×

  بحوث و دراسات

  فوز ستارمر...ملامح السياسة البريطانية بعد الانتخابات



*د. سمية متولي السيد

 

*انترريحيونال للدراسات

فاز حزب العمال في الانتخابات العامة البريطانية التي أُجريت يوم 4 يوليو 2024 لتُحسم النتيجة لصالحه بعد غياب دام 14 عاماً عن السلطة، وتنتهي بذلك سيطرة حزب المحافظين على البرلمان، ورئاسة الوزراء والحكومة. وهي الانتخابات التي كشفت عن تزايد الاستياء من سياسات حزب المحافظين والذي ظهرت مؤشراته في الانتخابات المحلية الأخيرة. وبطبيعة الحال، تثير هذه النتائج تساؤلات حول حدود تأثر السياسة البريطانية بذلك، خاصة أن حزب العمال يحاول تقديم نفسه كنموذج مغاير لنموذج حكومة المحافظين.

 

اتجاهات انتخابية

أُجريت الانتخابات العامة البريطانية بين مرشحي خمسة عشر حزباً سياسياً أهمهم: حزب المحافظين، وحزب العمال، وحزب الديمقراطيين الليبراليين، وحزب إصلاح بريطانيا، والحزب القومي الأسكتلندي، وحزب الخضر، والحزب الوحدوي الديمقراطي، وحزب بلايد سيرمو، وسين فيين الأيرلندي، والتي تتنافس في 650 مقاطعة (تقع في أربع مناطق أساسية هي: إنجلترا، وويلز، وأسكتلندا، وشمال أيرلندا) لتمثيلها في البرلمان البريطاني. وبحسب القواعد الانتخابية، فإن الفائز هو الحزب الذي يحصد أعضاؤه أغلبية المقاعد بواقع 326 مقعداً ليصبح قائد الحزب هو رئيس الوزراء ويقوم بتشكيل الحكومة. وقد كشفت النتائج عن عددٍ من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

 

1- حصول حزب العمال على أغلبية الأصوات:

فقد تمكن حزب العمال من حصد أغلبية الأصوات بواقع 9,725,117 صوتاً (نسبة 33.83% من الأصوات)، 412 مقعداً (63% من البرلمان)، في حين جاء حزب المحافظين في المركز الثاني بواقع 6,824,610 صوتاً (23.7% من الأصوات)، و121 مقعداً. أما حزب الديمقراطيين الليبراليين فقد تمكن من الفوز بـ 3,501,004 أصوات (12.1% من الأصوات) وهو ما ترجم إلى 72 مقعداً ليحتل بذلك المركز الثالث. وهذه النتائج تتوافق بشكل كبير مع نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، واستطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات.

 

2- تمكن حزب العمال من استقطاب الأصوات المتأرجحة:

يشير فوز حزب العمال إلى أنه تمكن من استقطاب 11.1% من الأصوات المتأرجحة، وهي نسبة أقل من تلك التي أوصت بها نماذج المحاكاة الانتخابية (نسبة 12.7%) بعد عملية إعادة ترسيم الحدود الانتخابية في 2023 ليتمكن من تشكيل الحكومة، وأعلى من نظيراتها من الأصوات المتأرجحة التي تمكن توني بلير من استقطابها في انتخابات 1997 والتي اعتبرت نسبة تاريخية (10.2%) من ذلك الحين.

 

3- قدرة الجالية العربية - الإسلامية على التأثير في بعض المقاطعات:

 فقد خسر حزب العمال مقاعد المقاطعات التي وصلت فيها نسبة المسلمين إلى 15% لصالح مرشحين مستقلين أعلنوا دعمهم للقضية الفلسطينية: مثل ديوسبري التي خسرت فيها هيذر إقبال لصالح إقبال محمد، وفي بلاكبيرن خسرت كات هوليرن مقعدها لصالح عدنان حسين، وفي ليستر ساوث حيث خسر وزير ظل مكتب الحكومة جوناثان آشورث مقعده لصالح شوكت آدام المستقل.

 

4- تراجع المشاركة الانتخابية للمواطنين:

وفق إحصائيات المكتب القومي البريطاني للإحصاء، وصل عدد المسجلين للتصويت الانتخابي في الانتخابات العامة لعام 2024 إلى 49 مليون مواطن بريطاني، شارك منهم ما يقرب من 29 مليون ناخب، أي 60% تقريباً من المسجلين للتصويت الانتخابي لتكون بذلك أقل من نسبة المشاركة في الانتخابات العامة 2019 (67.3%)، وثاني أقل انتخابات في نسبة مشاركة المواطنين بعد انتخابات عام 2001 التي شارك فيها 59%.

 

5- تأثير التصويت العقابي وتوزيع مقاعد المحافظين بين الأحزاب:

فرغم فوز حزب العمال التاريخي، إلا أن هذا في جزء كبير منه مرده إلى التصويت العقابي الذي تبناه البريطانيون تجاه حزب المحافظين. وهو ما يستدل عليه من أمرين؛ الأول أن الفارق لم يكن كبيراً بين نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب العمال (33.8%)، وتلك التي حققها حزب المحافظين (23.7%)، أي أن الفارق بينهما هو 9%. الأمر الثاني هو عدد المقاعد التي خسرها أو كسبها كل حزب مقارنة بانتخابات 2019، فقد خسر حزب المحافظين 252 مقعداً، في حين كسب حزب العمال 214 مقعداً، وتوزعت المقاعد المتبقية من خسارة حزب المحافظين (38 مقعداً) بين الأحزاب الصغيرة التي وصل إجمالي مكاسبها إلى 14 مقعداً.

 

6- استمرار تأثر التصويت الانتخابي في بريطانيا بالملفات الداخلية:

 إذ تشكل القضايا الداخلية والاقتصادية على وجه التحديد، محركاً مهماً في التصويت الانتخابي. في حين لا تؤثر قضايا السياسة الخارجية في القرار التصويتي على المستوى القومي. فبمراجعة البرامج الانتخابية للأحزاب ومتابعات المناظرات السياسية، لم يكن هناك اختلاف بين الحزبين الرئيسيين العمال والمحافظين على مستوى السياسة الخارجية.

 

7- الصعود السياسي لليمين المتطرف في بريطانيا:

 ففي مقابل محاولة المسلمين البريطانيين التأثير على السياسة البريطانية، تمكن حزب إصلاح بريطانيا بقيادة نايجل فاراج للمرة الأولى من الوصول إلى البرلمان، وهو ما يتسق مع حالة صعود اليمين المتطرف في المشهد السياسي الأوروبي. من ناحية أخرى، فإن هذا يعني أن استطلاعات الرأي -وإن نجحت في استطلاع الرأي للحزبين الكبيرين- لم تنجح في الوصول إلى ما يُعرف باسم الناخب الخجول، أي الذي لا يعبر عن نيته التصويتية في استطلاعات الرأي قبل الانتخابات ولكنه يصوت في اتجاه مفاجئ في يوم الاقتراع.

 

8- ارتفاع مشاركة المرأة في البرلمان والحكومة:

فقد كانت هذه الانتخابات هي المرة الأولى التي تصل فيها نسبة تمثيل المرأة في البرلمان البريطاني إلى 264 مقعداً، وهو ما يعادل 40% من البرلمان، مقارنة بنسبة 34% في انتخابات 2019. أما مشاركة المرأة في التمثيل البرلماني لحزب العمال فقد وصلت إلى 46%، وهو ما انعكس على تشكيل حكومة ستارمر حيث تولت المرأة مسؤولية وزارات التعليم والداخلية والعدل والعمل ووزارة المالية التي أصبحت فيها راشيل ريفز أول وزير مالية في تاريخ بريطانيا.

 

السياسات المحتملة

النتيجة المباشرة لصعود حزب العمال إلى السلطة هو الشروع في تنفيذ برنامج ستارمر الانتخابي، والذي يحمل سمتي الاستمرارية على صعيد السياسات الخارجية، والتغير الراديكالي على صعيد السياسات الداخلية. وبوجه عام يمكن الإشارة إلى أهم السياسات المحتملة للحكومة الجديدة على النحو التالي:

 

1- محاولة إحداث تغييرات في العملية الانتخابية:

 حيث ينوي حزب العمال خفض السن القانوني لممارسة حق التصويت الانتخابي من 18 سنة إلى 16 سنة. علاوة على ذلك، فإن ستارمر سوف يدخل تعديلات على مجلس اللوردات بحيث ينتهي تعيين نبلاء الوراثة مدى الحياة، ويتحدد لهم سن قانونية للتقاعد، ويكون تمثيل أعضاء مجلس اللوردات تمثيلاً نسبياً بالنسبة لحجم المقاطعات وتعداد سكانها.

 

2- الاهتمام بتطوير قدرات الاقتصاد البريطاني:

 بشكل عام تقوم الخطة الاقتصادية لحزب العمال على زيادة مساحة دور الدولة في تحقيق التنمية عن طريق تقديم استراتيجية صناعية أُعدت مسبقاً بشكل مركزي. ففي برنامج ستارمر الانتخابي، قدم حزب العمال باعتباره حزب تكوين الثروة بالنسبة للعمال، وكان الافتراض الأساسي أن القضاء على التضخم من شأنه أن يجعل مستويات المعيشة أفضل حالاً بحوالي 5% مما كان عليه الأمر أثناء الأزمة المالية عام 2005/2006. وتتكون الخطة الاقتصادية من جانبي الإنفاق والدخول. فعلى جانب الإنفاق، قدر البرنامج الانتخابي لستارمر أن حجم الإنفاق على عمليات الصحة العامة وأطباء الصحة النفسية وتوظيف 6500 معلم في المدارس العامة وتوفير وجبات صحية صباحية في المدارس الحكومية الابتدائية يصل إلى 5 مليارات جنيه إسترليني. علاوة على ذلك، هناك 4 مليارات جنيه إسترليني من المقرر إنفاقها على قطاع الطاقة النظيفة.

أما في جانب الدخول، فمن المقرر إنشاء صندوق للثروة الوطنية بحيث تساهم استثمارات القطاع الخاص بثلاثة جنيهات إسترليني مقابل كل جنيه إسترليني تنفقه الحكومة، وهو ما يوفر حوالي 7 مليارات جنيه إسترليني من حجم الإنفاق المخطط له. أما بقية الدخول فسوف يتم توفيرها من السياسات الضريبية، على أن يتم توفير 2.5 مليار جنيه إسترليني في ميزانية الدولة دون إنفاقها.

 

3- التركيز على دور الضرائب في دعم موارد الدولة:

 شأن السياسات الضريبية أن توفر للدولة جانب الدخل في موازنتها العامة. ووفق وعود ستارمر الانتخابية، فإنه سوف يفرض ضرائب القيمة المضافة على رسوم المدارس الخاصة، وضرائب الأرباح غير المتوقعة في مجال الطاقة الكبيرة، وهو التغيير الأول والأساسي المتوقع في شأن السياسات الضريبية والتي من شأنها أن تتقاطع مع التعليم والطاقة على الترتيب. أما فيما يتعلق بوضع البريطانيين المقيمين non-dom فسوف يستمر إلغاء الإعفاء الضريبي لهم الذي أقره سوناك قبل نهاية حكومته، وهو ما من شأنه أن يوفر للدولة 8 مليارات جنيه إسترليني، بشرط بقاء أصحاب هذه الفئة داخل بريطانيا. وبالنسبة للضرائب العقارية وضرائب الشركات، وأصحاب المعاشات؛ فإنه من المتوقع استمراراها وفق ما كانت عليه وقت سوناك.

 

4- تعزيز قدرات الطاقة البريطانية:

 من المقرر أن يقيم حزب العمال شركة طاقة مملوكة للدولة البريطانية Great British Energy بدعم حوالي 8 مليارات جنيه إسترليني للاستثمار في التقنيات الحديثة والمشروعات القائمة على كثافة رأس المال. كما أشار البرنامج الانتخابي إلى ضرورة الحفاظ على احتياطي استراتيجي من الغاز، ومنع إصدار تراخيص استخراج جديدة لحقول الغاز والنفط في بحر الشمال. كما يعتزم حزب العمال زيادة الضرائب على شركات الغاز والنفط بحوالي ثلاث نقاط ضريبية، ووقف تقديم بدل استثمار لهذه الشركات.

أما في مجال الطاقة النووية، فمن المقرر العمل على إطالة عمر المحطات الحالية، وإنشاء محطات توليد جديدة ومفاعلات صغيرة بما يساعد بريطانيا في توفير الطاقة النظيفة. وأخيراً، تحديث 5 ملايين منزل خلال خمس سنوات للعمل بالطاقة النظيفة، بحيث يتم التحول للطاقة النظيفة بشكل كامل في 2030.

 

5- دعم التصنيع العسكري والدفاع البريطاني:

 كجزء من التزام ستارمر بدور بريطانيا في حلف شمال الأطلنطي، فسوف يستمر مستوى الإنفاق العسكري عند نسبة 2.5% من إجمالي الناتج المحلي، بالإضافة إلى اهتمام ستارمر بالاستثمار في قوة الصناعات العسكرية محلياً، وهو ما يعني الاهتمام بإنتاج وتصنيع الصلب. علاوة على ذلك، من المتوقع أن يكون أول قرارات ستارمر فيما يتعلق بالدفاع والأمن هو بدء عملية مراجعة الدفاع الاستراتيجي التي من شأنها تحديد الأولويات الأمنية والاحتياجات وسبل توفيرها.

 

6- استهداف مكافحة العنف والجريمة:

تعهد ستارمر بخفض مستويات الجريمة العنيفة خاصة تلك التي تستهدف النساء والفتيات إلى النصف خلال 10 سنوات، ومنع بيع وتداول الأسلحة البيضاء. كما أشار البرنامج الانتخابي إلى توفير 14 ألف مكان بالسجون بحلول عام 2030، وإعادة تقديم وتفعيل أوامر السلوك غير الاجتماعي. وفيما يتعلق بجرائم سرقة المحلات، فسوف تقوم حكومة حزب العمال بإلغاء غرامة الـ200 جنيه إسترليني حتى تخضع تلك الجرائم مهما كانت صغيرة للتحقيق. علاوةً على ذلك، سوف تقدم الحكومة أوسمة الشجاعة لمن قُتل من أفراد الشرطة أثناء تأدية واجبه.

 

7- إجراء بعض التغييرات على سياسات حكومة المحافظين بشأن الهجرة:

 وهي من الملفات التي سوف تتغير في ظل حكومة حزب العمال، وهي إلغاء قانون ترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى رواندا. غير أن ستارمر قد أقر بأن مناهضة الهجرة غير الشرعية من أولوياته، وأن أولى خطواته هي إنشاء "قيادة أمن الحدود" لإنهاء عمل عصابات الاتجار في البشر على الحدود البريطانية والذين سوف يتم التعامل معهم باعتبارهم إرهابيين. أما فيما يتعلق بالهجرة الشرعية، فوفق البرنامج الانتخابي لستارمر سوف يفرض المزيد من القيود على منح التأشيرات، وإدخال بعض التغييرات على نظام النقاط البريطاني. علاوة على توظيف 1000 أخصائي اجتماعي للحد من تراكم طلبات اللجوء.

 

8- التأكيد على محورية العلاقات الأمريكية البريطانية:

 عبّر ستارمر مراراً وتكراراً عن محورية العلاقات الأمريكية البريطانية في الحفاظ على أمن وسلامة النظام الدولي، وعن أهميتها كحليف لبريطانيا في إدارة عديد من الملفات العابرة للحدود مثل: البيئة والتغيرات المناخية، ومكافحة الإرهاب. وعليه، فمن المتوقع أن تستمر العلاقات الأمريكية البريطانية على ما كانت عليه في ظل المحافظين.

 

9- استمرار التعاطي مع روسيا والصين كتهديد للأمن القومي البريطاني:

 لا يختلف ستارمر عن سوناك في إدراكه المزدوج لروسيا والصين كتهديد للأمن القومي البريطاني العسكري والسيبراني وأمن الطاقة والغذاء، ولا سيما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وكونهما في الوقت نفسه شريكين أساسيين في ملفات التجارة الخارجية والبيئة والتغيرات المناخية. وعليه، فمن المتوقع أن يستمر دعم حكومة حزب العمال للجانب الأوكراني على حساب روسيا وفق ما كان عليه الأمر في ظل حكومة حزب المحافظين، لا سيما وأن هذا الدور من شأنه أن يعزز من الوجود البريطاني في الشؤون الأوروبية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، قد يعول صانع القرار البريطاني على سياسات الردع قدر الإمكان منعاً للتصادم مع القوتين الصاعدتين في وقت تحتاج فيه بريطانيا للتركيز على بناء الاقتصاد وحل المشكلات الداخلية.

 

10- صعوبة تغيير موقف لندن من الحرب الإسرائيلية في غزة:

 ليس من المتوقع أن تتغير سياسة بريطانيا في ظل حكومة عمالية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة عن سابقتها في ظل حكومة المحافظين. وبذلك، فسوف يستمر رفض بريطانيا لحماس باعتبارها جماعة إرهابية لا مقاومة فلسطينية، ويستمر الدعم البريطاني للجانب الإسرائيلي مع الدعوة لتقديم المساعدات والإغاثة الإنسانية لأهالي قطاع غزة. ولا يمكن التكهن بوجود دور بريطاني لحل الأزمة الراهنة بشكل جذري أو التوصل لاتفاق بين الجانبين دون دعم الجانب الأمريكي ووساطة عربية. ومع ذلك ستحاول حكومة العمال إظهار موقف متوازن تجاه الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، داعمة فكرة الاعتراف الرسمي بفلسطين كجزء من عملية السلام، مع الحفاظ على تنسيق كبير مع الولايات المتحدة.

 

الخلاصة

تمكن حزب العمال بقيادة كير ستارمر من تحقيق فوز تاريخي تجاوز به حزب المحافظين الذي سيطر على الحكومة لمدة 14 عاماً، وتجاوز به الفوز الذي حققه حزب العمال بقيادة توني بلير عام 1997؛ الأمر الذي سوف يغير وجه السياسات البريطانية على المستوى الداخلي، ويزيد من مساحة دور الدولة في السياسات الاقتصادية التنموية، ويضمن استمرارية السياسات الخارجية البريطانية على المستويين الإقليمي والدولي.


10/07/2024