×


  بحوث و دراسات

  العالم والاستعداد لقيادة الصين العلمية



*كايري براون

مجلة «Nature» البريطانية/الترجمة والتحرير: محمد شيخ عثمان

لا تزال محادثتان عالقتين في ذهني خلال الخمسة والعشرين عاما الماضية. الأولى كانت قرابة عام 2001، حين قال مسؤول في الاتحاد الأوروبي ببكين — حيث كنت حينها دبلوماسيا بريطانيا — لمجموعة منا إن السماح بنقل التكنولوجيا إلى الصين من دول مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة كان يهدف إلى رؤية يوم تستطيع فيه الصين ردّ الجميل.

 أما الثانية فكانت في عام 2017 في النمسا، حين قال مسؤول أمني بريطاني متقاعد، بنبرة متعبة، إن الثابت الوحيد في صناعة السياسات تجاه الصين هو أنها تبقى دوما متأخرة خمس إلى عشر سنوات عن الواقع.

هذه الملاحظات تكتسب راهنيتها في عام 2025. فقد باتت الصين لاعبا مهما في البحث والتطوير (R&D)، ومع ذلك فإن معظم العالم الخارجي لم يستوعب هذه الحقيقة بعد.

في 23 تشرين الأول/أكتوبر، أعلن الحزب الشيوعي الصيني أنه سيركّز خلال السنوات الخمس المقبلة على «تنمية عالية الجودة» مع «الابتكار بوصفه القوة الدافعة الأساسية». ويتطلب ذلك، وفق ما جاء في البيان، «تحسينات جوهرية في الاعتماد الذاتي والقوة العلمية والتكنولوجية».

 

 وعلى صناع السياسات التعامل مع هذا الإعلان بجدية لثلاثة أسباب.

أولا، لدى الصين حافز واضح. فبعد أيام قليلة، اتفق الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الامريكي دونالد ترامب على وقف حروب الرسوم الجمركية والمناوشات التجارية بين البلدين. لكن الصين تدرك أن اعتمادها التكنولوجي على الولايات المتحدة وغيرها يمثّل نقطة ضعف، وأنها بحاجة إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلال الذاتي.

 

ثانيا، لا يقتصر الأمر على الشعارات؛ فالحكومة الصينية ترصد أموالا ضخمة لتحقيق أهدافها. فقد ارتفعت استثمارات الصين في البحث والتطوير بنحو ستة أضعاف بين عامي 2007 و2023، متجاوزة الاتحاد الأوروبي، واقتربت من مستويات الولايات المتحدة. وتشير الخطط الأخيرة إلى أن هذا الاتجاه مرشّح للاستمرار.

 

وثالثا، تمتلك الصين رأس المال البشري. ففي عام 2020، خرّجت البلاد 3.6 ملايين طالب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، مقارنة بـ 2.6 مليون في الهند و820 ألفا في الولايات المتحدة. وفي عام 2022، تخرّج نحو 50 ألف شخص في الصين بشهادات دكتوراه في هذه المجالات، مقابل 34 ألفا في الولايات المتحدة. كما تحتل جامعات صينية رائدة، مثل فودان في شنغهاي وتسينغهوا في بكين، مراتب متقدمة في التصنيفات العالمية.

خلال نصف القرن الماضي، تحقّق تطور الصين أساسا عبر انتقال نحو 250 مليون عامل من المناطق الريفية إلى المدن، ما جعل البلاد «مصنع العالم». أما في المرحلة المقبلة، فسيكون الشباب من العلماء الصينيين هم من يقودون مسيرة التقدّم.

 

ومن الأمثلة اللافتة الإطلاق المفاجئ، في كانون الثاني/يناير، لتطبيق «ديب سيك» (DeepSeek)، وهو تطبيق قائم على الذكاء الاصطناعي طوّرته شركة تقنية تضم نحو 200 موظف في مدينة هانغتشو. وعلى الرغم من الانتقادات التي تقول إن قدرات «ديب سيك» أقل من نماذج ذكاء اصطناعي أخرى، فإن نجاح الشركة في إثبات قدرة الصين على إنتاج أنظمة ذكاء اصطناعي محلية شكّل لحظة رمزية قوية.

يعترف القادة الصينيون أنفسهم بأن بلادهم لا تزال أمامها مسافة طويلة. لكن من الصعب تجاهل فرص الصين في تحقيق هدفها بأن تصبح قوة تكنولوجية عظمى بحلول عام 2035. ولهذا، من المهم أن تنخرط الحكومات الأخرى مع الصين بفاعلية.

على صناع السياسات تجاوز الذهنيات الأمنية الضيقة التي تبنوها منذ عقد 2010؛ فهذه ليست حربا باردة جديدة. فخلافا للاتحاد السوفيتي سابقا، تُعدّ الصين مندمجة في سلاسل التوريد العالمية وتدفقات رأس المال والتجارة الدولية، ولا يمكن فصلها عن بقية العالم. المطلوب دبلوماسية عملية متعددة الأبعاد، تعطي الأولوية لنقاط التقاطع بين الصين وغيرها من الدول.

فمثلا، يتقبّل القادة الصينيون علم تغيّر المناخ. وقد خفّضت الصين اعتمادها على الوقود الأحفوري ووسّعت استخدام تقنيات الطاقة المتجددة على نطاق واسع، رغم استمرار التحديات. كما تدرك البلاد التحديات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي إلى جانب فرصه. ففي قمة سلامة الذكاء الاصطناعي التي انعقدت في بلتشلي بارك بالمملكة المتحدة عام 2023، التزمت الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى جانب 20 دولة أخرى بمواجهة مخاطر الذكاء الاصطناعي بشكل مشترك.

كذلك، تواجه الصين مجتمعا يتجه إلى الشيخوخة، مع تزايد أعداد المصابين بالأمراض المزمنة ومشكلات الصحة النفسية، ما يجعل مجالات الصحة والرعاية الاجتماعية أرضية خصبة للتعاون الدولي.

مع ذلك، ما تزال هناك مجالات خلاف. فهوس بعض صناع القرار الغربيين بقضية سرقة الملكية الفكرية من قبل الصين بحاجة إلى مراجعة؛ إذ قد يصبح العكس هو الصحيح على نحو متزايد. كما ينبغي تحديد المجالات التي لا تزال الدول الغربية تمتلك فيها ميزة تنافسية، مثل علوم الحياة، والتكنولوجيا النووية، وأشباه الموصلات، والحوسبة الكمية.

أما التحدي الأساسي أمام الحكومات فسيكون كيفية إنشاء أطر واتفاقات تضمن وصولا عادلا إلى التكنولوجيا الصينية. فالمفاوضون الصينيون معروفون بصلابتهم، وسيحتاج صناع القرار في أوروبا والولايات المتحدة إلى تصور واضح لما يريدونه وكيفية تحقيقه.

ستظل السياسة عاملا مؤثرا؛ فإنتاج الصين للمعرفة والتكنولوجيا مرتبط بطموحها في أن تكون دولة قوية. لكن هذا لا يعني بالضرورة السعي إلى الهيمنة أو التحكم أو معاداة بقية العالم. والمفتاح هو تشجيع الصين على الاضطلاع بدور دولي في مجالات قد لا تحقق لها منفعة مباشرة، لكنها تخدم الصالح العام العالمي.

لكي يتحقق كل ذلك، يحتاج العالم إلى معرفة أعمق بالصين: بثقافتها ولغتها وسياستها. فنحن أمام بلد يقف على أعتاب ثورة تكنولوجية. وهو يستحق دراسة متأنية، لا ردود فعل متسرّعة.

*مجلة دورية علمية أسبوعية بريطانية تصدر بالإنكليزية، تعتبر من أبرز الدوريات العلمية


11/12/2025