×


  کل الاخبار

  إكرم إمام أوغلو: الفصل الثاني من تاريخ تركيا



ما الذي يقدمه استعادة الديمقراطية لمواطني البلاد والعالم؟

مجلة (فورين افيرز) الامريكية/ الترجمة والتحرير: محمد شيخ عثمان

مع دخول الجمهورية التركية قرنها الثاني، أصبح العالم من حولها أكثر تعقيدا وأقل تسامحا من أي وقت مضى. النظام الذي رسخ دعائم السياسة العالمية لعقود يتلاشى ليحل محله مراكز قوة جديدة، وتمتد الأزمات عبر الحدود. تتشابك التهديدات الشعبوية للديمقراطية، وتتداخل تحديات الطاقة والمناخ والهجرة والأمن بطرق تختبر قدرة الحكومات في كل مكان.

بالنسبة لتركيا، الدولة الواقعة على قارتين وبالقرب من عدة مناطق نزاع، فإن مواجهة هذا التحدي تتطلب حكمة وثباتا: استقرارا وحرية في الداخل، ورؤية واضحة في تعاملاتها الخارجية.

 لكن هذا ليس ما تقدمه الحكومة التركية. فقد ضعفت المؤسسات التي جعلت من تركيا يوما ما ديمقراطية راسخة وشريكا موثوقا به. ولم يعد النظام القضائي يعمل باستقلالية وفقدت البيروقراطية كفاءتها، وانضباط الدبلوماسية.

لقد عشت شخصيا الهجوم على الديمقراطية التركية. تحاول السلطات التركية تلفيق قضية قانونية ضدي منذ أن توليت منصب عمدة إسطنبول عام ٢٠١٩، وفي مارس/آذار الماضي، ألقت القبض علي بتهم ملفقة.

 وفي الشهر الماضي، قدم المدعون لائحة اتهام من ٣٣٧٩ صفحة تسعى إلى سجني مدى الحياة مع حكم بالسجن لأكثر من ألفي عام. تستخدم هذه الادعاءات لتصوير الإدارة المنتخبة لإسطنبول كمنظمة إجرامية، وعمدة المدينة كزعيم عصابة. يعتمدون على تحريف متعمد لأعمال البلدية العادية وشهود مجهولين. وقد منعت أوامر السرية حتى فريقي القانوني من التدقيق في الأدلة.

هذه القضية لا تتعلق بالعدالة، بل ببقاء الرئيس رجب طيب أردوغان سياسيا. بعد أن هزمت مرشحي رئاسة بلدية إسطنبول الذين اختارهم أردوغان بنفسه عدة مرات، أصبحت الآن مرشح حزبي لمنافسته في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي يجب أن تجرى في موعد أقصاه عام ٢٠٢٨. تتمثل التحديات القانونية التي أواجهها في محاولة الحكومة خنق المعارضة وتشكيل مشهد سياسي لا يواجه فيه أردوغان أي منافسة، لا الآن ولا في السنوات القادمة.

ومع ذلك، لا يزال الشعب التركي يؤمن بإمكانية وجود حكومة كفؤة ونزيهة وتمثيلية، كما تجلى ذلك بوضوح في المظاهرات السلمية التي شهدتها ساحات المدن منذ اعتقالي في مارس/آذار. وبفضل شجاعتهم، لم يسد الطريق بعد للعودة إلى الحكم الديمقراطي، وصنع السياسات الكفؤة، والانخراط الخارجي المتواصل.

لقد حدت أخطاء السياسة الخارجية من خيارات تركيا، وأجبرتها على التفاعل مع الأحداث المحيطة بها بدلا من إحداث تغيير إيجابي. إن تركيا الديمقراطية، الصامدة، والواثقة من نفسها، لن تتمتع فقط بقدرة أكبر على الوساطة والتنسيق والقيادة في هذه المرحلة الحرجة من الاضطرابات الجيوسياسية، بل ستكون أيضا قوة بناءة ومستقرة في عالم بأمس الحاجة إليها.

 

السياسة الخارجية تبدأ من الداخل

كثيرا ما يتحدث المسؤولون الأتراك عن "الاستقلال الاستراتيجي"، وعن ضمان قدرة البلاد على صياغة سياسة خارجية مستقلة. لكن الاستقلال الحقيقي يتطلب قوة، قوة تنبع من الشرعية الداخلية، التي بدورها ترتكز على الديمقراطية وسيادة القانون. لا يمكن لدولة تكمم أفواه مواطنيها أن تتحدث بثقة أمام العالم.

 ولا يمكن لمجتمع منقسم أن يظهر استقراره في الخارج. يجب أن تكون تركيا موحدة داخليا لتتمكن من الصمود أمام الضغوط الخارجية، والتكيف مع التغيير، والحفاظ على بوصلتها الأخلاقية.

 بدلا من الاكتفاء بالتصريحات الرنانة حول الاستقلال الذاتي، ينبغي لتركيا أن تسعى جاهدة لتحقيق مرونة استراتيجية: ضمان أن تكون البلاد قوية بما يكفي لاتخاذ قرارات سياستها الخارجية بحرية.

تتطلب هذه المرونة ديمقراطية راسخة في مؤسسات عادلة وفعالة، تمكن الحكومة من تصحيح مسارها ومواجهة التحديات. كما تتطلب سياسات اقتصادية كفؤة لتشجيع الاستثمار والابتكار، وضمان امتلاك البلاد موارد كافية لدعم طموحاتها الأوسع.

 وتتطلب أيضا الاستثمار في رأس المال البشري والقدرات التكنولوجية لإعداد المواطنين الأتراك للمشاركة الكاملة في الاقتصاد العالمي. مع ذلك، ورغم المزايا الكامنة في تركيا، فإن أيا من هذه الركائز الأساسية للمرونة، في ظل الحكومة الحالية، ليس بالقوة التي يمكن أن يكون عليها.

في العقدين الماضيين، تدهورت الحوكمة في تركيا على حساب البلاد نفسها. إن وجود محاكم مستقلة، وحماية الحقوق، وإدارة عامة تتسم بالشفافية والاتساق، حيث تتخذ القرارات الرئيسية وفقا لقواعد محددة بدلا من الاعتماد على التقدير الشخصي، يعزز الثقة في قيادة الدولة ويهيئ بيئة مواتية للاستثمار الأجنبي المباشر.

 أما في تركيا، فقد أدت الأحكام التعسفية، والملاحقات القضائية ذات الدوافع السياسية، والتغييرات التنظيمية المفاجئة إلى نتائج عكسية، ما دفع العديد من المستثمرين الأجانب إلى مغادرة البلاد، وأضعف نفوذها الاقتصادي العالمي.

ويتطلب استعادة مصداقية تركيا إصلاحا قضائيا، وعودة هيئات تنظيمية مستقلة وكفؤة، ورقابة برلمانية فعالة على قرارات السياسة الخارجية والأمن والاقتصاد. ويجب أن تتم التعيينات وفقا لإجراءات واضحة قائمة على الجدارة، لا على أساس شبكات الولاء غير الرسمية.

 كما يحتاج القضاء، والبنك المركزي، وهيئة المحاسبة الحكومية الرئيسية، وهيئة الانتخابات، والهيئات التنظيمية المعنية بالمنافسة، والقطاع المصرفي، والطاقة، والمشتريات، إلى حماية من الضغوط الحزبية.

يعد تحسين إدارة الاقتصاد أمرا بالغ الأهمية. فعلى مدى سنوات، اتخذت القرارات الرئيسية المتعلقة بأسعار الفائدة والائتمان والميزانية مع وضع الانتخابات المقبلة في الاعتبار بشكل أساسي. وقد تعرض البنك المركزي لضغوط لخفض أسعار الفائدة رغم التضخم المرتفع، وذلك للحفاظ على ازدهار الائتمان الرخيص، واستخدام احتياطياته لكبح جماح سعر الصرف.

 وقد أدى الإنفاق الحكومي قبل الانتخابات على زيادات أجور القطاع العام، وبرامج التقاعد المبكر، والدعم الحكومي الواسع النطاق، إلى زيادة الاستهلاك دون بناء قدرة إنتاجية.

وقد غذى هذا الوضع تضخما حادا وهروبا لرؤوس الأموال، حيث فقد المستثمرون ثقتهم في استقرار السياسة الاقتصادية ومنطقها.

 وفي الوقت نفسه، سهل توزيع القروض الحكومية نمو شبكات المحسوبية السياسية. وقد استفاد المواطنون الأتراك بشكل غير متساو، وفقد الكثير ممن رأوا مدخراتهم تتلاشى ثقتهم في النظام السياسي والاقتصادي.

يهدف حزبي، حزب الشعب الجمهوري، إلى عكس هذا التدهور. يجب على تركيا استعادة حوكمة اقتصادية مستقرة، وحماية استقلالية البنك المركزي، ومكافأة الإبداع بدلا من السعي وراء الريع. يجب أن يكون النمو مستداما وعادلا، مدفوعا بالاستثمار في الصناعات الخضراء والابتكار الرقمي وتوفير وظائف عالية الجودة.

ينبغي لسياسة تكنولوجية سيادية أن تحمي خصوصية البيانات والبنية التحتية الحيوية والمصالح الوطنية الأخرى، لا سيما في مجالات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي وأنظمة الطاقة. على تركيا أن تتخذ خطوات استشرافية، وأن توجه اهتمامها الآن إلى تنويع مصادر الطاقة والتكيف مع تغير المناخ والإدارة الفعالة للمياه، وأن تستثمر في التعليم والمهارات اللازمة لدعم التحول الأخضر والرقمي.

سيساعد الاستقرار الاقتصادي الكلي والاستثمارات الذكية تركيا على اتخاذ قراراتها من موقع قوة. اليوم، تعاني تركيا من تبعية معقدة للتمويل الغربي والطاقة الروسية وسلاسل التوريد الصينية.

 وبسبب هذه التبعية، اضطرت تركيا أحيانا إلى قبول قروض باهظة الثمن، وصفقات طاقة طويلة الأجل غير مرنة، وترتيبات استثمارية مبهمة كانت سترفضها لو استطاعت.

يعد تعزيز التكامل مع أوروبا، ولا سيما من خلال اتحاد جمركي محدث، عنصرا أساسيا في انتشال تركيا من هذه التبعية. تأسس الاتحاد الجمركي الحالي بين تركيا والاتحاد الأوروبي عام ١٩٩٥، ويقتصر نطاقه على تجارة السلع.

 يجب أن يشمل الاتفاق الجديد قطاعات الخدمات والمشتريات العامة والزراعة والتجارة الرقمية، وأن يواءم تركيا مع معايير الاتحاد الأوروبي في إدارة البيانات والاستدامة. من شأن ذلك أن يضاعف حجم التجارة بين تركيا والاتحاد الأوروبي خلال العقد المقبل، ويمنح تركيا نفوذا أكبر لدى جميع شركائها الأجانب. وبذلك، تستطيع تركيا الخروج من دوامة إبرام اتفاقيات مؤقتة بدافع الضرورة، وأن تتبوأ مكانة مركز اقتصادي عالمي، تربطها علاقات واسعة مع العديد من الدول دون أن تعتمد على أي منها.

 

شريك موثوق

على مدى العقد الماضي، اتسمت قرارات السياسة الخارجية التركية بالتقلب وردود الفعل، وتزايدت فيها النزعة الشخصية والأهم من ذلك، أنها خدمت ترسيخ السلطة في الداخل، مما أدى إلى تباعد المصالح الوطنية عن المصالح السياسية للقيادة الحالية.

وقد قوضت تحركات غير حكيمة مصداقية تركيا لدى حلفائها، بما في ذلك شراء منظومة صواريخ إس-400 الروسية عام 2019، واستغلال ترشيح فنلندا والسويد لعضوية حلف الناتو عام 2022 كفرصة لفرض مطالب. شهدت السياسة الدبلوماسية تحولات مفاجئة تجاه مصر والسعودية والإمارات، مما أدى إلى نفور هذه الدول طوال العقد الماضي، ثم تراجعت عن هذا المسار وسعت إلى التقارب في العقد الذي تلاه؛ كما شهدت تخليا تدريجيا عن الإصلاحات القضائية والتنظيمية المرتبطة بعملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أدى تهميش كبار الدبلوماسيين المحترفين الذين تولوا ملفات حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لعقود إلى حرمان السلك الدبلوماسي من الخبرة المؤسسية والتوجيه الثابت.

أدى هذا النهج الارتجالي إلى عزل تركيا عن شركائها في الاتحاد الأوروبي، وتوتر العلاقات مع الولايات المتحدة، وإثارة الشكوك في حلف الناتو حول مصداقية تركيا على المدى الطويل.

 كما قلص هامش المناورة المتاح لتركيا. وأصبح التفاوض على تغييرات السياسات أكثر صعوبة، وتراجع نفوذ البلاد في المحافل متعددة الأطراف، وأصر الشركاء الأجانب على شروط أو رقابة أكثر صرامة قبل الموافقة على التعاون.

إن الهوية المزدوجة لتركيا - المتجذرة في المؤسسات الغربية والمتناغمة مع تطلعات الجنوب العالمي - تضعها في موقع فريد لقيادة الإصلاح في الحوكمة العالمية.

 ففي عالم متشرذم، تستطيع تركيا توحيد الشركاء في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي والخليج وأفريقيا وآسيا للدفع نحو إصلاحات في منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والهيئات الرئيسية للأمم المتحدة.

ويمكنها الدعوة إلى قواعد جديدة تجعل التجارة والضرائب أكثر عدلا، وتضمن توزيع فوائد الاقتصاد العالمي بشكل أكثر إنصافا. كما يمكنها المساهمة في صياغة المعايير العالمية بشأن حماية البيانات، والمساءلة الخوارزمية، والاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي.

 

لنأخذ الهجرة مثالا

في ظل استمرار حالة الجمود بين القوى العظمى في العالم، يمكن للقوى المتوسطة اغتنام الفرصة لدفع أجندات إصلاحية. لنأخذ الهجرة مثالا. تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن تركيا تستضيف ما يقارب أربعة ملايين لاجئ، وهو أعلى رقم في العالم. لسنوات، ركزت السياسة على الاحتواء، أي إبقاء اللاجئين داخل تركيا مقابل الدعم المالي من أوروبا.

وقد خفف هذا من الضغوط المتعلقة بالهجرة على دول الاتحاد الأوروبي، لكنه ترك تركيا تواجه تحديا اجتماعيا واقتصاديا طويل الأمد بمفردها إلى حد كبير. يجب على الدول أن تتقاسم هذه المسؤولية، لا أن تتخلى عنها كما فعلت أوروبا. ينبغي أن تتضمن سياسة الهجرة الأكثر تعاونا تقاسما حقيقيا للأعباء مع الاتحاد الأوروبي من خلال حصص إعادة التوطين، ودعم مالي متوقع وعادل، وجهود مشتركة لمساعدة اللاجئين على الحصول على التعليم والعمل.

 لا يمكن لتركيا الديمقراطية أن تدفع باتجاه هذا النوع من التعاون في مجال الهجرة مع أوروبا فحسب، بل يمكنها أيضا الترويج لهذا النموذج في أماكن أخرى، مستفيدة من تجربتها الفريدة.

 

في مجال سياسات التكنولوجيا الرقمية، تستطيع تركيا أيضا الانتقال من مستهلك سلبي إلى صانع معايير.

فتوضيح سياساتها الداخلية من شأنه أن يجعلها شريكا أكثر فاعلية للآخرين. بإمكانها التواصل المباشر مع حلفائها الرئيسيين والمشاركة بشكل أكبر في مبادرات الذكاء الاصطناعي والبيانات مع الاتحاد الأوروبي، ومجلس أوروبا، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجموعة العشرين. إن القوة الرقمية الحقيقية تتطلب إصلاحات داخلية أيضا. فالرقابة الشفافة وقواعد الخصوصية الواضحة التي تطبقها جهات تنظيمية مستقلة كفيلة بجعل تركيا قاعدة موثوقة لخدمات الحوسبة السحابية والاستثمار التكنولوجي الإقليمي.

وبالمثل، فإن دمج أهداف المناخ في علاقات تركيا التجارية، واستراتيجيتها في مجال الطاقة، ومعاييرها الصناعية، من شأنه أن يجعلها مركزا إقليميا لتمويل التكيف والبنية التحتية النظيفة.

بإمكان البنوك التركية العامة وبنوك التنمية، بالشراكة مع جهات إقراض أوروبية ومتعددة الأطراف، المساهمة في تمويل حماية السواحل، والزراعة المستدامة، والبنية التحتية الحضرية في الدول المجاورة، وبالتالي ترسيخ مكانة إسطنبول - العاصمة الاقتصادية لتركيا - كمركز إقليمي للتمويل الأخضر.

 

إصلاح العلاقات الخارجية:

 يبرز درس رئيسي في جميع علاقات تركيا الخارجية. عندما تصرفت تركيا وفقا لأيديولوجيتها، فقدت نفوذها: فعلى سبيل المثال، أدى ربط سياستها في الشرق الأوسط بدعم جماعة الإخوان المسلمين إلى نتائج عكسية عندما شنت الحكومات الإقليمية حملة قمع ضد الجماعة بعد الربيع العربي. أما عندما تصرفت بعقلانية ومن خلال المؤسسات، فقد اكتسبت نفوذا، كما في وساطة أنقرة في اتفاقية الحبوب التي رعتها الأمم المتحدة عام 2022 بين روسيا وأوكرانيا، وإدارتها اللاحقة لتنفيذ الاتفاقية، بما في ذلك عمليات تفتيش السفن وتنسيق ممر عبور آمن في البحر الأسود.

لذا، يعد استعادة التماسك والمهنية في إدارة علاقات البلاد أمرا بالغ الأهمية، وكذلك إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية طويلة الأمد على المصالح الأيديولوجية قصيرة الأجل.

 ويتضمن جزء من هذه المراجعة إدراك أن التحالف عبر الأطلسي يمثل الركيزة الأساسية للردع التركي والاستجابة للأزمات.

وهذا يعني بذل الجهود اللازمة لتدارك الأضرار الناجمة عن شراء تركيا واختبارها لمنظومة إس-400 الروسية. كان الهدف من هذه الخطوة إظهار استقلال تركيا الاستراتيجي، إلا أنها أدت إلى فرض عقوبات أمريكية، واستبعاد تركيا من برنامج مقاتلة إف-35 الهجومية المشتركة، وفقدان القدرة على العمل المشترك مع القوات الجوية الرئيسية لحلف الناتو. ولا تزال منظومة إس-400 تسبب توترات داخل الحلف.

 ويتعين على تركيا الآن العمل مع حلفائها في الناتو لإيجاد حل طويل الأمد. وعلى نطاق أوسع، يجب على تركيا إعادة بناء الثقة داخل الناتو من خلال كونها حليفا شفافا وبناء، وفاعلا في التخطيط المشترك وتطوير القدرات.

مع الولايات المتحدة، توهمت الحكومة التركية أن التوترات المتكررة قد انتهت الآن بعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. إلا أن العلاقة الشخصية بين ترامب وأردوغان غير متكافئة، ولا تضمن تعاونا مستداما. ولترسيخ هذه العلاقة، ينبغي لتركيا السعي إلى حوارات استراتيجية منتظمة وتعزيز قنوات التعاون على مستوى الخبراء مع الولايات المتحدة في مجالات تحديث الدفاع، والتقنيات المتقدمة، ومكافحة الإرهاب، وأمن الطاقة.

 من شأن علاقة أكثر مؤسسية أن تساعد في حماية المصالح التركية والأمريكية، ومعالجة مواطن القلق، ومنح أي إدارة في واشنطن، بما فيها إدارة ترامب، شريكا أكثر موثوقية في تركيا.

في حين لا تزال القوى العظمى في حالة جمود، يمكن للقوى المتوسطة أن تدفع بأجندات إصلاحية.

أما مع أوروبا، فيجب على تركيا إعادة ترسيخ مكانتها ليس فقط في الهياكل الأمنية للقارة، بل أيضا في أطرها القانونية والاقتصادية. يجب على تركيا إعطاء الأولوية لاتحاد جمركي محدَث، وإجراءات تأشيرات أبسط وأكثر شفافية للمواطنين الأتراك، والمشاركة الفعالة في الأجندات الرقمية والبيئية الأوروبية، والعودة إلى اتفاقية إسطنبول، وهي أكبر اتفاقية أوروبية شاملة لمكافحة العنف الأسري، والتي انسحبت منها تركيا عام ٢٠٢١.

 كما يجب عليها الانخراط بشكل بناء مع الاتحاد الأوروبي لحل القضايا العالقة في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، بما في ذلك التوصل إلى حل عادل وقابل للتطبيق في قبرص، حيث جمدت الإجراءات الأحادية من جانب كل من الإدارتين القبرصية اليونانية والتركية السابقة، والخطاب المتشدد من الجانب اليوناني، المفاوضات. وأخيرا، يجب على تركيا استئناف عملية التوافق مع القانون الأوروبي.

 وينبغي لهيئة برلمانية مراقبة الامتثال لأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي قبلت تركيا اختصاصها.

 كما يجب على هذه الهيئة الإشراف على التشريعات التي من شأنها جعل القوانين التركية متوافقة مع قوانين ومعايير الاتحاد الأوروبي، وتلبية المعايير المطلوبة في عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. هذه الخطوات ليست تنازلات لأوروبا، بل هي استثمارات في ديمقراطية تركيا وتحديثها.

سيظل من الضروري لتركيا الانخراط مع روسيا والصين، ولكن ينبغي أن تتم هذه العلاقات عبر قنوات شفافة ومؤسسية.

وقد أدى النهج الحالي، الذي يعتمد على المفاوضات بين القادة والاتفاقات غير الرسمية، إلى التزامات مبهمة، وجعل العلاقات عرضة للأزمات، وجعل تركيا عرضة للضغوط.

 تحتاج تركيا إلى التعاون مع موسكو في بكين عندما تتداخل المصالح بشكل حقيقي، كما هو الحال في نقل الطاقة، ومكافحة الإرهاب، والسياحة، وتوسيع الممرات التجارية عبر أوراسيا، فضلا عن إدارة الأزمات الإقليمية.

لكن في مسائل مثل التحالف عبر الأطلسي، وحقوق الإنسان، ومعايير المراقبة الرقمية، تختلف مصالح تركيا عن مصالح روسيا والصين. ويمكن أن يساعد الفصل الواضح بين المصالح تركيا على تجنب الوقوع في اتفاقيات شاملة تتطلب تنازلات في مجال مقابل التعاون في مجال آخر.

في الشرق الأوسط وشرق المتوسط والقوقاز، لجأت تركيا مرارا وتكرارا إلى المواجهة أو إلى مجرد استعراضات جوفاء، كتعليق الاتصالات الدبلوماسية، وإصدار بيانات عامة حادة اللهجة، والإعلان عن مبادرات جديدة دون تنفيذها.

 إن السبيل الوحيد لتعزيز نفوذ تركيا هو الحوار المستمر وبناء الثقة. ومن الأهمية بمكان التمسك بمواقف تتوافق مع القانون الدولي للاضطلاع بدور بناء في هذه المناطق. فعلى سبيل المثال، يعد التطبيع الكامل للعلاقات مع أرمينيا وفتح الحدود التركية الأرمينية خطوة هامة في هذا الاتجاه.

وتتاح لتركيا فرصة أخرى واضحة لتقديم نموذج أفضل من خلال الدفاع عن حق جميع الفلسطينيين في حياة كريمة وآمنة، واستخدام الدبلوماسية الثنائية والمبادرات في الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي للدفع نحو إيصال المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار غزة، وإنشاء مؤسسات فلسطينية خاضعة للمساءلة، وحل الدولتين بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة. وهذا يعد سياسة رشيدة وواجبا أخلاقيا.

 

جمهورية جديرة بشعبها

لا أستهين بالتحديات التي تواجه تركيا، سواء على الصعيد الداخلي أو الدولي، لكني أرفض الاستسلام للقدر. تركيا صامدة. ويتجلى هذا الصمود يوميا في احتجاجات الشباب السلمية للمطالبة بالفرص، وفي كل مرة يثق فيها المواطنون بالانتخابات بدلا من السلطة.

يمكن أن يكون الفصل القادم من تاريخ البلاد فصلا من التجديد. فإذا استطاعت تركيا استعادة ديمقراطيتها وإعادة الكفاءة والاتساق إلى سياستها الخارجية، فبإمكانها أن تصبح مجددا ما تؤهلها له جغرافيتها وتاريخها: قوة أوروبية ذات نفوذ عالمي، وعضوا لا غنى عنه في التحالف عبر الأطلسي، ومركزا تجاريا وطاقيا ودبلوماسيا يربط حلفاءها الغربيين بشركائها في جميع أنحاء الجنوب العالمي.

هكذا تصبح تركيا قوة استقرار في عالم منقسم. وهكذا تكرم تركيا مواطنيها، بضمان أن المصداقية التي تكتسبها في الخارج تستند إلى العدالة التي تطبق في الداخل.

*رئيس بلدية اسطنبول المسجون حاليا


14/12/2025