*موقع HERKUL
لم يشهد المسلمون حتى عصرنا الحاضر مثل هذه الغربة التي يعانون منها في فهمهم للإسلام ومعايشته بكلِّ قيمه وأبعاده المعنوية، ولم يكونوا في أيِّ وقتٍ من الأوقات قطيعًا يتبع حفنةً من الغافلين والظالمين والأشرار بلا قيدٍ أو حساب، بل كانوا يتحرّكون بوعيٍ كبيرٍ للحفاظ على وجودهم ووحدتهم وأرضهم ودينهم وقيمهم.
حتى أثناء الحروب الصليبية ومع تمزُّق الدولة العثمانية، واحتلال الأراضي من قِبَل الأجانب لم يتعرض المسلمون لمثل هذا الانحراف في الأفكار والمشاعر، كانوا يحملون إيمانًا قويًّا وآمالًا ثابتة، متمسّكين بقيمهم إلى أقصى حدّ، يحاولون أن يكونوا مظهرًا لأحسن تقويم، ولذا جعلوا القرآن والسنة معيارًا لهم، وأخضعوا كلَّ شيء لهما؛ يزنون بميزانهما، ويحددون المستقيم والمعوجّ من خلالهما، وبذلك استطاعوا أن يميزوا بين الصديق والعدو، وأن يتصرّفوا بمروءة وإنسانية حتى مع أعدائهم مهما كانت الظروف والأوضاع، لم تصرِفْهم المصائب التي تعرّضوا لها عن الطريق المستقيم، بل كانوا يحاولون السير على خطى الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يسلكوا طريقهم.
أما عصرنا الحاضر الذي نعيش فيه فهو عصر التعساء، عصرٌ تبدّدت فيه مشاعرُ الناس وأفكارُهم، وصار كلُّ من يبتعد عن مناخ القرآن النوراني يسير في وادٍ مختلفٍ، والحقّ أن من حُرِم الإيمان الحقيقي حُرم الإنسانية الحقّة، بل يمكن أن نقول حُرِم من القيم الإنسانية، ومن أن يكون مظهرًا لأحسن تقويم، ولذلك وجدنا القادة الذين طبع الله على قلوبهم بحب المقام والمنصب يتحوّلون إلى وحوشٍ كاسرةٍ تريد أن تفتك بأيّ فئةٍ معارِضةٍ لهم في سبيل الحفاظ على سلطانهم.. ألم يكن هذا هو السبب الذي دفع الكثيرين إلى أن يتنازلوا عن اعتبارهم ويبيعوا أقلامهم وكرامتهم الإنسانية في سبيل لُعاعةٍ من الدنيا ويرضخوا للظالمين؟! ألم يكن هذا هو السبب الذي ساق الكثيرين إلى أن ينجرفوا كالقطيع وراء الآخرين بدافعٍ من التعصب الأعمى؟!
إن لم يستوف البعض منا إرادته في عصرٍ كهذا، ويصبر ويتحمّل، ويتوقّف حيث يجب، فلن يتمكّن من نقل دين الإسلام المبين إلى الأجيال القادمة، بل وسيصبح الدين في أيدي اللصوص سلعةً يُتاجر بها لأغراضٍ سياسيّة، بعبارةٍ أخرى: إن لم يتصرّف البعض بعقلانيّةٍ في هذا العصر الذي أصبح فيه العالم ملجأً للمجانين الذين ألقوا بأنفسهم في شلال الجنون، ولم ينهضوا لله وبالله ولوجه الله؛ فقد يجلب هذا المسار كارثةً عامّةً للإنسانية بأسرها، وفي النهاية قد تصل الكوارث المحلية التي تشهدها مختلف مناطق العالم حاليًّا إلى مستوى يفتك بالبشرية جمعاء.
فإذا كنا نريد أن نظلّ ثابتين لا نتزعزع، وأن نمدّ يد العون للآخرين، لا سيما في هذه الأيام التي بدا فيها العالم وكأنه مُحاطٌ بالمشاكل؛ فلا بدّ أن ندرك عجزنا، ونتوكّل على القدير المطلق بكلّ كياننا، ونتوجّه إليه بكلّ قلوبنا؛ فبه ومن خلاله نرى ونعرف ونسمع كلّ شيءٍ.. أحاديثُنا حوله تدور، وأنظارُنا إليه تتوجّه، وأعمالُنا خالصةٌ له ومقرونةٌ باسمه، وحركتُنا في سبيله، لله نعطي ولله نأخذ، ومن أجله نتحمّل ما نتحمّل، لا نبتغي بذلك سوى مرضاته، ولا مانع لدينا من الموت في سبيله؛ فالمتوجّه إلى الله بكلّيّته لا يتبرم بالآلام، ويصبر على الشدائد، ولا تتشتّت أفكاره، ولا يُخطئ في تحليلاته، ويدفع بقوّةٍ وساوس النفس مثل: الرياء والعجب والسمعة وحُبّ الظهور وحب المديح، ويراها نوعًا من الأمراض النفسية.. ومن أصيب بهذه الأمراض -والعياذ بالله- ابتعدَ عن الله في اللحظة التي يجب أن يكون أقرب فيها إليه.
اللصوص ينتشرون اليوم في كلّ مكانٍ، وهؤلاء لا يكتفون بالتسلّط على أموال الأبرياء، بل يتسلّطون أيضًا على قيمهم الذاتية، ولا يسمحون لهم بممارسة شعائرهم الدينيّة ولا التعبير بحرّيّة عن عقائدهم، كما يعملون على تعطيل الأعمال الخيرية والأنشطة الخدمية التي تُقدَّم لصالح الإنسانية، ويظلمون الناس ويغدرون بهم حسبما شاؤوا، ويشعلون فتيل الفتن والفوضى، فيمزقون أواصر الأُسَر ويشقون وحدة المجتمع.. إنهم يستخدمون القوّة الغاشمة والضغط والعنف لقمع الجميع، وبسبب الهوس الذي يعيشون فيه فإنهم يخافون من كلِّ صوتٍ وكلّ كلمةٍ وكلِّ حركةٍ، وإذا شعروا بأدنى خطرٍ ولو كان احتمال حدوثه ضئيلًا، فإنهم لا يتردّدون في ارتكاب أيِّ شرٍّ للقضاء عليه.
لم يخلُ هذا العالم المليء بكلّ هذا الشرّ والأشرار من الضحايا والمظلومين، ففي فترةٍ معيَّنةٍ تأسّست جمعياتٌ لمساعدة الضحايا والمظلومين استجابةً لمن ينادون قائلين: هل من مغيث؟ وبفضل هذه الجمعيات كانت تُمَدُّ يد العون إلى المظلومين والمستضعفين أينما كانوا في كلِّ أنحاء العالم، وكان يُنظر إلى الأمر من منطلق احترام الإنسان، فكانت تُمَدّ لهم يدُ العون دون تمييز في الدين أو المذهب أو العرق أو الطائفة، وأحيانًا كانت تُذبح الأضاحي وتوزَّع، وتهرع الفرق الإغاثية إلى مناطق الكوارث، وتُحفر أبار المياه في إفريقيا لإرواء شعوبها، وتُقدّم المساعدات الإغاثية للفقراء، وتُبنى الملاجئ للأيتام والمشردين.. كان يُبذل كلُّ ما يمكن القيام به من منطلق القيم الإنسانية، لكن للأسف أغلق الطغاةُ الذين استسلموا لمشاعر الحسد والغيرة أبوابَ هذه المؤسسات الخيرية، وتركوا الناس يواجهون احتياجاتهم وعجزهم بمفردهم.
لا جرم أن هناك كثيرين اليوم في جميع أنحاء العالم ينتظرون المساعدة، فتركيا وحدها يوجد بها عشرات الآلاف من الأشخاص الذين كانوا يشاركون في الأنشطة الإغاثية بقدر استطاعتهم، لكنهم تعرّضوا للظلم، ووصلوا إلى مستوياتٍ صعبةٍ من العوز والحاجة.. لقد غُصبت أموالهم التي كسبوها بعرق جبينهم، وعُزلوا من وظائفهم، واضطرّوا إلى ترك ممتلكاتهم والهجرة إلى بلدان أخرى، ونتيجة لذلك فقد بات العالم بأكمله يستجدي المساعدة، فما يقع على عاتقنا الآن هو أن نقتدي بأجدادنا من الأنصار رضوان الله عليهم، ونسعى لدعم هؤلاء الناس، وإن كانت مؤسسة “هل من مغيث؟” أغلِقت اسمًا فمن الممكن أن تستمرّ في أداء وظيفتها، ومن الممكن أن تُفتح مؤسّساتٌ شبيهةٌ لها في الدول الأخرى لإغاثة كلِّ الضحايا والمظلومين بغضّ النظر عن العرق أو اللون.
لا تكفي الإمكانات الحالية لتلبية احتياجات جميع المظلومين؛ لهذا السبب من الضروري أن يبادر المتطوّعون المخلصون في مختلف أنحاء العالم إلى إطلاق حملة تعبئةٍ عامّةٍ في هذا الصدد، وعلى الذين هاجروا إلى البلدان الأخرى، وأسّسوا أعمالهم هناك، وحقّقوا نجاحًا مادّيًّا؛ أن يساهموا في هذه الحملة، فهذا لا شكّ يحمل أهمّيّةً خاصّةً؛ لأن مدّ يد العون إلى الأشخاص الذين سُجنوا ظلمًا، وتعرّضوا للتعذيب، وانتُهكت كرامتهم، وصودرت ممتلكاتهم، وحُرموا من أبسط حقوقهم الإنسانية؛ هو واجبٌ علينا.. لقد احتضن مواطنو البلدان الأخرى المهاجرين الذين فروا من الظلم في بلدانهم، بل وخصّصوا لهم زاويةً من بيتهم لتقديم مأوًى مجّاني لهم.. وإن كرمهم هذا يضع على عاتقنا نحن المسلمين مسؤوليّةً أكبر، فالمسلم هو إنسان الرحمة والشفقة والمروءة، لا سيما ذلك الذي نذر نفسه لخدمة الإيمان!
لقد فتح سادتُنا الكرام من الأنصار رضوان الله عليهم صدورَهم لسادتِنا المهاجرين الفخام رضي الله عنهم، واستضافوهم، وشارك البعض منهم إخوانه من المهاجرين حدائقه وبساتينه.. فيتعيّن علينا أن ننمّي هذا الشعور في أيامنا، وأن ننشئ منظّماتٍ مختلفةً من أجل المساعدة، ربما يتعسّر إنشاء منظّماتٍ كبيرةٍ بالمستوى المطلوب في البداية، ولكن إذا بدأنا بثلاثة أو أربعة أشخاص مخلصين في البداية، وشاركناهم مشاعرنا، وحدّثناهم عن الظلم والمعاناة التي يتعرّض لها الآخرون؛ فإن هذا العمل الخيري سيتوسّع تدريجيًّا، فقد بدأت كلُّ الخدمات بهذه الطريقة؛ حيث بدأت الأعمال الخيرية بأشخاصٍ قلائل، ثم شارك فيها آلاف وعشرات الآلاف، ودخل الناس في تنافسٍ على فعل الخير، وفي النهاية تمكن أصحاب المروءة من الأتراك من إنشاء المدارس والمؤسّسات التعليمية في أكثر من مائة دولةٍ حول العالم.. وللأسف الشديد بات هؤلاء الأشخاص الذين قدّموا هذه التضحيات يتعرّضون الآن للظلم وللمعاملة الوحشيّة التي لا تليق حتى بالمجرمين.
إننا نؤمن بالله إيمانًا راسخًا، ونثق أنه سيقصم الظالمين وينتقم منهم، ولكن إلى أن يأتي ذلك اليوم، فإن الوقوف إلى جانب المظلومين والمكروبين والمحرومين والمضطرّين، ومشاركتهم آلامهم، وتقديمَ الدعم لهم؛ يُعدّ خطوةً عظيمةً تقرّبنا من الله عز وجل، فإذا كنتم ترغبون في أن تتقربوا من الله وتنالوا نصيبًا من المعيّة الإلهية، فعليكم بمدّ يد العون للمحتاج والمضطر، إنني لطالما تمنّيتُ ألا أملك حتى كوخًا واحدًا في هذه الدنيا، ولكن في الآونة الأخيرة تراودني بعض الأفكار أحيانًا فأقول: ليتني أملك شيئًا من المال لأستطيع أن أؤمّن احتياجات خمسة أو عشرة أشخاصٍ لمدّة عام، وأدخل السرور إلى قلوبهم قليلًا، بذلك أكون قد عزَّزْتُ أملي في المثول بين يدي الله عزّ وجل دون خجل.
لقد أعلن الظالمون في تركيا حربًا عامّة لنهبِ وغصب ممتلكات البعض، والمنوط بنا في مواجهة هؤلاء الغاشمين، أن نحافظ على حيوية أنشطتنا ووعينا، وأن نأخذ بيد من سقطوا، ونطعم من جاعوا، ونمسح دموع من بكوا، ونفتح الأبواب أمام من أغلقت أمامهم الأبواب، ونمحو الحزن عمن يئنون، وأن نعتبر هذا واجبًا علينا.. فإنَّ دعْمَ الأبطال الذين يقفون في وجه الظالمين، ولا يركعون لأحدٍ من أجل متاعٍ دنيويٍّ زائلٍ لا يساوي بضعة قروش، ولا يذهبون ويطلبون العفو من الظالم، بل يرفضون أيَّ مساعدة تأتي من قِبَله، ويقفون شامخين في مواجهة الظلم؛ هو واجبٌ علينا جميعًا في هذه الفترة، نسأل الله أن يعيننا على أداء هذا الواجب!
إن الجهلاء الذين أسلموا عقولهم للشيطان يظنون أنهم يستطيعون إجبار الناس على اتباع نهجهم بالتعذيب والظلم والاضطهاد والقمع، والحال أن المؤمنين الحقيقيين الذين يؤمنون بالله ورسوله، ويرجون العون منه وحده، وعندهم إذعانٌ ويقينٌ ثابتٌ، لن يقبلوا بالذل والهوان أمام الظالم ولو اضطروا إلى أكل جذوع الأشجار أو ماتوا جوعًا، بل يصبرون ويحتسبون في الشدائد، وقد أثبتوا ذلك بالفعل، ومن واجبنا نحن ألا نترك إخواننا المظلومين وحدهم، بل علينا أن نساعدهم بكلِّ ما نستطيع، حتى لو اضطررنا إلى بيع ثيابنا، هذا هو حقّ الأخوّة وروح الإيثار.