزات عالمية سواء أكانت دولًا أو شركات.
قمم “الأمن النووي”
عُقدت أولى قمم “الأمن النووي” في العاصمة الأمريكية واشنطن في أبريل عام 2010، تبعتها قمتان في العاصمة الكورية الجنوبية سيؤول عام 2012 وفي لاهاي بهولندا عام 2014، وعادت القمة الرابعة مرة أخرى في العام 2016 إلى الولايات المتحدة. إذ دعا الرئيس الأمريكي باراك أوباما في قمة واشنطن 47 من رؤساء الحكومات والدول وثلاثة ممثلين عن المنظمات الدولية، وقد ورد في هذه القمة لأول مرة مصطلح “الإرهاب النووي” على لسان الرئيس الأمريكي في كلمته التي شدد فيها على ضرورة أن تبقى جميع الدول النووية، في أقصى درجات الحذر، لتحمي المواد الانشطارية من الوقوع في أيدي المتطرفين.
وقد شدد القادة في القمم هذه على وجود خطر إرهاب نووي حقيقي، وعلى حاجة المجتمع الدولي إلى نظام قانوني، من أجل تحقيق أمن فعال للمواد النووية، بغية حمايتها من الإرهابيين، وتوفير آلية قانونية يمكن من خلالها مقاضاة الدول التي تسمح بتسريب هذه المواد لمنظمات إرهابية أو تتقاعس في التزاماتها الأمنية. وقد ناقشت سلسلة القمم هذه الإجراءات التعاونية الدولية لحماية المواد والمنشآت النووية من الجماعات الإرهابية.
وقد ركزت القمم في اهتماماتها على اليورانيوم المخصب وخاصة عالي التخصيب، فشددت على ضرورة التخلص منه عندما يخرج من حيز الاستعمال، والحد من استخدامه ما أمكن ذلك، وتشجيع الأبحاث التي تهدف إلى استخدام اليورانيوم المنخفض التخصيب في المفاعلات النووية، لتعويض وقود اليورانيوم عالي التخصيب المستخدم فيها.
وقد حققت القمم الثلاث الأولى إنجازات كبيرة في مجال تقليل حظوظ المنظمات الإرهابية في الحصول على مواد نووية انشطارية لتنفيذ أخطر العمليات. وقد لخصت تلك الإنجازات دراسةٌ نشرتها صحيفة الشرق الأوسط اللندنية[7] في عددها 13636 الصادر في 29 مارس 2016، نقتبس أبرز فقرتين وردتا فيها:
” 1. التحول إلى استخدام اليورانيوم المنخفض التخصيب باعتباره وقودًا للمفاعلات ومراكز الأبحاث النووية بدلًا من اليورانيوم عالي التخصيب، في 15 دولة هي: بلغاريا، وكندا، وشيلي، والصين، وجمهورية التشيك، والمجر، والهند، وإندونيسيا، واليابان، وكازاخستان، وهولندا وبولندا، وروسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة.
تركيب معدات الكشف عن الإشعاع في 328 معبرًا حدوديًّا ومطارًا دوليًّا وميناء بحريًّا، لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمواد النووية”.
لنا أن نتوقف مليًّا عند المنجز الثاني لهذه القمم لنقول بأن هناك أخطر عنصر نووي يتمكن من العبور خلال هذه المنافذ، بالرغم من كل هذه الإجراءات الصارمة، وهو البولونيوم 210، وهو واحد من 33 نظيرًا لعنصر البولونيوم الذي اكتشفته ماري كوري الحائزة على جائزة نوبل مرتين، وهو العنصر الأكثر فتكًا عند دخوله جسم الكائن الحي. فهذا العنصر يشع جسيمات “ألفا” التي يمكن إيقافها بقطعة من الورق. فهو من هذا المنطلق يستطيع العبور، وهو في مظروف ورقي لا غير. إن سُمِّية هذا العنصر تزيد على سُمِّية سايانيد الهيدروجين مليون مرة (50 نانو غرام منه تعادل في تأثيرها 50 مليغرام من السايانيد[8]، والنانو غرام يساوي جزءًا واحدًا من ألف مليون جزء من الغرام، أما المليغرام فيساوي جزءًا واحدًا من ألف جزء من الغرام).
إن الحديث عن إمكانية تسرب المواد النووية ووقوعها في أيدي الإرهابين واحتمال استخدامها ضد إحدى الدول الغربية يستوجب بعض التوقف، لأنه يفتقر في الحقيقة إلى بعض الموضوعية، وفيه الكثير من المبالغة، وذلك لأسباب لوجستية وأخرى تقنية. فالمواد النووية التي تشكل فعلًا خطورة كبيرة في حال استخدامها سلاحًا هي المواد الانشطارية: اليورانيوم والبلوتونيوم، الأول صُنعت منه قنبلة هيروشيما، والثاني صُنعت منه قنبلة ناغازاكي.
يتوافر اليورانيوم بنظائره المشعة الثلاثة (اليورانيوم 238 واليورانيوم 235 واليورانيوم 236) في الصخور النارية، وفي القشرة الأرضية، في عدد من دول العالم أبرزها كندا وكازاخستان وأستراليا والنيجر وروسيا ونامبيا،. النظير الأول: اليورانيوم 238 له الغلبة الطاغية في الوجود الذي يزيد على 99 % من خامات اليورانيوم، في حين لا تتجاوز نسبة اليورانيوم 235 الذي يصنع منه الوقود سواء في المفاعلات النووية أو في الأسلحة النووية السبعة أجزاء في الألف جزء من خامات اليورانيوم. أما النظير الثالث (اليورانيوم 236) فليس له أهمية في سياق الموضوع الذي نحن بصدده.
إن الحصول على خامات اليورانيوم ليس بالمهمة الصعبة إلا أن الاستفادة منه في عملية إرهابية تتطلب تعزيز نسبة النظير المتفجر (اليورانيوم 235) ليصل إلى ما يقرب من 90% في عمليات تخصيب معقدة ومضنية ومكلفة لا تستطيع إلا بضعة دول في العالم القيام بها تحت إشراف دقيق من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أما إمكانية الحصول على وقود جاهز، وهو البلوتونيوم، فأمر شبه مستحيل تقريبًا؛ وذلك لأن عملية معالجة الوقود النووي المستعمل، والذي يحتوي على هذا العنصر لا تتوافر القدرات التقنية على إجرائها إلا لدى دول معدودة وسط إجراءات صارمة تُلزم من يستخدم قضبان الوقود النووي بإعادتها إلى الجهة المجهزة شرطًا لتزويده بقضبان وقود جديدة. والشركات التي تقوم بهذه المهام هي شركات مملوكة للدولة، مثلما هي الحال في فرنسا وبريطانيا والهند والصين وروسيا. وتواجه هذه الشركات صعوبات جمة في كيفية التخلص من هذه النفايات النووية، وخصوصًا أن العديد منها ذو عمر نصفي طويل (البلوتونيوم والسترونيتيوم والسيزيوم) مما يجعلها شديدة الخطورة لمدد زمنية طويلة، قد تبلغ آلاف السنين، مما يتطلب تخزينها في أماكن خاصة. ولو افترضنا حصول جهة ما على هذه المواد الانشطارية، فإنه من المتعذر عليها تصنيع سلاح نووي، والحصول على وسيلة إطلاقه لمسافات بعيدة، فذلك يتطلب خبرات علمية وتقنية متقدمة لا تتوافر إلا لدى العلماء المتخصصين، وليس ذلك بمتاح لدى مجموعة من المتعصبين المهووسين. إلا أنه من جانب آخر تبقى النفايات النووية مصدرًا للقلق الشديد، في حال وقوعها بأيدي الجماعات الإرهابية، وهذا الأمر ليس بمستحيل وخصوصًا أن الثغرات الواردة ليست بالقليلة.
الحقيقة أن الاهتمام بهذا الموضوع قد جاء متأخرًا بعض الشيء من جانب، وجاء بدوافع لا ترقى إلى مستوى مسؤوليات الدول العظمى الأخلاقية تجاه سائر دول العالم من جانب آخر. فالدوافع لعقد قمم الأمن النووي هو العمل على ضمان الأمن لبعض دول الغرب المستهدفة أمنيًّا فحسب، دون أن تأخذ بعين الاعتبار قضايا أخرى تتعلق بالبيئة وتتعلق بحقوق دول وشعوب أخرى.
فقمم الكبار لم تفتح حقًّا هذا الملف وتعالج جميع محتوياته بموضوعية تنصف من لحقت به وبأرضه ومياهه أضرار كبيرة على مدى عقود طويلة من السنين. فقد قامت الشركات الغربية ذات العلاقة بالنفايات النووية بدفن بعض هذه النفايات في عدد من الدول الآسيوية والأفريقية سواء بعلم المسؤولين في هذه الدول أو بعلم وموافقة بعض الجهات المتنفذة الفاسدة فيها لقاء مكاسب معينة سياسية أو مالية[9]. فقد دفنت فرنسا في الصحراء الجزائرية بين الأعوام 1960 – 1966 نفايات 17 تفجيرًا نوويًّا[10].
ودُفنت في المياه الإقليمية الصومالية في تسعينيات القرن المنصرم[11] نفايات نووية قادمة من بلدان أوروبية نجم عنها تلوث هذه المياه ونفوق آلاف الأسماك والحيوانات البحرية. وقد افتُضح هذا الأمر حين بدأت حاويات النفايات المدفونة في الساحل الصومالي بالظهور بعد إعصار تسونامي الذي وقع في ديسمبر 2004.
كما أصبح البحر الأيرلندي مكبًّا للنفايات النووية[12] بسبب قيام كل من بريطانيا وفرنسا بدفن نفاياتها النووية فيه. فمن المعروف أن كلفة التخلص من الطن الواحد من هذه النفايات بهذه الطريقة غير المسؤولة لا يزيد عن دولارين ونصف الدولار في حين تبلغ الكلفة في حالة التعامل العلمي مع هذه النفايات ما يقرب من ألف دولار للطن الواحد. وقد عمدت بعض الحكومات الغربية إلى تجاوز قوانينها الخاصة، فعلى سبيل المثال، دفنت فرنسا على مدى 25 سنة، بدءًا من العام 1969 حتى عام 1994 في مكب سولاين، الذي يعدُّ أكبر موقع في العالم لحفظ النفايات النووية، والواقع قرب حدودها الشرقية، النفايات الناتجة عن الوقود النووي المستخدم في دول أوروبية عدة، هذا في الوقت الذي تنص فيه القوانين الفرنسية على منع دفن أي نفاية أجنبية في أراضي فرنسا.
ولعله من الضروري أن نشير، في سياق مناقشة أهداف قمة واشنطن والقمم الأخرى التي تلتها، إلى أن المبادئ التي وضعت في اجتماعاتها لم تَلْقَ الصدى المناسب على مستوى التنفيذ، فمواقع التخلص من النفايات النووية لا تتمتع بما يكفي من الضوابط التي تحول دون وقوعها في أيدي الجماعات الإرهابية من جهة، ولا تتمتع كذلك بالضوابط التي تحول دون تسببها في أضرار بيئية واقتصادية من جهة أخرى. فقد بدأت النفايات النووية المخزنة في أحد مكبات النفايات في فرنسا تتفاعل مع البيئة المحيطة بها بطريقة أصبحت تهدد سمعة أحد أبرز ما تشتهر به فرنسا، وهو مشروبها الذي يعرفه العالم “الشمبانيا”. فقد أعلنت حركة السلم الأخضر في فرنسا منذ عام 2006 استنادًا إلى قياسات أجريت من قبل جهات متخصصة، أن مواد مشعة من مكب النفايات هذا، بدأت تتسرب إلى المياه الجوفية في مواقع لا تبعد أكثر من 10 كيلومترات عن مزارع العنب الذي يُصنع منه هذا المشروب.
الحرب في أوكرانيا
لم تكن الفوارق الأيديولوجية بين الاتحاد السوفيتي والغرب هي التي أشعلت الحرب الباردة وأدامتها لما يزيد على النصف قرن وأشعلت سباق التسلح خلالها. فسقوط الاتحاد السوفيتي قد خفف إلى حد كبير منها، ولكن إلى حين، فقد بدأنا نشهد التوترات الدولية منذ العام 2014 حين احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها إليها، في رفضٍ واستنكارٍ دوليين لهذه الخطوة، وها نحن نشهد، منذ ما يقرب السنة، تداعيات ذلك في إعلان الحرب على أوكرانيا لضم المزيد من أراضيها إلى روسيا. ومن بين المناطق التي احتلتها موسكو منطقة تقع فيها أكبر محطة نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية في أوروبا، وهي محطة زابوريجيا التي تضم ستة مفاعلات نووية بطاقة إنتاجية كلية تبلغ 5700 ميغاواط، وهي تنتج ضعف ما كانت محطة تشرنوبل تنتجه. وقد أعلنت الشركة المشغلة للمحطة أن أجزاء منها “تضررت بشكل خطير” من الضربات العسكرية، أدت إلى إغلاق أحد مفاعلاتها مما دفع دولًا عدة إلى تبني الدعوة إلى منطقة منزوعة السلاح تحيط بالمحطة[13].
ثمة مخاطر جدية من توسع المواجهة غير المباشرة بين روسيا والناتو في الحرب الأوكرانية والقلق من تحولها تدريجيًّا إلى مواجهة مباشرة، فالصراع المسلح بين قوى نووية يمكن أن يتحول إلى صراع نووي. وتشهد الحرب تصعيدًا، فالولايات المتحدة تستمر في رفع السقف النوعي للسلاح الذي تقدمه لأوكرانيا مما يزيد من حدة الأزمة، ويُضعف فرص التهدئة. ويرى باحثون من معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام بأن خطر حدوث تصعيد نووي[14] هو الآن في أعلى مستوياته منذ انتهاء الحرب الباردة، ويتوقعون أن عدد الأسلحة النووية في العالم سيرتفع في العقد المقبل، بعد ما يزيد على الثلاثين سنة من التراجع.
الوكالة الدولية تؤكد حرصها
لم تنفك الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ تأسيسها منذ ما يقرب من الستة عقود، مثلما أسلفنا الإشارة، عن تأكيد التزامها بمبدأ “الأمن النووي”، فعملت وما تزال تعمل على إحكام قبضتها على هذا الملف عبر تشريع الاتفاقيات التي تشترط التبليغ المبكر عن وقوع أي حادث نووي أو تقديم المساعدة الفورية، في حالة حدوثه أو الاستعداد لأي حادث طارئ من هذا النوع بتزويد الجديد الذي يعزز من فاعلية الأجهزة المسؤولة عن تحقيق هذا الأمن في مختلف المؤسسات. فقد كانت وما تزال حريصة على توظيف أحدث الأساليب وأفضل نظم التعامل المعلوماتي لرفد ذلك، وها نحن نلاحظ أنها أكدت ذلك في مؤتمرها السادس والستين[15]الذي عقد في فيينا في 22 سبتمبر 2022.
خلاصة
مع البدايات الأولى للقرن العشرين، وجدت النخب العلمية في أوروبا نفسها في مواجهة حقائق علمية تتعلق بالبنية الأساسية للمادة، وخصوصًا ما تعلق منها بالنشاط النووي الإشعاعي، وهي حقائق لم تواجهها من قبل، تتجاوز في أهميتها وخطورتها جدران المختبرات العلمية. وقد ترتبت على ذلك نقلةٌ نوعيةٌ في الأسس الفكرية والفلسفية لهذه النخب وتحولٌ تدريجيٌّ في السياسات الأمنية للدول، وصل إلى مستوى عقد قمم دولية لمقاربتها ضمانًا لما يعرف بـ”الأمن النووي” على مستوى الأفراد والمجتمعات. وقد حققت هذه القمم الكثير مما يضمن الأمن والأمان النووي على مستوى الأفراد والمؤسسات، وقللت كثيرًا من فرص سيطرة الحركات الإرهابية على المواد النووية واستخدامها في الترويع والابتزاز.
|