×

  قضايا كردستانية

  خيانة الأوطان.. قراءة في سايكولوجيا الخائن



*اكرم جلال

 

لـ(غمكين كردستاني) عبارة :” خيانةُ الوطن هيَ مِنْ أقبحِ الصورِ فَظاعةً وَبَشاعةً ولا يقومُ بها إلا المُنحطّون والساقطون والسَفَلة.”

وَرَدَت مُفردة الخيانة في اللّغةِ كإشارةٍ إلى التّنقص، ويقال: خانَه يَخونه خَوْنًا. وذلك نقصان الوفاء1.

والخيانةُ تَعني التّفريط في الأمانة، أي أنّها نَقيضٌ للأمانة؛ منْ خانه خَوْنًا وخيانة ومَخَانة، واختانه، فهو خائن وخائنة وخؤون وخَوَّان والجمع خانة وخَوَنَةً وخُوَّان، ويقال: خُنْتُ فلانًا، وخنت أمانة فلان 2.

وقال ابن عاشور: (وحقيقة الخيانة عمل من اؤتمن على شيء بضد ما اؤتمن لأجله، بدون علم صاحب الأمانة)3.

إنَّ البناءَ الثابتَ والرّصين لواقع ومستقبل هذه الأمة لا يَتمّ إلا مِنْ خلال فَهمٍ دقيق لحقيقةِ الوَضع الرّاهن، وهذا الفّهم لا يَكتمل إلا بامتلاك الوعي في القراءة، والجرأة في كَشفِ الحقيقة، والشجاعة في إقتحام مَفهوم الخيانة وأثره في تأزيمِ الواقع، بَلْ وَتَمزيق الوضع الراهن وتأسيس مَنهج التَفاهة ونظام القَمع وَمَأسَسة الفَشل والتراجع؛ فالخيانة مفهومٌ مأزومٌ في التكوين، ولا ينتج إلا أزمات وانكسارات متتالية.

والخيانةُ مُفردةٌ تكشف في معناها عن حقيقة الوَضاعَة، وتعكس أعلى مَراتب الدّناءة والسقوط الأخلاقي وفقدان الشرف، وهي بذلك تكون صفة منبوذة، وأنَّ مَن يتّصف بها يكون شخص مَنْبوذٌ، مَقْصِيّ، مُحَقَّر بين أهله وأقرانه، وتتّسع هذه الدائرة حينما تشمل الخيانة أمن وسلامة واستقرار وازدهار البلد، عندها تبلغ الخيانة أوسع مَدَياتها، فَتُسمّى حينها بـــ”الخيانة العظمى”.

ولكي لاتتحول الخيانة والاتهام والتسقيط إلى وصفة جاهزة، يستخدمها أصحاب المآرب المشبوهة لإلصاقِ التُّهم الراكدة في مستنقعات المنطق السياسي الأعوج، ولكي لا يتّخذها الخونة سلاحاً في تخوين الآخرين، يتحكمون بها كلعبة من أجل التصقيط، لا بُدّ من تقديم فَهمٍ لحقيقة الخيانة، وَمَنْ هُم الخَوَنة؟ وما هو الدافع الحقيقي للخيانة؟

إنَّ النظرية السياسية، كما يحلو لعلماء السياسة وصفها، هي الدراسة التي تساعدنا على فهمٍ أفضلٍ للمفاهيم التي تُشكل أبعاد المنهج السياسي المُتّبع ، بما في ذلك الحرية والمساواة والديمقراطية والعدالة، بالإضافة إلى الاتفاق على المبادئ والقِيَم سواء كانَ مُنطلقها أخلاقيّ بَحت، أو دينيّ، أو حتى اتفاقات ومواثيق سياسيّة واجتماعية تساهم في رسم دعائم الأمن والاستقرار في البلد وتحفظ حرية المواطن وتُأمّن له حقوقه.

والخيانةُ وإنْ تعددت مَصاديقها وتنوّع المتّصفين بها، إلا أنّها تنحصر في معنيين أساسيين وهما: عدمُ الوفاء بالأمانة ونقض العهد، وأنّ الذي يعنينا في هذا المقال هو الخيانة السياسية، أو ما يُطلق عليها بخيانة الوطن، وهي كذلك تنقسم إلى مراتب وكذلك الذين يحملون هذه الصفة، فهم على درجات، وكلٌّ حسب خيانته وعمق الجريمة التي ارتكبها ودرجة الخسارة والتمزيق والتدهور الذي تسبّب به، ليكون بذلك شريكًا في تمزيق سيادة واستقرار الدولة أمنيًّا واقتصاديًّا، وسببًا في زعزعة أمن وسلامة ومستقبل مواطنيه.

والسياسيون الخونة هم أولئك الذين عاشوا حياةً قاسية أو تعرضوا لصدمات مُريعة، رافقتهم خلال مراحل حياتهم، اخترَقَت تَفكيرهم، وأعدَمَت مشاعرهم، وَمَزَّقَت شخصياتهم، حتى بَلَغ بهم الحال أنْ تحوّلوا إلى عاجزين عن حمل التكاليف والواجبات والمهام (السياسية) باتزانٍ ومسؤولية، وفق المواثيق والعهود التي أبرموها وتعهّدوا بالالتزام بها.

 لقد فَقَد الخائن حالةَ الانضباط الذاتي، فلم يَعُد قادراً على فعل ما يجب فعله، ولا التحكّم في انفعالاته ونزواته وتصرفاته، وحلَّ محلّ ذلك خيانة الذات، فلا التزام بالعهود والمواثيق، ولا شجاعة في المواجهة، ولا صبر ولا إيثار.

لقد بَلَغَ بذلك أدنى درجات التسافل بعدما تغلّبت نَزَعاته الذاتيّة ونزواته الشخصيّة على الأعراف والقوانين والمواثيق، فتخلّى عن انتمائه لوطنه وشعبه مقابل حفنة من الدولارات أو منصب يبقيه بعيداً عن ذلك الجرح في ذاته وتلك العقدة في نفسه، فكانت الخيانة لديه هي المَلاذ الآمن، للهروب من الكابوس الذي يطارده، وهي المَلجأ والمأوى من حريق ما زال يشعل في داخله، وإن حاول جاهداً لإخفائه.

إنّه ذلك الشعور بالنّقص الذي يُرافقه، كما يقول ألفرد ادلر، والذي يعيش معه، يُلهب مشاعره ويُحطّم أحاسيسه، خصوصاً عندما يُقارن نفسه بنجاحات مَن حَوله، فيميل إلى الخيانة دون الإكتراث بعواقب الأمور، إنّه موت سيادة واستقلال الذات، وبدأ مسيرة الخضوع المُطلق، والارتماء في أحضان المجهول، طلباً في البقاء ودفاعاً عن امتيازات وشكليات لعلّها تُرقّع نَقص النّفس، وتُخفي عَيب الذات.

إنّها أزمة الهوية والإنتماء تلك التي تدفع بالخائن ليكون مستعداً لبيع الوطن، وسحق الأرواح، وهدر الأموال، ونقل الأخبار لكي يبقى مُتسيّداً على كرسيّ الخرافة والوهم، فهو يَعلم أنّ فيه العزّة التي فقدها والشرف الذي باعه والأمان الذي يلوذ به هَرَباً من نفسه.

وللخيانة رائحة نَتِنَة، لا تُطيّبها العطور، وهي عارٌ لا تغسله البحو؛ والخائن باع الثمين من أجل الرخيص، وفارق الجميل وسَكَنَ إلى القبيح، وارتكب خطيئة الظلم، والظلم هو أعلى درجات الاستفزاز لمشاعر الناس، تلك هي سيكولوجيا الخائن، أفعاله تعكس ما بداخله من أوجاع.

إن القلاع الحصينة قد لا تُسقطها قذائف الأعداء لكن يسقطها غدر الخيانة، والخونة وحدهم، بمعاولهم، وحدهم مَن يَفتحون الثغور ويهيؤون الطريق لِمَحو الماضي، وسحق الحاضر.

والغريب أن الخائن، وبعدما سَبَقَت رغبته إرادته، يسعى جاهداً لجمع الحُجج والمبررات من أجل اقناع الآخرين ببراءة أفعاله وصدق نواياه، وهو دائم التبرير لذاته حينما يبقى ولو شيء قليل من الحياة في ضميره، خوفاً من التأنيب. ولعلّ ذلك يكون لفترة وجيزة، فبمرور الوقت يتحول العمل الخؤون إلى لُعبة مسلية، تعكس منتهى الانحلال الأخلاقي، والمبالغة والهستيريّة في الاستعراض أمام الآخرين، لتحرق ما تبقى من ذاته الحيّة وتزرع بدلاً عن ذلك مشاعر اللاأبالية، والأنا والغرور. وأخيراً فإن السياسي الخائن وما يعيشه من آلام اغتراب الذّات فإنّه حينما تشدّه الأهواء والرغبات السياسية والإيديولوجية والحزبية يَقدِم على قرارات ذاتية يمكن وصفها بالانتحارية حينما يعرّض مصير أمّة بأكملها للضياع.

المراجع

مقاييس اللغة، ابن فارس، ج2، ص231.

مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص305. وبصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ج2، ص582.

تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، ج24، ص174.

*صحيفة"الراي اليوم"اللندنية


01/09/2024