×

  کل الاخبار

  الثابت والمتغير في السياسة العراقيَة



*د. حيدر البرزنجي

 

تشكل الحالة العراقية نموذجا سياسيا استثنائيا في مجال الفكر السياسي، إذ ينقلب فيها المفهوم الكلاسيكي للثابت والمتغير رأسا على عقب.

 ففي الدول المستقرة، ينظر إلى الثابت بوصفه منظومة قواعد راسخة، وقيم دستورية أو وطنية لا تتبدل أمام الأزمات أو المتغيرات الطارئة. أما في العراق، فقد أضحى المتغير هو الأصل، بينما تحول الثابت إلى مجرد خطاب إعلامي أو أمنية بعيدة المنال.

 

ويعود هذا الوضع إلى عدة أسباب بنيوية وسياقية متشابكة. أولها، الطابع الهوياتي للنظام السياسي العراقي، الذي تأسس بعد 2003 على قاعدة المحاصصة الطائفية والعرقية، كآلية مرحلية لإدارة التعددية وضمان مشاركة مختلف المكوّنات في السلطة. وهنا يجب التأكيد أن الهويات الفرعية والمكونات الاجتماعية ليست في ذاتها موطن ضعف أو عيب، بل هي مصدر اعتزاز وثراء حضاري وثقافي.

فالعراق بلد متعدد القوميات والمذاهب والأديان، وهذا التعدد إذا أُحسن توظيفه في إطار وطني جامع، يمكن أن يكون عنصرا من عناصر قوته، لا سببا لضعفه.لكن الإشكالية تبدأ حين تتحول الهويات إلى معيار وحيد في بناء التحالفات السياسية، أو تصبح بديلا عن الهوية الوطنية الجامعة. وهنا تغيب إمكانية بناء استراتيجيات طويلة المدى، لأن كل تحالف أو قرار سياسي يصبح مشروطا بحسابات الهوية، لا بحسابات المصلحة الوطنية.

وأمثلة ذلك حاضرة بوضوح في السنوات الأخيرة: ورأينا كيف أن تشكيل الحكومات بعد كل انتخابات يتحوّل إلى عملية شاقة ومعقدة، إذ تدخل فيها حسابات التوازن الهوياتي قبل أية اعتبارات برامجية أو وطنية.

 مثلما حدث بعد انتخابات 2018 و2021، حين استغرقت مفاوضات تشكيل الحكومة أشهرا طويلة، تخللتها انسحابات وتبدل مواقف، وانقسامات حتى داخل المكوّن الواحد.وفي أزمة حكومة عادل عبد المهدي (2019)، انهارت حكومة بدت مستقرة بسبب الاحتجاجات الشعبية، لكن أيضا بسبب غياب رؤية موحدة بين القوى السياسية لكيفية إدارة الأزمة، إذ كان لكل طرف حساباته الهوياتية والخارجية التي حالت دون صياغة مشروع إصلاحي مشترك.

وأخيرا، رأينا كيف انعكست الأزمة الإقليمية بين إيران وأميركا على الساحة العراقية مباشرة، فصارت المواقف السياسية داخل العراق تنقسم بين محورين، وتتأرجح الخطابات السياسية بين الانحياز لمحور المقاومة أو دعوات النأي بالنفس، دون وجود رؤية وطنية صلبة تستند إلى مصلحة العراق كمعيار أوحد.

إن العامل الثاني الذي يعمق من حضور المتغير هو العراق كفضاء جيوسياسي مفتوح أمام الصراعات الإقليمية والدولية.

فالقرار السياسي العراقي، مهما بدا محليا، غالبا ما يتأثر بإرادات القوى الإقليمية والدولية. وأصبح العراق ميدانا لتنافس مشاريع كبرى: مشروع أميركي، مشروع إيراني، مشاريع تركية وخليجية، فضلا عن الفاعلين الدوليين.

 وهكذا يجد السياسي العراقي نفسه محاصرا بتوازنات خارجية، تجبره أحيانا على تغيير موقفه أو التحالفات التي يعقدها، مثلما رأينا في مواقف بعض الكتل من قانون إخراج القوات الأجنبية، أو في إدارة العلاقة مع التحالف الدولي، أو حتى في المواقف من ملفات مثل التطبيع أو التعامل مع أزمة غزة أو الأزمة السورية.

أما العامل الثالث، فهو ضعف الدولة العراقية كمؤسسة جامعة. الدولة ما زالت تعاني من ضعف القدرة على فرض المعادلة الثابتة من إدارة الموارد بعدالة. غياب هذه الدولة القوية جعل السياسة أسيرة الإرادات الشخصية أو الزعاماتية، بدلا من أن تكون مؤسساتية تحكمها القوانين والدستور.

 ومن هنا نجد السياسة العراقية تتحرك في دائرة ردود الأفعال، حيث يغيب الفعل الاستراتيجي الطويل المدى.وفي خضم هذا المشهد المعقد، يبرز خطاب المرجعية الدينية العليا بوصفه خطابا إصلاحيا عميقا، يسعى إلى إعادة توجيه بوصلة العمل السياسي نحو الثابت الوطني.

ففي خطابها الأخير، طرحت المرجعية ثلاثة محاور بالغة الأهمية:

 

1 ـ ضرورة حساب المحتملات وصناعة الممكنات:

 أي ضرورة التفكير السياسي العميق في كافة السيناريوهات والاحتمالات، ووضع خطط واقعية تستوعب تعقيد المشهد العراقي والإقليمي والدولي.

فالسياسة ليست مجرد رد فعل أو ارتجال، بل هي فن تقدير المواقف واستشراف ما هو قادم، وصناعة الممكن من داخل الممكنات الواقعية. هذا الخطاب يمثّل نداء مباشرا إلى الطبقة السياسية بأن تكفّ عن إدارة الأزمات بمنطق اللحظة وأن تبدأ في صناعة استراتيجيات قابلة للصمود أمام التحولات.

 

2 ـ رفض الحياد في اللحظات المصيرية، وضرورة تحديد الموقف بين محور الحق ومحور الباطل:

وهو طرح يحمل أبعادا أخلاقية وسياسية في آن معا. فالمرجعية ترى أن السياسة ليست مجالا رماديا مطلقا، بل هناك مواقف تُصنّف بوضوح في سياق الحق أو الباطل، ولا يجوز التذرع بالحياد حين تكون مصالح الوطن أو كرامته أو وحدته على المحك. وهنا نجد خطاب المرجعية يلتقي مع أرقى المفاهيم السياسية التي ترى أن جوهر السياسة هو حماية الصالح العام والانحياز إلى العدالة والحق، مهما كانت الكلفة.

 

3 ـ استعادة الثقة بين الشعب والدولة:

 حيث أكدت المرجعية أن تكرار الأزمات سببه غياب مشروع وطني جامع، وضعف الالتزام بالمعايير الأخلاقية والوطنية. فلا يمكن بناء استراتيجيات دون استعادة هذه الثقة المفقودة بين الدولة ومواطنيها.وتتضح أهمية هذا الخطاب حين نربطه بالأمثلة السياسية الواقعية: حين تتعالى الأصوات المنادية بإصلاح النظام الانتخابي أو تغيير المفوضية، فإن المرجعية تدعو إلى حلول مدروسة، تراعي حساب الاحتمالات حتى لا يتحول الإصلاح نفسه إلى سبب لأزمة أكبر.

وفي لحظات الأزمات الأمنية، مثل ما حدث في اقتحام المنطقة الخضراء أو أحداث العنف في بغداد والبصرة، دعت المرجعية السياسيين إلى تحديد موقف واضح، لأن التردد أو الحياد قد يكون سببا في تفاقم الأزمة.وفي موضوع السيادة، ترى المرجعية أن العراق يجب أن يحدد موقعه بوضوح بين مشاريع الحق والباطل، فلا يقبل أن يكون أداة في صراعات الآخرين، ولا يتنازل عن استقلال قراره الوطني.

إن خطاب المرجعية ليس مجرد وعظ ديني، بل هو خطاب سياسي عميق، يقدم مرتكزا نظريا يمكن البناء عليه لصياغة ثابت سياسي عراقي. فهو يؤكد أن الهويات الفرعية عنصر قوة وثروة اجتماعية يجب احترامها، لكن ينبغي ألا تتحول إلى معيار وحيد لبناء النظام السياسي أو تحديد السياسات.

إن الخروج من أسر المتغير يتطلب إرادة سياسية حقيقية لبناء دولة وطنية قوية، تحترم هويات مكوّناتها لكنها تؤطرها ضمن عقد اجتماعي واحد، وتكون قادرة على صياغة استراتيجيات وطنية بعيدة المدى، تقف بوضوح في محور الحق، وتدير مصالحها العليا وفق حساب دقيق للمحتملات وصناعة الممكنات، لا عبر ردود الفعل أو الارتهان لإرادات الخارج.

ذلك وحده هو الطريق نحو بناء عراق مستقر، متماسك، يستطيع تحويل تنوعه إلى مصدر قوة حقيقية، وصناعة مستقبل يتجاوز أزمات المتغير، ويجعل الثابت السياسي واقعا محسوسا لا مجرد خطاب أو امنية.

*صحيفة"الصباح"


03/07/2025