×

  تركيا و الملف الکردي

  تركيا.. سياسة الأرض المحروقة لا تصنع حلاً وتلاحماً داخلياً



*طارق حمو

 

*المركز الكردي للدراسات

بدأت الدولة التركية بشن هجمات شاملة ومركزة على مفاصل البنية التحتية في إقليم شمال وشرق سوريا، فتم تدمير محطات الكهرباء والمياه وصوامع الحبوب والمشافي، بالإضافة الى مقار الشرطة ومظاهر مدنية تتبع الإدارة الذاتية. الهجمات، فضلاً عن تدميرها لمنشآت البنية التحتية، أسفرت كذلك عن قتل وجرح عشرات المدنيين، بينهم أطفال.

وتأتي هذه الهجمات لمنشآت البنية التحتية (عناوينها ومواقعها مخزنة ضمن بنك الأهداف العسكرية التركية)، بعد أيام قليلة من “تحرك” سياسي للحكومة والمعارضة التركية، أوحوا للداخل والخارج عبرها، بأن أنقرة، وفي ضوء ما يجري في المنطقة والحديث عن تغييرات ورسم خرائط جديدة، وإعادة التشكيل، تريد حل القضية الكردية وإنهاء الصدام المسلح مع الكرد، وحركتهم الرئيسية في شمال كردستان: حزب العمال الكردستاني.

ودعا دولت بهتشلي، رئيس الحركة القومية المتطرفة، القائد الكردي عبد الله أوجلان للقدوم إلى البرلمان التركي، وإعلان وقف الكفاح المسلح. كما وصدرت تصريحات من أوزغور أوزيل، رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، تتحدث عن السلام وعن “26 مليون كردي يجب أن يجلسوا على طاولة المفاوضات ويتحولوا الى مواطنين يمتلكون دولة لهم هي تركيا”.

ورغم ضبابية هذه الدعوات، والكلام العام الذي لا يحمل أي معالم أو نقاط حل أولية، إلا أن الجو العام بدا إيجابياً، وانتعشت آمال البعض بإمكانية البدء فعلاً بمحادثات سلام وجولات تفاوض بين أوجلان وحزب العمال الكردستاني وحزب المساواة والديموقراطية للشعوب من جهة، وبين الدولة التركية، ممثلة في الحكومة والمعارضة، من جهة أخرى.

لكن لم يحدث ذلك. بل على العكس. صعدت الدولة التركية عسكريًا، وبدأت على الفور بشن هجمات موسعة ومركزة على البنية التحتية في إقليم شمال وشرق سوريا ، وقضاء شنكال في إقليم كردستان، وعلى ما تقول أنها “قواعد حزب العمال الكردستاني” في المناطق الجبلية في قنديل وغيرها. الاستهدافات جاءت بعد الهجوم الذي وقع على شركة صناعات الطيران والفضاء “توساش”، والذي تبناه الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني.

ورغم أن الهجوم استهدف منشأة عسكرية، إلا أن الدولة التركية ردت بقصف المنشآت المدنية والخدمية والمدنيين في إقليم شمال وشرق سوريا ومظاهر الإدارة الذاتية في قضاء شنكال.

رأت أنقرة في هذا الهجوم فرصة للانقلاب على كل ما روجت له سابقاً من حديث عن حل قضية مركزية في منطقة الشرق الاوسط بحجم القضية الكردية، وإنهاء الكفاح المسلح وبناء دولة قانون ومواطنة، وانطلقت لفعل عسكري تدميري، مستغلة الحدث لممارسة المزيد من التخريب والتهجير، وتعميق العداء والكراهية.

الهجمات التركية على البنية التحتية في إقليم شمال وشرق سوريا وقضاء شنكال، غطت على حدث كبير وهو لقاء عمر أوجلان، البرلماني عن حزب المساواة والديموقراطية للشعوب، بالقائد الكردي عبد الله أوجلان، الذي تفرض عليه الدولة التركية عزلة مشددة منذ 40 شهراً.

ونقل عمر أوجلان عن القائد الكردي، استعداده، نظرياً وعملياً، لحل القضية الكردية بشكل سلمي وديموقراطي، وإنهاء حالة الحرب بين الشعب الكردي والدولة التركية. لكن بدل أن تقتنص الحكومة في أنقرة هذا التصريح/ الفرصة، وتعمد لترجمة التصريحات السابقة لمسؤولي الدولة من حكومة ومعارضة، عادت للوراء، وقلبت الطاولة على الجميع، وبدأت في القصف والتدمير والتخريب، في إطار سياسة الارض المحروقة، حيث الهدف هو اجتثاث الكرد وتهجيرهم.

وكان مسؤولون كبار في حزب العمال الكردستاني ( بسي خوزات، مراد قره يلان ومصطفى قره سو) قد أعربوا عن شكوكهم العميقة في نوايا الدولة التركية، محذرين من “كمين” تريد أنقرة نصبه أمام الكرد وحركتهم، لإضعاف الحركة، استعدادا لأي تطورات قد تحدث في المنطقة (إيران وشرق كردستان خاصة) جراء التصعيد الكبير والحرب بين إسرائيل وايران وحلفائها في غزة ولبنان واليمن والعراق وسوريا.

 وإن الحديث المفاجئ عن “الأخوة” و”التلاحم الداخلي” و”الحل”، بينما آلة الحرب التركية تقصف الكرد وتحتل مدنهم، وتهجرهم وتمكن الميليشيات الخارجة عن القانون من رقابهم، لا يبدو صادقاً ولا ينم عن قناعة وتوجه جذري للسلام والحل الديموقراطي. إنها أقرب إلى “تكتيك مرحلي”، قد يشي ببعض الأمل، توهن معه العزائم، وتختلف حوله المواقف، ريثما تستعد تركيا وتعي حجم ومديات التغييرات الإقليمية المنتظرة.

تتمحور قراءة الحركة الكردية حول الأساسيات التي يجب أن تتغير في تركيا إذا ما كانت فعلاً تريد السلام والحل الديموقراطي.

أما الحديث عن “الندم” والاستفادة من “قانون الأمل”، ودعوة قائد الحركة لإنهاء الكفاح المسلح، بدون برنامج حل وتغيير دستوري يقوم به البرلمان، ويكون الطرف الكردي حاضراً في كل حيثياته، فهو خداع تقوم به أنقرة، وكسب للوقت و”كمين” لن يقع فيه الجانب الكردي، مثلما حدث بين أعوام 2013 و 2015.

تركيا موضوعة الآن أمام الحقيقة، إما أن تختار السلام والحل السياسي الحقيقي، أو تستمر في الحرب والرهان على الحسم العسكري. تصورها أن حزب العمال الكردستاني ضعيف وغير قادر على الرد، خيال وخداع للذات.

والقفز فوق دور أوجلان والحركة، لم ولن ينجح.

ثمة فرصة أمام أنقرة وهي أن تتخلى عن سياسة الحرب وأن تتوقف عن الاعتقاد بأن الطرف الآخر بات ضعيفا (كما تفعل منذ أكثر من 40 عاماً)، وأن تتجه لطاولة المفاوضات بنية صادقة لتجلس مع أوجلان ورفاقه بغية حل القضية الكردية، لتنتهي الحرب، ويتوقف هدر مليارات الدولارات، وتظهر “دولة المواطنة والقانون” فعلاً، ويكون “التلاحم الداخلي” حقيقة، لا كمائن ومؤامرات، لن تفضي إلا للمزيد من الشروخ والانهيار الاقتصادي وسفك الدماء.


27/10/2024