×

  قضايا كردستانية

  الوحدة الكردية بين الضرورة الوجودية وبراغماتية الأطراف والمصالح الحزبية الضيقة



*لقمان جارو

في التاريخ السياسي الحديث لشعوب الشرق الأوسط، يُعدّ المسار الكردي أحد أكثر المسارات تعقيدا وتشابكا، نظرا لتعدد الفضاءات الجيوسياسية التي يتحرك فيها الكرد، والاختلافات البنيوية بين أحزابهم، وتباين أولوياتهم المرحلية. وفي قلب هذا الواقع المضطرب، يبرز سؤال محوري: هل تمثل الوحدة الكردية ضرورة وجودية تُحتّمها الظروف، أم أنها مجرد أداة براغماتية تستخدمها الأطراف الكردية بحسب مقتضيات الحاجة والضغط السياسي؟

 

أولا: الوحدة الكردية كضرورة وجودية

من حيث المبدأ، تُعدّ الوحدة الكردية عاملا حيويا لبقاء الكيان الكردي سياسيا وثقافيا. فالكرد، الذين يعيشون في أربع دول (تركيا، إيران، العراق، وسوريا)، يواجهون سياسات تهميش، وقمع، وصهر قومي متفاوتة الشدة، لكنها تشترك في الهدف: منع تشكل هوية كردية جامعة ذات فعالية سياسية.

-في تركيا، تُنكر الدولة منذ تأسيسها وجود “شعب كردي” مستقل، وتُخضع كل تعبير عن الهوية الكردية لمعادلة “الخطر الأمني”.

-في إيران، رغم الاعتراف الشكلي بالتعدد القومي، يخضع الكرد لرقابة أمنية وملاحقات مستمرة، مع إقصاء من معظم مراكز القرار.

-أما في سوريا، فالتجربة الكردية وُلدت من رحم الحرب، وما زالت تبحث عن شرعية داخلية وخارجية في ظل التوازنات الإقليمية .

-وفي العراق، ورغم وجود كيان فيدرالي كردي، فإن الانقسامات الداخلية والتجاذبات الإقليمية تُضعف من قدرة الإقليم على لعب دور وحدوي أو قيادي.

كل هذه التحديات، تجعل من الوحدة الكردية ضرورة وجودية، ليس فقط لتحقيق الحلم القومي، بل لضمان الحد الأدنى من الحقوق المدنية والثقافية والسياسية داخل كل كيان كردي محلي. فبدون تنسيق كردي واسع، يبقى كل مشروع عرضة للعزلة والابتلاع.

 

ثانيا: براغماتية الأطراف الكردية ومآلات الانقسام

رغم الشعارات الرنانة حول “الوحدة الوطنية الكردية”، فإن سلوك الأطراف الكردية غالبا ما يخضع لاعتبارات براغماتية ضيقة.

-ففي العراق، تهيمن الحزبين (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) على المشهد السياسي، وتتنازع السيطرة والنفوذ حتى داخل الإقليم نفسه. العلاقات الخارجية، لا سيما مع تركيا وإيران، تُستخدم كورقة ضغط متبادل بدل أن تكون وسيلة لتعزيز الموقف الكردي الإقليمي.

-في سوريا، تمثّل “الإدارة الذاتية الديمقراطية” نموذجا مختلفا، لكنه مثير للجدل داخل البيت الكردي ذاته. إذ تُتّهم هذه الإدارة من قِبل بعض الأطراف الكردية والمرتهنة لأجندات خارجية بالهيمنة الإيديولوجية والارتباط العضوي بحزب العمال الكردستاني، مما يجعل التنسيق الكردي – هشا وخاضعا لعدة اعتبارات، ويُعطي ذريعة إقليمية لتهميش المشروع

-حتى في تركيا، حيث خاض الكرد تجربة العمل السياسي الشرعي عبر حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) وحاليا ( dem) فإن الثقل الأمني والعسكري للنظام، إلى جانب التهميش الدولي، جعل من كل محاولة للتنسيق مع الكرد في الدول المجاورة عملا محفوفا بالمخاطر، ما دفع الحزب إلى الانغلاق النسبي داخل الحدود التركية والعمل على حل القضية كردية سياسيا برلمانيا دستوريا ، والتعامل بأسلوب دبلوماسي توافقي في هذا الشأن.

في المحصلة، يمكن القول إن البراغماتية الكردية فاقت في كثير من الأحيان الحس الوجودي. كل طرف كردي يُغلب أولوياته المرحلية ومكاسبه المحلية، حتى لو كان الثمن تآكل الحلم الكردي الأشمل.

 

ثالثا: الوحدة كشعار تعبوي أم خيار إستراتيجي؟

تطرح التجربة الكردية تساؤلا وجوديا: هل الوحدة الكردية مجرّد شعار يستخدم للتعبئة، أم أنها خيار إستراتيجي يمكن تحقيقه ضمن ترتيبات واقعية؟

الحقيقة أن تحقيق “وحدة كاملة” بين الكرد في الدول الأربع يبدو صعبا، إن لم يكن مستحيلا، في ظل التوازنات الدولية والإقليمية الحالية. لكن يمكن التأكيد على المشروع والطرح الذي قدمه القائد عبدالله اوجلان المتمثل بالكونفدرالية المجتمع الكردستاني، والتي تعتبر أكثر واقعية بالنظر إلى الواقع الكردي والإقليمي والتي تنبني على:

-الاعتراف بالتعددية السياسية والإيديولوجية داخل الحركة الكردية.

-احترام الخصوصيات الجيوسياسية لكل جزء من كردستان.

-إنشاء آلية تشاور دائم بين الأحزاب والمؤسسات الكردية الكبرى.

-الاتفاق على “ثوابت كردية عليا” تُشكل أرضية مشتركة للعمل، مثل حماية الهوية، ورفض التقاتل الداخلي، والتنسيق الإقليمي.

 

فهم واقعي لفكرة الوحدة :

الوحدة الكردية ليست شعارا طوباويا، بل شرطا لبقاء الكرد كلاعب سياسي فاعل في الشرق الأوسط. غير أن هذا الشرط يصطدم بتناقضات الداخل الكردي، وبالضغوط الإقليمية والدولية. لذلك فإن المطلوب ليس وحدة عاطفية أو قومية أو جغرافية مجردة (تجارب الوحدة العربية وغيرها في يوغسلافيا و تشيكوسلوفاكيا وغيرها الكثير والتي باءت بالفشل )، بل وحدة سياسية عقلانية، تنبع من فهم عميق للتحديات، وتحويل الضرورة الوجودية إلى واقع تدريجي قابل للبناء.

إن لم يتجاوز الكرد براغماتية اللحظة إلى استراتيجية البقاء، فقد يجدون أنفسهم يوما أمام واقع جديد، لا يمنحهم حتى حق الحلم.

*موقع(PYD)


22/06/2025