المناظرة الرئاسية الأولى بين جو بايدن وترامب.. القضايا والتداعيات
شكلت المناظرة الرئاسية الأولى التي استضافتها شبكة “سي إن إن” في 27 يونيو 2024، مواجهة تاريخية بين الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب. وغطت المناقشة، التي أدارها جيك تابر ودانا باش، مجموعة واسعة من المواضيع بما في ذلك الإجهاض والهجرة والسياسة الخارجية والتضخم.
وقد وُصِفَت المناظرة بأنها “الأكثر مصيرية” في تاريخ الولايات المتحدة، حيث تعد الأولى من نوعها التي تجمع بين رئيس حالي ورئيس سابق، وذلك قبل انعقاد المؤتمرات الوطنية للحزبين الجمهوري والديمقراطي للموافقة على مرشحَيْ الحزبين رسميًّا.
وقد عقدت المناظرة في وقت كان فيه السباق الانتخابي يشهد تقاربًا شديدًا بين بايدن وترامب في معظم استطلاعات الرأي، ووسط معاناة العديد من الأمريكيين من التضخم وارتفاع الأسعار مما يصعب عليهم توفير احتياجاتهم الأساسية، بالإضافة إلى الجدل المحتدم حول حقوق الإجهاض والهجرة وقضايا السياسة الخارجية.
كانت الرهانات على هذه المناظرة كبيرة جدًا، حيث يمكن أن تكون فرصة لتعزيز مواقف المرشحَيْن أو تقويضها، خاصة في ظل التغطية الإعلامية المكثفة لها. وقد سعى بايدن لإظهار نفسه كرئيس حيوي وقوي، ولاسيما مع تزايد المخاوف بشأن تقدمه في العمر وقدراته العقلية والصحية لحكم القوة العظمى في العالم لفترة رئاسية ثانية.
فيما حاول ترامب تجنب التصرفات التي قد تعزز الصورة التي يحاول بايدن تقديمها عنه كرئيس غير مستقر وغير ملائم لقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
مناظرة تاريخية شكلًا لا مضمونًا
تابع ما يقرب من 48 مليون مشاهد تلفزيوني المناظرة، وفقًا لبيانات أولية من شركة نيلسن. وتقل نسبة المشاهدة هذه بنحو الثلث عن 73 مليونًا شاهدوا مناظرتهما الأولى في عام 2020، مما قد يعكس انخفاض حماس الناخبين لكلا المرشحَيْن.
وقد تميزت المناظرة بتنسيق جديد لشبكة CNN، سمح للمرشحَيْن بدقيقتين للإجابات ودقيقة واحدة للدحض، مع كتم صوت الميكروفونات إذا تجاوزوا هذه الحدود، وذلك بهدف فرض الانضباط على المرشحَيْن.
والجدير بالذكر أن المناظرة لم يكن بها جمهور مباشر، ولم يقم المشرفان دانا باش وجيك تابر بالتحقق من الحقائق في الوقت الفعلي. وتمت الإشادة بتنسيق المناظرة، بما في ذلك زر كتم الصوت؛ لأنه سمح للمشاهدين بسماع المرشحَيْن بشكل أكثر وضوحًا، كما أن غياب الجمهور سمح برؤية أوضح لشخصية كل مرشح.
ضعف بايدن مقابل اتزان ترامب
ربما يكون أبرز ما ميز هذه المناظرة أنها عززت الشكوك بشأن قدرات بايدن الصحية والمعرفية. فقبل المناظرة، أعرب العديد من الأمريكيين عن مخاوفهم بشأن عمر جو بايدن وملاءمته للمنصب. وكان يُنتظَر أن يبدد بايدن هذه المخاوف ولكن ما حصل في المناظرة كان النقيض تمامًا. فقد دخل الرئيس إلى المناظرة بحدود منخفضة، لكنه تعثر، وكان غير واضح في ردوده. وفي منتصف المناظرة تقريبًا، قالت حملة بايدن إن الرئيس كان يعاني نزلة برد، في محاولة لتفسير صوته الخشن.
وقد يكون الأمر كذلك، لكنه بدا أيضًا وكأنه عذر. والحقيقة أن بعض إجاباته في أغلب الأحيان كانت غير منطقية، ووجد صعوبة في التعبير عن أفكاره بوضوح؛ ما أثار مزيدًا من المخاوف بشأن عمره وقدرته على القيادة، ومن ثم لم يبدد أداؤه بشكل فعال الشكوك حول قدرته على الاستمرار في الخدمة لولاية رئاسية أخرى، على الرغم من الجهود المبذولة لتسليط الضوء على إنجازات إدارته.
بالمقابل كان ترامب منضبطًا نسبيًّا في هجماته على بايدن، متجنبًا المقاطعات المتكررة والسلوك العدواني، الذي ميز أداءه في مناظرة 2020. وبدلًا من ذلك، كان يهدف إلى إظهار سلوك أكثر هدوءًا أثناء انتقاد سياسات بايدن. ومع ذلك قدم مرارًا وتكرارًا تأكيدات لم تكن مدعومة بالحقائق، لكن بايدن لم يتمكن إلى حد كبير من الرد عليها. وعندما تحول الموضوع إلى الإجهاض، على سبيل المثال، حوَّل الرئيس السابق الانتباه مرارًا وتكرارًا إلى ما قال إنه “تطرف ديمقراطي”، حيث ادعى، بشكل غير صحيح، أن الديمقراطيين يدعمون عمليات الإجهاض بعد ولادة الأطفال. فالإجهاض يعد نقطة ضعف بالنسبة لترامب والجمهوريين بشكل عام، منذ أن أسقطت المحكمة العليا قضية رو ضد وايد – التي كانت تحمي الحق الدستوري في الإجهاض – في عام 2022. لكن بايدن لم يكن موفقًا في إظهار قوة الديمقراطيين في هذه القضية.
وقد شهدت المناظرةُ هجمات شخصية وتبادُلًا للاتهامات، حيث سلط بايدن الضوء على إدانات ترامب الجنائية وتحدث ترامب عن نجل بايدن، هانتر. كما اتهم بايدن ترامب بإقامة علاقة غرامية مع ستورمي دانييلز، وهو ما نفاه ترامب.
رؤيتان متعارضتان
قدم المرشحان خلال المناظرة رؤيتين مختلفتين للقضايا والتحديدات الأمريكية الداخلية والخارجية، ومن بينها:
الاقتصاد:
ألقى كلا المرشحَيْن باللوم على الوباء في التحديات الاقتصادية. واتهم بايدن ترامب بسوء التعامل مع الاستجابة الأولية لكوفيد-19، بينما ادعى ترامب أن إدارته كانت تتمتع بأكبر اقتصاد قبل تفشي الوباء. وناقش المرشحان خططهما لتعزيز الاقتصاد الأمريكي، حيث أكد بايدن على نجاحاته في خفض معدلات البطالة وزيادة النمو الاقتصادي، ودافع عن سياساته الاقتصادية التي تهدف إلى تعزيز الطبقة الوسطى وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية. بينما انتقده ترامب بسبب التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، مقدمًا وعودًا بإعادة الصناعة الأمريكية وتحقيق الاستقلال الاقتصادي.
الاجهاض:
كافح بايدن لتوضيح موقفه بشأن الإجهاض، في حين أيد ترامب قرار المحكمة العليا بشأن حبوب الإجهاض وأكد موقفه المتمثل في ضرورة ترك تنظيم الإجهاض للولايات.
الهجرة:
حاول بايدن الدفاع عن سجله في مجال أمن الحدود لكنه تراجع في كثير من الأحيان، بينما انتقد ترامب سياسات الهجرة التي ينتهجها بايدن وربطها بالجريمة وفقدان الوظائف للأمريكيين.
نداء ترامب للناخبين من الأقليات:
بذل ترامب جهودًا لجذب الناخبين السود واللاتينيين، وانتقد بايدن بسبب سياسات التضخم والهجرة التي ادعى أنها أضرت بهذه المجتمعات. كما روج لسجله الخاص في إصلاح العدالة الجنائية ومناطق الفرص.
السياسة الخارجية:
في قضايا السياسة الخارجية وجه الرئيس الأمريكي السابق خلال المناظرة الانتخابية انتقادات متعددة لتعامل الرئيس جو بايدن مع الأزمات الدولية، حيث حاول أن يُظهِر أن ضعفه وعدم احترام قادة الدول له هو سبب العديد من الأزمات الدولية، ولاسيما بعد عملية الانسحاب الأمريكي الفوضوية من أفغانستان في أغسطس 2021. وفي المقابل دافع بايدن عن قراراته بخصوص الانسحاب من أفغانستان والتعامل مع الصين وروسيا، بينما اتهمه ترامب بالضعف وعدم القدرة على حماية المصالح الأمريكية على الساحة الدولية، وتهديد القيادة الأمريكية للنظام الدولي.
بالمقابل أكد بايدن على الدعم المستمر لأوكرانيا وحلف شمال الأطلسي، في حين انتقد ترامب تعامل بايدن مع القضايا العالمية، بما في ذلك الانسحاب من أفغانستان والرد على الصراع بين إسرائيل وغزة.
ردود الفعل على أداء المرشحَيْن
أثار أداء الرئيس الأمريكي في المناظرة الانتخابية ردود فعل واسعة من الديمقراطيين، الذين أبدى بعضهم استياءه من أداء بايدن الضعيف خلال المناظرة، بدلًا من تهدئتهم. وقد دفع أداء بايدن خلال المناظرة أحد الاستراتيجيين الديمقراطيين الذين عملوا في حملة بايدن لعام 2020 إلى وصف المناظرة بـ “الكارثة”. وقد كان بايدن يفتقر إلى الطاقة التي تمتع بها خلال خطابه عن حالة الاتحاد أمام جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) في مارس الفائت، وهو ما أعطى الديمقراطيين بعض التفاؤل بشأن قوة حملته. وقد أعاد أداء بايدن خلال المناظرة بعض التساؤلات حول ما إذا كان ينبغي أن يظل مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية أم لا، خاصة مع تقدم عمره، وتزايد الشكوك بين الديمقراطيين في أعقاب المناظرة حول قدرة الرئيس الحالي على قيادة حملة انتخابية قوية وتنافسية قبل أربعة أشهر من الانتخابات الرئاسية.
لم ينجح بايدن في تهدئة مخاوف الناخبين بشأن عمره، حيث تأخر في الإجابة عن بعض الأسئلة، كما توتر في أحيان أخرى، ولم يستطع الدفاع بقوة عن الملفات التي يحقق فيها الحزب الديمقراطي تقدمًا؛ مثل الحق في الإجهاض، والرعاية الطبية. كما أن نبرة صوته كانت أكثر هدوءًا مقارنة بترامب، لكنها نبرة توحي بالضعف أكثر منها بالثقة، حتى أن ترامب سخر منه قائلًا إنه لم يستطع سماع ما يقوله بايدن.
ومع ذلك، فقد حرص عدد من الديمقراطيين على دعم ومساندة بايدن، وعلى رأسهم نائبة الرئيس كامالا هاريس، التي أفادت بأنه “على الأمريكيين التركيز على ما أنجزه الرئيس جو بايدن للبلاد خلال فترة وجوده في منصبه، وليس على أدائه على مسرح المناظرة”.
وفي المقابل ظهر المرشح الجمهوري واثقًا وقويًا، واستغل المناظرة لإطلاق سيل من الهجمات والمزاعم “الكاذبة” دون مقاومة كبيرة من بايدن، ولتعزيز موقفه أنه يعد أفضل خيار لرئاسة البلاد. وقد لقي أداؤه رضا الجمهوريين، الذين رأوا أنه أثبت استحقاقه للفوز بالمنصب من جديد.
استطلاعات الرأي بعد المناظرة
كشفت استطلاعات الرأي للناخبين الأمريكيين الذين شاهدوا المناظرة الرئاسية الأولى عن تفوق الرئيس السابق دونالد ترامب على الرئيس جو بايدن، حيث كشف استطلاع لقناة سي إن إن عن أن 67% من المستطلَعين يرون أن أداء بايدن كان أفضل، مقابل 33% لصالح بايدن، وهي النسبة التي بلغت قبل المناظرة 55% لصالح ترامب، و45% لصالح بايدن. وكشفت نتائج الاستطلاع أن 57% من مشاهدي المناظرة ليس لديهم ثقة حقيقية بقدرة بايدن على قيادة البلاد، فيما قال 44% أنهم ليس لديهم ثقة حقيقية بقدرة ترامب على القيام بذلك. ولم تتغير هذه الأرقام فعليًّا عن الاستطلاع الذي تم إجراؤه قبل المناظرة، حيث قال 55% من هؤلاء الناخبين إنهم لا يثقون ببايدن، و47% إنهم لا يثقون بترامب.
وقد أظهرت نتائج عدد من استطلاعات الرأي الأخرى تقدم ترامب قبل وبعد المناظرة؛ فبحسب استطلاع أجرته Polymarket أكد 65% أن أداء المرشح الجمهوري كان أفضل، وذلك ارتفاعًا من 59% قبل إجراء المناظرة، فيما قال 23% فقط إن أداء المرشح الديمقراطي كان أفضل، وذلك انخفاضًا من نسبة 34% قبل إجراء المناظرة. كما كشف استطلاع Cspan، أيضًا فوز ترامب في المناظرة بنسبة 69%، مقابل 19% لبايدن.
وقد انعكست نتائج تلك الاستطلاعات في تغريدات الأمريكيين على موقع إكس؛ فبتحليل عينة مكونة من 3000 تغريدة وإعادة تغريد وردٍ، مما تحدثت حول الفائز في المناظرة، لوحظ تقدم ترامب بنسبة 78.6%، مقابل 21.4% لصالح بايدن.
خلاصة القول:
على الرغم من الأداء المتواضع للرئيس الأمريكي جو بايدن في المناظرة الرئاسية الأولى، وعدم تقديم الرئيس السابق جديدًا بشأن مواقفه من قضايا الداخل الأمريكي، فإنها قد لا تكون حاسمة في تحديد مواقف الناخبين لمن سيصوتون في الانتخابات الرئاسية القادمة، حيث لايزال هناك ما يقرب من أربعة أشهر على موعد الانتخابات الرئاسية المقرر لها في الخامس من نوفمبر المقبل، ومناظرة انتخابية أخرى يُتَوَّقع أن تكون في سبتمبر القادم، والتي ستمكن المرشحَيْن من تدارك ضعفهما في المناظرة الأولى، ناهيك عن احتمالات حدوث تطورات داخلية أو خارجية قد تكون لها تأثيرات كبيرة على السباق الانتخابي الأمريكي خلال الأشهر القادمة.
|