*كنان السيد
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، دخلت البلاد في دوامة من التغييرات الجذرية التي أثرت بشكل عميق على مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي خضم هذا الدمار والانهيار المؤسساتي، برزت تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا كنموذج متماسك وفعّال لإدارة المناطق، في وقت انهارت فيه مؤسسات الدولة في معظم أنحاء البلاد.
هذا النموذج لم يأتِ بالصدفة، بل كان ثمرة نضال شعبي وتكاتف مجتمعي، استطاع أن يحافظ على الأمن والاستقرار، ويحقق التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع، ويؤسس لمؤسسات مدنية ديمقراطية تؤمن بالشراكة الحقيقية لا بسيطرة مكون واحد. قامت الإدارة الذاتية على مبدأ الشراكة المجتمعية والتمثيل العادل، فأتاحت المجال أمام جميع القوميات والطوائف والأديان للمشاركة في صناعة القرار، سياسيا وإداريا وعسكريا.
المكونات التي تعيش في هذه المناطق من عرب وكرد وآشوريين وسريان وكلدان وتركمان وشركس وأرمن، إضافة إلى المسلمين بمذاهبهم والإيزيديين وغيرهم. إذ أثبت هذا التنوع أنه أرضية متينة لبناء السلام والتآخي، وجعل من مناطق الإدارة الذاتية أكثر المناطق السورية أمنا واستقرارا.
على الصعيد الأمني، لعبت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ووحدات حماية المرأة (YPJ) – المؤلفتان من أبناء وبنات المنطقة دورا حاسما في مواجهة الإرهاب. فقد تصدّت هذه القوات ببسالة لهجمات تنظيم “داعش” الإرهابي، الذي لم يكن يشكل تهديدا محليا فقط، بل تهديدا عالميا. في الوقت الذي كانت فيه مناطق واسعة من سوريا تحت رحمة التنظيمات المتطرفة، وقفت “قسد” كجدار منيع، ودافعت عن المدنيين، وحمت النساء والأطفال والشيوخ من مجازر مروعة، وكبحت محاولات زرع الفتنة بين مكونات المنطقة.
قاومت “قسد” تلك التنظيمات الإرهابية دفاعا عن قيم العيش المشترك، وحافظت على الأرواح والعلاقات بين الطوائف. وكانت هذه القوات حائط الصد الأول في معركة بقاء المنطقة حرة وآمنة.
سياسيا، أرست الإدارة الذاتية نظاما ديمقراطيا لا مركزيا، قائما على المجالس المحلية والهيئات التنفيذية، يمنح سلطات حقيقية للإدارات القاعدية. هذا النهج سمح للسكان بإدارة شؤونهم بأنفسهم، ورسّخ مبدأ “الإدارة من قبل الشعب ولصالح الشعب”. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة كالحصار الاقتصادي وقلة الموارد، فقد تمكنت الإدارة من بناء مؤسسات خدمية تلبي احتياجات الناس وتعمل على تطوير المجتمع.
إن تجربة الإدارة الذاتية، رغم صعوباتها، تمثل بارقة أمل حقيقية لسوريا المستقبل سوريا ديمقراطية تعددية، تحترم تنوعها وتمنح الشعوب حقها في تقرير مصيرها بنفسها، وتقطع الطريق على الاستبداد والتهميش الذين عانوا منهما لسنوات طويلة. .
ومن هنا، فإن أي حكومة سورية مستقبلية سواء كانت انتقالية أو دائمة لا يمكن أن تتجاهل هذا النموذج. بل يجب أن تستفيد منه وتطوره وتوسعه ليشمل باقي المناطق السورية. فقد أثبتت تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وسط أزمات وصراعات معقدة، أنها نموذج قابل للحياة، بل وربما هو الخيار الواقعي الوحيد لبناء سوريا جديدة.
سوريا ليست دولة موحدة الثقافة أو القومية أو الدين، بل هي نسيج فسيفسائي غني. وأي نظام سياسي لا يعترف بهذا الواقع ولا يضمن التمثيل العادل لكل المكونات، فهو مشروع فاشل منذ ولادته. في المقابل، أثبتت الإدارة الذاتية أن التشاركية والعدالة المجتمعية هما الأساس الحقيقي لبناء دولة مستقرة وآمنة.
تجربة الإدارة الذاتية لم تعد مجرد مشروع محلي، بل تحولت إلى مشروع وطني شامل يؤسس لسوريا جديدة عادلة، يتساوى فيها المواطنون دون تمييز، وتُبنى فيها الدولة على أسس ديمقراطية حقيقية، خالية من الإقصاء والهيمنة، وتفتح الباب أمام مستقبل يشارك فيه جميع السوريين، من دون استثناء.
*PYD