إلى أي مدى أثرت وفاة أمير أمراء الكرد إبراهيم باشا المللي عام ١٩٠٨م وانحسار الدور السياسي للإتحاد المللي على مصير مسيحيي بيث نهرين ؟
للإجابة على سؤال البحث لابد لنا من توضيح الإطار التاريخي لتلك المرحلة ووصف الأوضاع التي كانت سائدة حينها.
ثالثاً : مدخل تاريخي
أ- أوضاع السلطنة العثمانية:
وصلت السلطنة العثمانية في القرن السابع عشر الميلادي إلى ذروة تفوقها العسكري والإقتصادي ، وكانت تحكم مناطق شاسعة من شمال إفريقيا وجنوب شرق أوروبا والشرق الاوسط.
وبرغم إحتفاظها بقوتها في القرن الثامن عشر الميلادي ، إلاَّ أنها خاضت حروباً مهمة أدت إلى تراجع نفوذها، وبحلول القرن التاسع عشر الميلادي كان التراجع واضحاً، وشهدت السلطنة العثمانية تدهوراً في الإدارة، وتحولات إجتماعية وإقتصادية وسياسية أدت إلى تراجع قوتها، وبدأت تخسر العديد من المناطق التي كانت تحت سيطرتها، وبدأت الحركات الوطنية في مختلف الأقاليم تنادي بالإستقلال عن السلطنة العثمانية.
وأدت هذه التحديات الكبيرة إلى إنهيار السلطة تدريجياً إلى حد إنهاء السلطنة العثمانية رسمياً بعام ١٩٢٢م, وتأسيس جمهورية تركيا في عام ١٩٢٣م بقيادة مصطفى كمال أتاتورك.
ب- أوضاع منطقة بيث نهرين :
تعرضت منطقة (بيث نهرين) للخراب نتيجة إجتياحها من قبل جحافل هولاكو في عام ١٢٢٨م، ثم جحافل تيمورلنك بين عامي ١٣٩٤ و١٤٠١م . وكان إقليم الجزيرة الفراتية ، وهو الإقليم الذي قسمه الجغرافيون العرب إلى ( ديار بكر ، ديار ربيعة ، ديار مُضر) ، أحد أبرز الأقاليم التي تعرضت للخراب بشكل شبه كامل، واقتصرت فيه المناطق شبه الحضرية على بقاع محددة جداً .
وبقي هذا الإقليم على هذه الحالة من الخراب حتى عام ١٦٩٦م، عندما حاولت السلطنة العثمانية إعماره، بقصد تأمين مصادر دخل تعوض خسائرها الحربية، من خلال تطبيق برنامج الإعمار العثماني الأول الذي كان يهدف إلى توطين العشائر الرُّحل ، ولكنه باء بالفشل. ولكن السلطنة أعادت الكرة بعد عدة عقود، وحاولت إعمار إقليم الجزيرة معتمدة على الإتحاد المللي المتجذر بالمنطقة منذ القديم .
وكانت هذه المنطقة قد أصبحت (إضافةً للسريان والأرمن) موطناً للعديد من العشائر العربية والكردية والإيزيدية والتركمانية والقفقاسيون الشماليون (الشيشان) الذين وصلوها تباعاً بدايةً من عام 1882م.
ولضرورات البحث سأتحدث بإختصار عن بعض القبائل التي كانت منافساً رئيسياً للمللية .
ج- التعريف ببعض قبائل المنطقة :
1.قبيلة طيء : طيء الحاضرة هي في الغالب متحدرة من قبيلة طيء القحطانية القديمة. أما المستشرق الفرنسي مونتاني فيقول أنهم يمتون بصلة النسب لبعضهم فقط، وقد جاءت طيء الحاضرة إلى الجزيرة الفراتية من نجد في القرن الثامن عشر الميلادي، وفرضت سيطرتها على العشائر القديمة، ثم أزاحتها شمّر إلى منازلها الحالية حول نصيبين.
2.قبيلة شمّر : هاجرت شمّر الجرباء من منطقة نجد، وأقامت في منطقة الجزيرة، ووصلت إلى جبل سنجار شتاء ١٨٠٢ / ١٨٠٣م. وقد أرغمت عشائر المنطقة على مغادرة مواطنها التقليدية . وفي سنة ١٨٢٣م توسع نفوذ شمّر واصطدمت مراراً مع قبيلة العنزة . إنَّ أقوى التحديات في الجزيرة لتفوق شمّر بصرف النظر عن العداء التاريخي مع عشيرة العنزة قد أتى من الملليين.
3.قبيلة العنزة: تنتمي إلى أقدم القبائل العربية العدنانية، موطنهم الأصلي أواسط نجد وشمالي الحجاز منهم آل سعود وآل الصُباح وآل خليفة، وقد وصلت العنزة إلى الفرات عام ١٧٠٥م وأبرز عشائرها: الحسنة، والفدعان، والولد علي، والسبعة، والعمارات، والرولة .
رابعاً : الإتحاد المللي
أ - تاريخه :
المعلومات المتوفرة حول (قبيلة ملاّن الكردية) نواة الإتحاد المللي قليلة جداً ، وقد جاء بالموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية بأنه : " في سنة ستة وخمسين وخمسمائة - المعادلة لحوالي سنة ١١٦١م – وثب الكرد المللية على قلعة شاتان وملكوها وانصرف عنها الأمير درباس الجوبي ...". كما أن الأمير محمد المللي كان أمير سنجق الخابور، وقد ثار على العثمانيين عام ١٥٩٨م.
وموطن المللين الأصلي بلاد الرافدين منذ القديم، ولكنهم في القرن الحادي عشر الميلادي، رحلوا باتجاه منطقة (وان) لأن سلاطين السلاجقة كانوا يودونهم ، ومنحوهم (إقطاعية) بتلك المنطقة ، لكنهم تركوها وعادوا إلى موطنهم الأصلي في الجزيرة الفراتية.
ويقول محمد جمال باروت بأن العشيرة الكردية الرئيسية هي عشيرة ميلان التي تحولت في هذه الفترة الى الإتحاد المللي . وفي عام ١٧٠١م أسكنت الحكومة الملليين في ديار بكر، ثم أسكنتهم منذ عام ١٧١١م في الرقة… وكان هذا الإتحاد مركب الهوية، وهذا ما تحمله الدلالة الفيلولوجية لإسم (المللية) التي تعني (هزار ملت أي ألف ملة).
والمللية قسمان (ملية الخضر) وعددهم قليل ومساكنهم غرب وجنوب مدينة عامودا، ومللية (الباشات) ومساكنهم كانت ضمن منطقة واسعة تمتد من ديار بكر إلى ماردين والرقة وحلب والموصل ، وهم موضوع هذا البحث.
وإبتداءً من القرن الثامن عشر الميلادي هيمنت المللية على شمال سوريا بالكامل. وحكمت ماردين وراثياً منذ عام 1735م ، وكان امراءها يعرفون بلقب (سلطان البر).
ب- بعض رجالاته :
1. تيمور باشا المللي
استلم زعامة الإتحاد المللي بعد إعدام والده محمود بك بسبب الثورة التي قام بها ، وقد اشتهر بشجاعته وكرمه الشديدين وخضعت له العديد من القبائل الكردية والعربية في ولاية ديار بكر ووان وبادية الجزيرة وحلب ، وكان يدير الأمور من قلعته في ماردين قلعة (موك). وجهز جيشه تجهيزاً حسناً فاشتهر في مدة زمنية قليلة وهابه واليا حلب وديار بكر. وبقي لسنوات طويلة يحكم المنطقة ، وسيطر على جميع المراكز الواقعة ضمن إيالات حلب ودياربكر والرقة.
وقد جاء بتاريخ مدينة ماردين مايلي : " فعند ذلك أرسل حسين السركجي إلى سلطان البر تيمور باشا الملي يتوقع عنده بأن يمنع عنه هذه العساكر ...... وكان تيمور باشا نافذ الكلم عند الوزراء وسائر الحكام ؛ لكونه من أهل الشوكة والعظمة".
وبسبب جبروته وخروجه عن سيطرة الأستانة ، تم إعداد جيش جرار لم يستطيع الصمود أمامه، فسارع للتخلي عن (قلعة موك) في ماردين لأعدائه وتوجه نحو ولاية حلب، فقام الجيش العثماني بصب جام غضبه على العشائر الكردية وخاصة المللية، وأزاح حاكم ماردين من منصبه وقتل عدداً كبيراً من وجهاء المللية، وأصبحت ماردين بدون حماية يسود فيها القتل والسلب والنهب، وبقي تيمور باشا طليقاً في الخارج لمدة ثلاث سنوات .
وفي عام ١٧٩٤م ذهب تيمور باشا إلى بغداد بناءً على دعوة رسمية من واليها بعد أن تم الصفح عنه ، ليصبح بعدها والياً على الرقة عام ١٨٠٠م ولكثرة أعدائه لم يستطع القيام بأعباء هذا المنصب ، فتم نقله إلى سيواس وأصبح والياً عليها عام ١٨٠٣م .
وللعلم لم يكن يتقاضى الضريبة من الحجاج الذين كانوا يمرون بمنطقته ، كما نافس زعامة دياربكر الحضرية ، واصطدم بأهلها عدة مرات وقبل وفاته لجأ تيمور باشا إلى مقاطعة الخابور، وبدأ ببناء تحالف جديد من القبائل لمساعدته على استعادة منصبه ، ولكنه توفي بعد ذلك بوقت قصير.
٢- أيوب بك بن تيمور باشا
دامت رئاسته حوالي أربعين عاماً أمضاها بإستقلالية ذاتية، وكان مشهوراً بجوده، وقال عنه الأب جوزيف وولف الذي زار مناطق المللية عام ١٨٢٣م ما يلي : " لدى أيوب ثمانون ألف عائلة كردية وعربية تحت إمرته، إنه أقوى شخص في البادية وكامل البلاد المحيطة به ترتجف خوفاً من إسمه ، كما أن المسيحيين واليهود يثنون بشكل كبير على نزاهته وعدالته… ".
وقد وصفه الكثيرون، ومنهم السير باكنغهام الذي زاره عام ١٨١٦م وقال عنه: " إن أيوب رجل قوي للغاية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى ".
لقد فرض أيوب بك سلطته على مناطق شاسعة جداً تمتد من بحيرة بنغول إلى سنجار، كما وصلت إلى مدينة حماة السورية عام ١٨١٨م. وكان حكمه للمنطقة المذكورة بشكل مستقل غير عابيء بأوامر السلطة الحكومية العثمانية .
ويقول ستيفان وينتر بأنه : " كان … آخر حصن ضد أشرس هجمة لتحالف الغزو البدوي الوهابي بإتجاه الشمال".
وقد تعاون أيوب بك مع جيش محمد علي باشا (المصري)، وقاتل معهم ضد القوات العثمانية .
وكان دعم المللية للمصريين بارزاً في معركة حمص ، إلاَّ أن هذا الوفاق لم يستمر، وبرغم تحويل أيوب بك ولاءه للعثمانيين، إلا أنهم عندما استعادوا السيطرة على الضفة الشرقية للفرات عام ١٨٣٤م، شنوا حملة شعواء على المللية، ولاحقوا وسجنوا زعماءها، واستولى أعدائهم القدامى على أراضيهم في الجزيرة الفراتية وخاصة قبيلة شمّر التي أصبحت سيدة الجزيرة، وبعد وفاة أيوب بك في سجن قلعة ديار بكر، إنتقلت رئاسة المللية إلى إبن أخيه تيماوي بك.
٣- تيماوي بك
كانت المدة التي قاد بها تيماوي بك الإتحاد المللي قصيرة ، إلاَّ أنها كانت مليئة بالأحداث التي عبّرت عن رغبته في مقاومة الهيمنة العثمانية الى حد التخلص من سلطتها فتابع التعاون مع المصريين وأفسح المجال لقواتهم للدخول الى بعض المناطق الكردية ، وقدم لهم الطعام والمواشي والإمدادات اللوجستية، وسعى إلى تكريس العلاقة الدبلوماسية مع حكام مصر الذين ساعدوا المللية لاحقاً ، وأدى توسطهم لدى السلطان العثماني الى العفو عن قياداتهم الذين كانوا معتقلين لدى السلطة العثمانية، وإعادة دورهم السياسي لهم من جديد.
أما بالنسبة لنهايته فقد قُتل بإحدى المعارك مع العثمانيين حوالي عام ١٨٤٠م، ودفن في قرية الهيشري التابعة لماردين. ونظراً لفقدان المللية زعيمها، نزلت بها المصائب والويلات فقد أغارت عليها عشيرتا شمّر وطيء وإستولتا على الكثير من أراضيها.
٤- محمود بك المعروف معمو بك
أصبح رئيساً للملليين بعد انسحاب إبراهيم باشا المصري من بلاد الأناضول.
وبعد أن تابع إعمار مدينة (ويرانشهر) جدد قلعتها وجمع جيشاً كبيراً من العشائر العربية والكردية، وساعده والي دمشق الذي وضع بعض القوات العسكرية بتصرفه، فأخذ يستعيد القرى والمناطق التي سيطرت عليها قبيلتا شّمر وطيء، وإثر نزاع بينه وبين والي ديار بكر قبض عليه الوالي وزجه في السجن لمدة طويلة ، ثم عفى عنه السلطان العثماني عبد العزيز بشفاعة خديوي مصر نتيجة متابعة إبنه إبراهيم الحثيثة.
وبعد إطلاق سراحه توفي بعام ١٨٧٨م بسبب مرضه ودُفن بمقبرة الشيخ جاكير بحلب وخلفه إبنه إبراهيم.
٥- إبراهيم باشا المللي
ولد حوالي عام ١٨٤٥م وترعرع في ويرانشهر، وتزوج من خنسة باشا وهي كردية من عشيرة خلجان المللية من عائلة الداوود، كما تزوج من شمسة باشا وهي عربية من قبيلة (جيس) من بيت العثمان، وقد قابله الكثير من الرحالة والسفراء والقناصل الأجانب وكتبوا عنه ، ومنهم اوبنهايم الذي قال: "ينحدر إبراهيم باشا من سلالة قديمة من الأمراء البدو الذين غزوا ممالك وأسسوا سلالات ملكية…" ، إلاَّ أن وصف السير مارك سايكس له يبقى الأكثر تميزاً حيث قال:
" كان إبراهيم باشا شخصية عجيبة حقاً، فكان بلا شك قائداً طبيعياً للرجال يمتاز بقدرة عجيبة على ضبط النفس كما هي صفات أولئك الرجال الذين اختبروا الجوانب الأكثر قسوة وإضطراباً في الحياة ".
ويتابع مارك سايكس القول: " ….. وافصح الباشا خلال الحديث عن معرفة مدهشة ودقيقة بشؤون وأحداث أوروبا…. وكان الناس الذين يحيطون به ينتمون إلى شتى العناصر والمذاهب…. انخرط إبراهيم مع رؤساء كرد آخرين في سلك قوات الحميدية ، ورفعت رتبته إلى مير ميران وأعطي لقب الباشا بعد قيامه بزيارة إلى استنبول بعد هذا اخذت سياسته تأخذ طابعاً أكثر جرأة فبدأ يقاوم البدو ويشجع النصارى على النزوح إلى ضواحي ويرانشهر… وفي الوقت الذي كان رؤساء قبائل أخرى منهمكين في نهب وقتل الأرمن كان إبراهيم باشا يحمي المسيحيين من كل النحل والمذاهب.
وقد قُدر أثناء المذابح التي ذهب الأرمن ضحيتها، بأن إبراهيم أنقذ عشرة آلاف أرمني من الهلاك ".
وعن تميزه بالعدالة يقول عبد الكريم بهجت :
"ولما انتشرت أخبار عدالته وصولته في مدائن رها (أورفة) وماردين وديار بكر صار أبناء المسيحيين والمسلمين يتقاطرون أفواجاً مع عيالهم إلى قضاء ويرانشهر مركز إبراهيم باشا المللي ويسكنون ويتاجرون فيها آمنين على أموالهم"
ويقول باروت:" وأصبح القناصل الأجانب… يهتمون ببناء علاقة مباشرة به، ويدعونه إلى زيارتهم في حلب… وكان إبراهيم باشا، من جانبه ملاطفاً للأوروبيين بثبات، و حريصاً على كسب ثقة المسيحيين المحليين الذي اخذت أعداد متزايدة منهم في الإستقرار والتمتع بالحماية في عاصمته ويرانشهر".
وقد منحه السلطان العثماني لقب (أمير أمراء الكرد) ، ونتيجة إستفادته من فائض إنتاج القمح في ديار بكر في زمن الندرة العالمية والعثمانية وغيرها من الموارد أصبح ثاني أغنى رجل في الشرق بعد السلطان عبد الحميد الثاني.
وقد تحدث عنه إيف ترنون قائلاً : "......... وقبيلة الملّي يرأسها إبراهيم باشا. وهذا الأخير هو اليوم الأقوى من جميع الرؤساء الكرد في هذه المقاطعة. فقد كان غنياً جداً ، ذكياً ، داهية ، وكان بخاصة محمياً من (الباب) ....... كان يسود ناحية فيرانشيهير "
وقد ذكر الرحالة السويدي أليكس (Alexis) الذي زاره مدى عظمته ... ووصفه من لحظة دخوله إلى خيمته، وجلوسه فوق كرسي مغطى بجلد أسد ... وكان السجاد فوق الأرض مخصصاً لجلوس الضيوف، والمرشد كان أرمنياً .... ويذكر كيف يريد الباشا أن تتمتع المنطقة بالحرية والسلام ....
أما نهايته فكانت عام ١٩٠٨م عندما كلفه السلطان بحماية (الخط الحديدي الحجازي) ، فوصل في ايلول من عام ١٩٠٨م الى دمشق مصطحباً معه فرسانه وزعماء عشيرة حرب العربية ، ليستعين بهم على إقناع عشيرة حرب الحجازية لعدم تخريب خط السكة .
ولكن الفرصة لم تتسنى له بسبب تولي الإتحاديون السلطة في الأستانة، وإرغامهم السلطان عبد الحميد على إعادة العمل بالدستور، وقد نبهه كرد دمشق وبعض القناصل الأجانب بنية الإتحاديين القضاء عليه، فعاد مع قواته إلى ويرانشهر والقوات العثمانية تتعقبه، ووقعت بينه وبين العثمانيين الذين آزرتهم عشيرة (الفدعان/ العنزة) معركة كبيرة قرب حلب نتج عنها وقوع قتلى من الجانبين وعند وصوله قام بإنذار القوات العثمانية لفك الحصار عن ويرانشهر ولما لم تستجب، وقعت أعتى المعارك بين الطرفين واضطرت القوات العثمانية إلى الإنسحاب وبقيت عشيرة قره كيج الكردية تواصل القتال ضد المللية.
وفي الأسبوع الثاني من أيلول ١٩٠٨م صدرت أوامر الأستانة إلى القوات في حلب وبغداد بأن يحضروا إبراهيم باشا حياً أو ميتاً.
وفي أواخر أيلول أخذت قوات إبراهيم باشا بالإنهيار، فطلب الأمان من السلطات وأن تسمح له بإستدعاء طبيب لمعالجته وألاَّ تتعرض له العساكر والعشائر … ولكن بدون جدوى فواصل الفرار ، وتسببت حالة الحصار والمطاردة وعدم السماح بإستدعاء طبيب لمعالجته ، إضافة لإنفضاض الكثير من الرجال عنه بوفاته بتشرين الأول عام 1908م بقرية صفيا التي تبعد عن مدينة الحسكة حوالي 12 كم شمالاً ، وقد دفن فيها ثم نقل جثمانه لاحقاً إلى قرية تل البيزاري شرق صفيا.
خامساً : ويرانشهر : تيلّا بالسريانية
ويرانشهر مدينة مار يعقوب البرادعي، كانت تسمى سابقاً موزلت تقع بين ماردين والرّها أغلب عائلاتها سكنت ماردين ورأس العين، وقد اختارها محمود بك لتكون مركزاً رئيسياً للاتحاد المللي وجدد قلعتها وتابع إبنه إبراهيم باشا العناية بها ، فقام بشق الطرق وبناء الأسواق ومخازن الحبوب ومستودعات السلاح والحدائق ، وبنى قصراً على النمط الحديث غرب البلدة ( قصر الباشا ) وهو الآن مدرسة.
والعديد من القصور كما بنى ميتماً ومدرسة (تكية) وسجن والعديد من الجوامع وعدد من الكنائس منها (كنيسة القديس يوحنا المعمدان وكنيسة القديس أفرام وكنيسة السيدة العذراء) وأسقفية في ويرانشهر للمسيحيين ويتحدث إيف ترنون عنها بكتابه ماردين :
" فيرانشيهير قصبة كبيرة ...... يعيش فيها ثلاثة آلاف مسيحي ...... فهذه المدينة فيرانشيهير تمثل حالة مثالية للخليط الطائفي ...... وفي القرن التاسع عشر، بفضل حسن إلتفات من رئيس (كرد ميلي) إبراهيم باشا الذي كانت فيرانشيهير منطقة نفوذه، جاء العديد من مسيحيي ماردين ومن سفريك فأقاموا فيها وبنوا بعض البيوت، وفتحوا عدة أنواع من التجارة، الأمر الذي ساهم بالتطور الاقتصادي لمدينة فيرانشيهير، فمنذ 1880، مدينة تيلَّة القديمة، التي ظلت مفتقرة مدة طويلة، عرفت إزدهاراً جديداً ......".
وقال ستيفان وينتر بأن: " ويرانشهر ضمت ما يقارب من ٦٠٠ عائلة مسيحية عدا الذين كانوا يسكنون في القرى المحيطة، غالبيتهم كانوا أرمن كاثوليك لكن كان هناك أيضا سريان كاثوليك، سريان أرثوذكس، أرمن غريغوريون وعدد صغير من الكلدان"
ويقول د. عثمان علي: " إذ شجع إبراهيم باشا الكثير من الأرمن والأيزيديين على الإستيطان في ويرانشهر والقرى المحيطة بها، والتي كانت في إزدهار كبير حيث بنى أربعمائة قرية مزدهرة في أطراف ويرانشهر".
وحول هذا الموضوع نورد بعض ما قاله باروت:" جذب هذا المجال الآمن الذي حققه إبراهيم باشا في مثلث ويران شهر - قره جه داغ - رأس العين وجبل عبد العزيز بدءاً من عام ١٨٨٠م مئات العائلات السريانية والأرمنية التجارية النشطة في مدينتي ماردين وسفريك… إلى الإنضواء في حلفه، أو إتحاده العشائري المفتوح للملل كافة."
ويقول الباحث الروسي (كردليفسي) بأن الأرمن الذين أنقذهم إبراهيم باشا من الموت، كانوا سبب في إزدهار ويرانشهر.
وقد قام إبراهيم باشا بمد العاملين بالتجارة والصناعة برؤوس الأموال اللازمة من أجل تنشيط الحركة التجارية والصناعية.
سادساً : الأوضاع العامة في مناطق الإتحاد المللي
مارس أمراء المللية الحكم الذاتي في مناطقهم ضمن إطار السلطنة العثمانية فمن :
١- الناحية السياسية :
تصرف الملليون معظم الوقت ككيان مستقل، ولم يهادنوا يوماً القوى التي حاولت السيطرة على كردستان، فقد كانوا سباقين في إعلان الإنتفاضات والثورات ..... وكان الهدف الأول هو الإستقلال بدلالة تحالفهم مع المصريين في حربهم ضد السلطنة العثمانية، ورفض إبراهيم باشا محاربة اليونانيين، ورفضه الإشتراك في الحملة الموجهة ضد ثوار اليمن. وقد أكد الدكتور الفرنسي منسيل بأن إبراهيم باشا كان يحلم بدولة كردية.
٢- الناحية العسكرية :
كان التنافس شديداً بين القبائل، وكانت علاقة المللية مع محيطهم العشائري متوترة ويشوبها الحذر الشديد أغلب الأحيان، وفي ظل عدم تدخل السلطة المركزية بالصراعات إلاَّ في الحالات التي تخرج عن السيطرة، كان مبدأ القوة هو السائد في علاقة العشائر بعضها ببعض، خاصة أن السلطة كانت في بعض الأحيان تشجع مثل هذه الصراعات ، ويكفي أن نذكر أنه مع بداية القرن العشرين اصطدمت المللية مع قبيلة شمّر مراراً بالأعوام ١٩٠٠م و١٩٠٢م و١٩٠٥م ومع عشيرة القره كيج الكردية بعام ١٩٠٤م.
لذلك كان لزاماً أن تبقى القوة العسكرية للمللية في جهوزية دائمة، طالما أن سلطة الدولة العثمانية كانت في شرق الأناضول (سلطة اعتبارية) في أغلب الأحيان.
٣- العدالة :
كان الملليون يعملون على تحقيق العدالة في مناطقهم عن طريق :