اعداد : د.حمدي سيد محمد محمود مدير المركز الديمقراطي العربي/ القاهرة
يشهد الفكر السياسي المعاصر حالة من الانشغال المتزايد أمام طوفان من القضايا المعقدة والمتشابكة التي تتقاطع في تأثيراتها وتتشابك في تداعياتها على المستويين المحلي والدولي. لم تعد القضايا السياسية مجرد إشكاليات محلية أو إقليمية يمكن احتواؤها داخل حدود الدولة القومية، بل باتت امتداداتها تتخطى الجغرافيا لتشكل معضلات عابرة للحدود، تتطلب نماذج تفكير جديدة، وأدوات تحليلية تتجاوز الأطر الكلاسيكية التي هيمنت على الفلسفة السياسية الحديثة. من بين أبرز القضايا التي تشغل المفكرين السياسيين اليوم، يبرز تراجع الديمقراطية وصعود الشعبوية واليمين المتطرف كأحد التحولات الأكثر إرباكا للمفاهيم السياسية الليبرالية. فقد أدى تآكل الثقة في المؤسسات الديمقراطية إلى تفشي مشاعر الإحباط السياسي، خاصة في ظل العجز المزمن في الاستجابة لتحديات الاقتصاد، والهجرة، والعدالة الاجتماعية.
وأمام هذا الفراغ، وجدت الشعبوية واليمين المتطرف مساحة واسعة للتمدد، حيث بات الخطاب السياسي يتسم بالنزعة التبسيطية، والعاطفية، والاعتماد على استدعاء مفردات الهوية القومية المغلقة في مواجهة الآخر. وفي هذا السياق، يعاني المجال السياسي من استقطاب حاد يعمق الانقسامات الاجتماعية ويقوض إمكانيات التوافق الوطني، في الوقت الذي تتسارع فيه الأحداث والتحولات التي تتطلب من النخب السياسية مستويات عالية من الحكمة والمرونة.
ومن بين أبرز العوامل المؤثرة في المشهد السياسي المعاصر، تبرز التكنولوجيا بوصفها سلاحا ذا حدين، خاصة في ظل الثورة الرقمية وما صاحبها من هيمنة الذكاء الاصطناعي وانتشار الإعلام الرقمي. أصبحت المعلومات، أو بالأحرى المعلومة المضللة، إحدى أدوات تشكيل الرأي العام والتحكم في السلوك الجماهيري. لم يعد من السهل تمييز الحقيقة من الزيف، بل أصبح التضليل الإعلامي جزءا من صناعة السياسة اليومية، تُسخَّر له الجيوش الإلكترونية، وتُبنى حوله استراتيجيات النفوذ والسيطرة.
وفي خضم هذا الواقع الرقمي المتسارع، يفرض الذكاء الاصطناعي إشكاليات جديدة أمام الأنظمة السياسية، إذ يقدم وعودا مغرية بتحسين الكفاءة الإدارية، غير أن هذه الوعود لا تخلو من تهديدات عميقة على مستوى الخصوصية، والعدالة، وحرية الإرادة، بل وحتى على مصداقية العمليات الانتخابية، في ظل إمكانية استخدام الخوارزميات لصناعة “رأي عام مزيف”.
ويزداد المشهد تعقيدا في ظل تصاعد الهجمات السيبرانية التي باتت تمثل تهديدا وجوديا للدول، سواء عبر اختراق البنى التحتية أو التأثير في قرارات السيادة الوطنية، وهو ما يعيد تعريف مفهوم الأمن القومي في العصر الرقمي.
هذه التحديات التكنولوجية تتقاطع مع تحولات أوسع في بنية النظام الدولي، حيث نشهد اليوم نهاية تدريجية للنظام الليبرالي الذي تشكل بعد الحرب الباردة، في مقابل صعود قوى دولية جديدة تعيد رسم خرائط النفوذ الجيوسياسي. فمع تنامي القوة العسكرية والاقتصادية لكل من الصين وروسيا، ودخول أطراف إقليمية فاعلة في معادلة التوازنات، يبرز واقع جديد يتسم بتعدد الأقطاب، وتآكل الهيمنة الغربية، وتراجع دور المؤسسات الدولية التي طالما شكلت الإطار الناظم للعلاقات بين الدول. هذا التحول البنيوي لا يحدث في فراغ، بل يأتي في ظل اشتعال صراعات إقليمية ودولية تغذيها مصالح الطاقة، وصراعات الهوية، وتنافس الموارد، كما هو الحال في أوكرانيا، أو الشرق الأوسط، أو بحر الصين الجنوبي، وهي صراعات تعيد بعث مفاهيم الحرب الباردة في ثوب جديد، معززة بتقنيات القرن الحادي والعشرين.
وفي هذا السياق، تزداد أهمية أمن الطاقة وسلاسل الإمداد، التي لم تعد مجرد قضايا اقتصادية، بل باتت محاور مركزية في استراتيجيات الهيمنة والنفوذ، خاصة بعد الأزمات المتكررة التي أثبتت هشاشة الاعتماد المتبادل في ظل الأزمات الجيوسياسية.
إلى جانب هذه التحولات، تواجه البشرية تحديات عابرة للحدود لا تقل خطرا، بل ربما تفوقها في أثرها الوجودي. يأتي تغير المناخ في مقدمة هذه التحديات، إذ لم يعد بالإمكان تجاهل تداعياته الكارثية على النظم البيئية، والاستقرار الاقتصادي، والسلم الاجتماعي. وقد كشفت الأزمات المناخية المتكررة هشاشة أنماط الإنتاج والاستهلاك السائدة، وحتمية التحول نحو نماذج أكثر استدامة وعدالة.
غير أن هذا التحول يصطدم بعوائق سياسية واقتصادية، ويثير أسئلة معقدة حول العدالة المناخية والمسؤولية التاريخية. كما تشكل قضايا الهجرة واللاجئين إحدى أعقد معضلات العصر، لما لها من تأثير مباشر على التوازنات الداخلية للدول، ولما تطرحه من تساؤلات أخلاقية حول مسؤولية الدول تجاه المعاناة الإنسانية في سياق عالمي يتجه نحو الانغلاق القومي. وقد أظهرت جائحة كوفيد-19 بما لا يدع مجالا للشك أن الأزمات الصحية يمكن أن تشل العالم بأسره، وتُسقط أوهام السيادة المطلقة، وتفرض على الدول إعادة النظر في مفاهيم الأمن، والتضامن، والحوكمة العالمية.
وفي قلب هذا المشهد المتداخل، تطرح مسألة الدولة القومية نفسها من جديد بوصفها كيانا مأزوما، تتقاذفه التحديات من كل صوب. فبين ضغوط العولمة، وتصاعد نفوذ الشركات متعددة الجنسيات، وتحديات الجماعات العابرة للحدود، تفقد الدولة التقليدية الكثير من أدوات سيادتها، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبلها، وإمكانية تجديد دورها في العالم الجديد. وتزداد الصورة تعقيدا مع تغير مفاهيم المواطنة والهوية في ظل تزايد التنوع الثقافي، والهجرات الكبرى، وتصاعد مطالب الأقليات، ما يفرض على النخب السياسية أن تعيد تعريف أسس التعايش، والاندماج، والانتماء، بعيدا عن النزعات الإقصائية أو الاستيعابية التقليدية.
إن تداخل هذه القضايا، وتشابك تأثيراتها، يعكس تعقيد المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم، ويضع المفكرين السياسيين أمام تحدٍ معرفي وأخلاقي كبير: كيف يمكن إعادة بناء المفاهيم السياسية الكبرى بما يتلاءم مع عالم سريع التحول، دون الوقوع في فخ التبسيط أو الحنين إلى ماضٍ لم يعد قادرا على تقديم الأجوبة؟ هذه هي المهمة الفكرية والسياسية العظمى في زمن التحولات الكبرى.