*مجلة"فورين بوليسي"الامريكية
دانيال بايمان: توصلت إسرائيل و"حزب الله" إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ليضع حدا لحرب دامت أكثر من ثلاثة عشر شهرا. وأعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن هذا الاتفاق يوم الثلاثاء، ودخل حيز التنفيذ في وقت متأخر من الليل بالتوقيت المحلي للمنطقة.
وأسفرت الحرب حتى الآن عن مقتل نحو 4000 من مقاتلي "حزب الله" والمدنيين اللبنانيين، بالإضافة إلى أكثر من 100 من المدنيين والجنود الإسرائيليين. كما تسببت في نزوح نحو 60 ألف إسرائيلي و1.2 مليون لبناني.
يعتمد وقف إطلاق النار على فكرة نشر الجيش اللبناني في جنوب لبنان لتكون حاجزا بين إسرائيل و"حزب الله". ومع ذلك، لا تزال الكثير من التفاصيل المتعلقة بالوضع العام غير واضحة.
ما حجم الأضرار التي ألحقتها إسرائيل بـ"حزب الله"؟
دخل "حزب الله" المعركة بعد يوم واحد من هجمات "حماس" الوحشية يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على إسرائيل، والتي أسفرت عن مقتل ما يقرب من 1200 إسرائيلي وأدت إلى حرب مدمرة شنّتها إسرائيل في غزة.
ويُعتبر "حزب الله" أحد أقوى الجماعات المسلحة عالميا، حيث تشير التقديرات إلى أن "الحزب" كان يمتلك في بداية الحرب نحو 150 ألف صاروخ وقذيفة، إلى جانب قوة قتالية تضم نحو 30 ألف مقاتل دائم و20 ألفا من قوات الاحتياط، معززة بشبكة واسعة من المواقع المحصنة الممتدة عبر مختلف أنحاء لبنان ومدعومة بقيادة عسكرية ذات كفاءة عالية وسمعة مرموقة. تميزت بعض أنظمة "حزب الله" بالدقة الفائقة التي مكّنته من استهداف القواعد العسكرية الإسرائيلية والمطارات والبنية التحتية الحيوية، بالإضافة إلى اعتماده على ترسانة كبيرة من الأنظمة غير الموجهة لإطلاق وابل مكثف من الصواريخ باتجاه التجمعات السكانية الإسرائيلية.
بالإضافة إلى ذلك، كان مقاتلو "حزب الله" يتمتعون بتدريب عالي المستوى تحت إشراف إيران، إلى جانب خبرة قتالية واسعة اكتسبوها عبر سنوات من المشاركة في القتال دعما لنظام بشار الأسد في سوريا.
ولكن على مدار العام الماضي، نفّذت إسرائيل سلسلة من الهجمات المدمرة ضد "حزب الله"، ما تسبب في إضعاف قوة الجماعة بشكل كبير. ففي سبتمبر/أيلول، وخلال عملية استخباراتية بارعة، قامت إسرائيل بتخريب آلاف أجهزة النداء والاتصالات اللاسلكية وبعض أجهزة الحاسوب المحمولة التي يستخدمها "حزب الله"، ما أسفر عن مقتل أو إصابة الكثير من مقاتلي "الحزب". بالإضافة إلى ذلك، بدأت إسرائيل باستهداف ممنهج لقادة كبار في "حزب الله"، ومن بينهم زعيمه الكاريزماتي والمحنك حسن نصرالله، إلى جانب عدد من القادة البارزين الآخرين.
وقد أسفرت الغارات الجوية الإسرائيلية عن مقتل مئات من مقاتلي "حزب الله"، وأعلن مسؤولون أميركيون وإسرائيليون أن إسرائيل دمرت نصف ترسانة "حزب الله" من الصواريخ والقذائف. كما أن العمليات البرية الإسرائيلية على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية دمرت أنفاقا ومواقع تابعة لـ"حزب الله" هناك.
ورغم أن "حزب الله" لا يزال قادرا على إطلاق وابل كثيف من الصواريخ على إسرائيل، فإن الصراع كان من طرف واحد، حيث كانت خسائر إسرائيل ضئيلة مقارنة بخسائر "حزب الله". فالجماعة المدعومة من إيران باتت أضعف بكثير مقارنة بوضعها قبل عام، نتيجة الفوضى التي اجتاحت صفوف قيادتها والضرر الكبير الذي لحق بسمعتها.
هل يمكن لـ"حزب الله" إعادة تسليح نفسه؟
سيحاول "حزب الله" إعادة بناء ترسانته من الأسلحة وتحسين جودة أنظمته. وبعد حرب عام 2006 بين إسرائيل و"حزب الله"، قدمت إيران دعما ماديا وعسكريا كبيرا للجماعة اللبنانية، التي ما زالت تعتبرها حليفا رئيسا في مواجهة إسرائيل، والتي ازدادت أهميتها بالنسبة لها مع تفاقم الدمار الذي لحق بـ"حماس"، الحليف الآخر لطهران.
وقد تسعى إيران إلى تزويد "حزب الله" بأنظمة موجهة بدقة وأسلحة أكثر فعالية في مواجهة إسرائيل. وفي المقابل، يحرص "حزب الله" على إعادة بناء قدراته العسكرية، مدفوعا بمخاوفه من احتمال تجدد الصراع مع إسرائيل، إضافة إلى رغبته لأن يكون أقوى قوة عسكرية في لبنان، حيث يواصل العمل كدولة داخل الدولة.
وتشكل روسيا ورقة غامضة في هذه المعادلة. فقد تعاون "حزب الله" وروسيا في سوريا، ومنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، تعززت العلاقات بين روسيا وإيران. وقد اكتشفت إسرائيل كميات كبيرة من الأسلحة الروسية بحوزة "حزب الله"، رغم أن معظم هذه الأسلحة يُرجح أن مصدرها سوريا، التي حظيت بدعم موسكو لفترة طويلة.
وفي إطار سياستها الخارجية المناهضة للولايات المتحدة، قد تقرر روسيا تعزيز مساعداتها لإيران، مع علمها بأن جزءا من هذه المساعدات قد يصل إلى لبنان.
كيف سترد إيران على خسائر وكيلها؟
إن الضربات الإسرائيلية التي تستهدف "حزب الله" تُلحق الضرر بإيران أيضا. فعلى الرغم من أن طهران تقدم دعما لجماعات مسلحة أخرى، مثل الميليشيات في العراق والحوثيين في اليمن وغيرهما من الفصائل المتطرفة في الشرق الأوسط، فإن "حزب الله" يظل أبرز وكلائها.
وقد خاضت إيران مواجهات مباشرة مع إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، وكانت المعارك أحادية الجانب أيضا، إذ تمكنت الدفاعات الجوية الإسرائيلية من تدمير موجات كبيرة من الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية، فيما أظهرت الضربات الإسرائيلية الدقيقة على مواقع الدفاع الجوي الإيرانية وأهداف عسكرية أخرى تفوق قدراتها.
بالإضافة إلى تعزيز دعمها لـ"حزب الله"، يُرجح أن تزيد إيران دعمها للحوثيين في اليمن. فالحوثيون يمثلون النقطة المضيئة الوحيدة لطهران في مواجهتها مع إسرائيل، إذ قدمت لهم إيران التدريب والأسلحة قبل النزاع الأخير، كما أن هجماتهم على السفن في البحر الأحمر، تضامنا مع "حماس" بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، شكلت ضربة لإسرائيل ومصر والولايات المتحدة وأعداء إيران الآخرين.
لكن التساؤل الأهم يظل حول ما إذا كانت خسائر إيران في النزاع الحالي، إلى جانب الخطاب العدائي للإدارة الأميركية القادمة بقيادة ترمب، ستدفعها نحو تطوير سلاح نووي. فطهران أصبحت قريبة بالفعل من هذا الهدف، وفقا لتقرير استخباراتي أميركي صدر في يوليو/تموز، والذي أفاد بأن "إيران تواصل زيادة حجم مخزونها من اليورانيوم، وتعزيز قدرتها على التخصيب، وتطوير وإنتاج وتشغيل أجهزة طرد مركزي متقدمة. وتمتلك طهران البنية التحتية والخبرة اللازمة لإنتاج اليورانيوم المستخدم في الأسلحة بسرعة في منشآت متعددة، إذا ما قررت القيام بذلك".
ومن المرجح أن إيران لم تحسم قرارها بعد، لكن فقدانها لوكيلها وفشلها في تحقيق الردع الصاروخي يعززان دوافعها لتطوير السلاح الرادع النهائي، مما يرفع من احتمالية اندلاع حرب تقودها إسرائيل والولايات المتحدة لمنع تحقق هذا السيناريو الكارثي.
هل سيعود الإسرائيليون واللبنانيون إلى منازلهم؟
وسّعت إسرائيل نطاق الحرب ضد "حزب الله" تحت شعار إعادة النازحين الإسرائيليين إلى منازلهم، والذي يستلزم وقف الهجمات الحدودية التي يشنها "الحزب". وفي المقابل، يحتاج المدنيون اللبنانيون أيضا إلى تحقيق الاستقرار على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية، إذا ما أرادوا العودة إلى جنوب لبنان واستئناف حياتهم هناك.
وسيتوخى المدنيون على كلا الجانبين الحذر عند العودة إلى منازلهم. فقد أضعفت إخفاقات 7 أكتوبر/تشرين الأول الاستخباراتية والعسكرية مصداقية أجهزة الاستخبارات والقوات المسلحة الإسرائيلية، المعروفة بكفاءتها.
وعلى الرغم من أن العمليات ضد "حزب الله" أسهمت في استعادة جزء من هذه المصداقية، فإن الإسرائيليين سيظلون على الأرجح متشككين في وعود الحكومة بأن الأزمة هذه المرة باتت تحت السيطرة. وسيحتاج الأمر إلى عدة أشهر من الهدوء لطمأنة مخاوفهم بشكل كامل.
يعيش المدنيون اللبنانيون النازحون من الجنوب والمناطق التي يسيطر عليها "حزب الله" في بيروت وأجزاء أخرى من البلاد تحت وطأة مخاوف تجدد الحرب. ومن المحتمل أن يشعروا بالقلق من أن تعتبر إسرائيل أي علامة على عودة "حزب الله" إلى الجنوب أو إعادة بناء قواته مبررا لاستئناف القصف. إضافة إلى ذلك، يتردد الكثير منهم في العودة، رغم افتقارهم إلى شبكة أمان يعتمدون عليها أثناء انتظارهم لمعرفة ما إذا كان وقف إطلاق النار سيصمد بالفعل.
هل ستتجدد الحرب؟
هناك أمل حقيقي في أن يستمر اتفاق وقف إطلاق النار، رغم وجود الكثير من التساؤلات. ففي عام 2006، ساد اعتقاد بين الكثير من الإسرائيليين بأن أداء جيشهم كان ضعيفا، وأن "حزب الله" قد يسعى إلى جولة جديدة من المواجهات. ومع ذلك، تبين أن هذا التشاؤم لم يكن في محله، إذ التزم الطرفان بوقف إطلاق النار إلى حد كبير بعد عام 2006، حتى وقعت هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، مما أتاح قرابة 20 عاما من السلام.
هذه المرة، تكبد "حزب الله" خسائر أشد بكثير، مما يستدعي إعادة بناء قواته وترسانته ليتمكن من مواجهة إسرائيل. علاوة على ذلك، فإن إخفاقاته المدمرة في مجال الاستخبارات المضادة ستجبره على أن يكون أكثر حذرا، إذ سيظل قلقا من احتمال اختراق إسرائيل لاتصالاته أو مراقبته وتنفيذ ضربات دقيقة ضده.
يعتمد الكثير على الجهة التي ستتولى تطبيق السلام ومدى فعالية هذا التطبيق. وتشير التقارير الحالية إلى أن الجيش اللبناني سينتشر في جنوب لبنان كحاجز بين إسرائيل و"حزب الله". ولكن الجيش اللبناني أضعف من "حزب الله"، ومن غير المرجح أن تعتمد إسرائيل في أمنها على الجيش اللبناني، خاصة في ضوء سجله الضعيف.
ونظرا للتشكيك في قدرة الجيش اللبناني على فرض الاستقرار، ومع توقعات بمحاولات "حزب الله" لإعادة بناء قدراته، قد تستمر إسرائيل في استهداف أنظمة الأسلحة ومخازن "حزب الله" التي تعتبرها تهديدا، حتى في ظل وقف إطلاق النار. بالإضافة إلى ذلك، قد تهاجم إسرائيل شخصيات عسكرية إيرانية تدعم "حزب الله"، وكذلك قادة في "الحزب" نفسه.
بعد 7 أكتوبر، أصبحت إسرائيل أقل إيمانا بالردع التقليدي وأكثر اقتناعا بضرورة إبقاء أعدائها في حالة ضعف دائم. وقد تنظر إلى الضربات المحدودة كوسيلة لإيصال رسالة واضحة، وهي سياسة قد تثبت فعاليتها. ومع ذلك، فإن مثل هذه الضربات تحمل دائما خطر التصعيد وتجدد الحرب.