×


  رؤى حول العراق

   الانتخابات العراقية، فرصة غير عادية للولايات المتحدة



*بوبي غوش

مجلة"فورين بوليسي"/الترجمة والتحرير: محمد شيخ عثمان

قد يفاجأ الأمريكيون الذين لم يتابعوا الشأن العراقي على مدى العقد الماضي بمعرفة أن البلاد أجرت للتو انتخابات حرة ونزيهة وسلمية إلى حد معقول. في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، تنافس ما يقرب من 7750 مرشحا على 329 مقعدا برلمانيا في منافسة سارت بسلاسة ملحوظة، وفقا للمعايير المضطربة في المنطقة.

لم تشهد الانتخابات أي أعمال عنف كبيرة، واتهمت بالتزوير بشكل طفيف. ورغم توقعات بانخفاض قياسي في نسبة المشاركة، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 56%، وهي نسبة تضاهي العديد من الانتخابات الرئاسية الأمريكية خلال القرن الماضي.

العراق، الذي لطالما اعتبر رمزا لكل ما قد يسوء في السياسة الخارجية الأمريكية، أظهر مؤخرا مرونة ديمقراطية تفوق ما يظنه منتقدوه. تأمله جيدا، فقد تراه أقرب ما يكون إلى دولة عربية مستقرة وسلمية وديمقراطية حقيقية.

بعد مرور اثنين وعشرين عاما على سقوط صدام حسين، من الجدير بالاعتراف بأن العراق لا يزال صامدا، ولا يزال يصوت، ولا يزال يحاول.

مع ذلك، ما سيأتي لاحقا ليس مؤكدا على الإطلاق. يبدو أن كتلة إعادة الإعمار والتنمية، بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، قد فازت بأغلبية الأصوات في الانتخابات، لكن ليس بما يكفي لتشكيل حكومة بمفردها .

 ومع عدم بروز فائز واضح، قد يستغرق الأمر شهورا من المساومات السياسية حتى تتمكن بعض القوائم البرلمانية الفائزة من تشكيل ائتلاف كبير بما يكفي للحكم. في المرة الأخيرة، استغرقت هذه العملية قرابة عام.

وهنا خبر آخر مفاجئ: أيا كان من سيشكل الحكومة المقبلة ــ سواء كان السوداني، أو منافسه من إطار التنسيق، أو أي مرشح تسوية ــ فمن المؤكد تقريبا أن هذا الشخص سيكون أكثر تقبلا للمصالح الامريكية من المطالب الإيرانية.

لطالما تأثرت عملية تشكيل الحكومة العراقية تأثرا عميقا بالمنافسة بين واشنطن وطهران، حيث تتفوق إيران بسهولة على منافستها العظمى. منذ الغزو الأمريكي عام 2003 الذي أطاح بصدام حسين، هيمنت الأغلبية الشيعية على المشهد السياسي العراقي، وتحافظ العديد من أحزابها على علاقات وثيقة مع إيران، القوة الشيعية الإقليمية.

لكن واشنطن الآن لها اليد العليا، ويعود ذلك جزئيا إلى هزيمة الجمهورية الإسلامية وحلفائها في الحرب القصيرة مع إسرائيل هذا العام. علاوة على ذلك، ينشغل رجال الدين في طهران حاليا بجفاف مدمر يهدد قلب الزراعة الإيرانية. أضف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية المتفاقمة الناجمة عن العقوبات الأمريكية وسوء إدارة النظام، فتتضح حدود النفوذ الإيراني.

يساعد هذا في تفسير سبب إصدار الجهات السياسية العراقية الرئيسية، بما في ذلك تلك التي لطالما تحالفت مع إيران، تصريحات تصالحية تجاه الولايات المتحدة. وقد صوّر السوداني نفسه على أنه الرجل الذي يمكن لواشنطن الوثوق به لإبقاء طهران بعيدة.

والأمر الأكثر لفتا للانتباه هو أن التجمع السياسي المرتبط بميليشيا عصائب أهل الحق المدعومة من إيران، قد أشار إلى تداخل مع الأهداف الأمريكية. وصرح محمود الربيعي، المتحدث باسم عصائب أهل الحق، لصحيفة نيويورك تايمز : "لا نعتقد أن من مصلحة الأمريكيين أن يكون العراق غير مستقر أو أن يشهد اضطرابات".

السؤال هو ما إذا كانت إدارة ترامب قادرة على استغلال هذا التحول الملحوظ في المشاعر العراقية. تتمتع واشنطن بفرصة غير مسبوقة لتشكيل مستقبل العراق السياسي بما يخدم المصالح الأمريكية. لكن استغلال هذه الفرصة يتطلب مهارة دبلوماسية، ومعرفة إقليمية، واهتماما مستمرا - وهي عناصر نادرة في جهاز السياسة الخارجية لإدارة ترامب.

مبعوثا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف وصهره جاريد كوشنر، مشغولان بالفعل بغزة وإسرائيل، فضلا عن السعي لإبرام صفقات تجارية (للولايات المتحدة) وصفقات تجارية (لمجموعة ترامب) مع دول الخليج النفطية.

 أما بالنسبة للعراق، فقد عيّن ترامب مارك سافايا ، رجل أعمال من ديترويت من أصول عراقية ولكنه يفتقر إلى الخبرة الدبلوماسية.

ورحب سياسيون عراقيون بارزون بتعيين سافايا، وهو أمرٌ مشجع. فهو يتحدث العربية، ويفهم الثقافة العراقية، وله علاقات عائلية قد تكون قيّمة. لكن اللحظة تتطلب أيضا شخصا يتمتع بفطنة دبلوماسية لا تشوبها شائبة.

لتحقيق أهداف الولايات المتحدة، يجب أن يكون هذا الشخص قادرا على العمل مع الأحزاب الشيعية دون إغضاب السنة والكورد، والتصدي للنفوذ الإيراني دون دفع السياسيين العراقيين إلى أحضان طهران، واجتياز متاهة البيروقراطية في واشنطن مع الحفاظ على الثقة ببغداد.

منذ سقوط صدام، ثبت أن التعامل مع التعقيدات الطائفية والإثنية والإقليمية للسياسة العراقية أمرٌ يفوق طاقة الدبلوماسيين المخضرمين، مثل جون نيغروبونتي وزلماي خليل زاد، والهواة ذوي النفوذ السياسي، مثل بول بريمر.

لا يوجد في سجل سافايا ما يشير إلى قدرته على إدارة مفاوضات الائتلاف الدقيقة المقبلة أو موازنة المصالح الأمريكية المتضاربة في العراق: مكافحة الإرهاب، واحتواء النفوذ الإيراني، وحماية القوات الأمريكية، والحفاظ على شراكات الطاقة، ودعم التطور الديمقراطي.

مع ذلك، لا شك أن تيار السياسة العراقية يبتعد عن طهران ويتجه نحو واشنطن، لقد أتاح ضعف إيران مساحة للقادة العراقيين لإعادة تقييم علاقاتهم. حظي المرشح الذي عيّنه ترامب بأقوى حظوظ أي مبعوث أمريكي إلى بغداد. نأمل ألا يضيّع سافايا هذه الفرصة.

أكثر ما يثير القلق هو غياب مقتدى الصدر. وقد دعا رجل الدين الشيعي النافذ أتباعه إلى مقاطعة هذه الانتخابات " المعيبة ". يتمتع الصدر بسمعة طيبة كمفسد، فهو لا يتوقع تصرفاته، وقادر على حشد احتجاجات حاشدة، ومستعد لاستخدام العنف عندما يناسب أغراضه.

وتقوّض المقاطعة شرعية الحكومة المقبلة، وتبقي شريحة كبيرة من شيعة العراق دون تمثيل ويفاقم قرار آية الله العظمى علي السيستاني بعدم إصدار دعوته التقليدية للمشاركة في الانتخابات هذا القلق. بإمكان الصدر أن يلعب دورا بنّاء، أو أن ينتظر حتى تشكيل الحكومة، ثم يحرِّك الاحتجاجات للمطالبة بحلها. تكمن المشكلة في عدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته - لا يمكن تحميله مسؤولية إخفاقات النظام، ولكن بإمكانه دائما أن ينسب لنفسه الفضل في إسقاطه.

لم تحلّ الانتخابات العراقية أيا من مشاكل البلاد الجوهرية، ستكون مفاوضات تشكيل الائتلاف فوضوية ومطولة. ستواجه أي حكومة ناشئة عقبات هيكلية أعاقت كل إدارة عراقية منذ عام ٢٠٠٣.

 لا يزال نظام المحاصصة راسخا . يستنزف الفساد مليارات الدولارات من خزينة الدولة. يعتمد الاقتصاد بشكل خطير على عائدات النفط، لكن المهم هو أن العراق أجرى انتخابات حرة ونزيهة إلى حد معقول. خاض السياسيون حملاتهم الانتخابية على أسس سياسية لا على أساس المظالم الطائفية البحتة. ولأول مرة منذ عقدين، يبتعد تيار السياسة العراقية عن طهران ويتجه نحو واشنطن. هذه ليست مجرد فرصة دبلوماسية، بل نقطة تحول محتملة في علاقة أمريكا المضطربة مع العراق.

يعتمد نجاح إدارة ترامب في استغلال هذه اللحظة على قدرة سافايا على إدارة دفة السياسة العراقية بنجاح أكبر من أسلافه.

 يتوقع المحللون السياسيون أنه سيواجه صعوبات لكن على عكس كل مبعوث أمريكي سبقه، لن يسبح سافايا عكس التيار.

القادة العراقيون يريدون العمل مع واشنطن نفوذ إيران لم يكن أضعف من أي وقت مضى. الفرصة سانحة. السؤال هو: هل تمتلك الولايات المتحدة المهارة الدبلوماسية والاهتمام المتواصل لاغتنامها؟

*بوبي غوش هو محلل ومعلق جيوسياسي، عمل سابقا في  مجلة تايم وبلومبرج .


20/11/2025