×

  مرصد الاسلام السياسي

  تونس بعد الاستفتاء: هل هي القطيعة مع الإسلام السياسي؟



*د. فريد بن بلقاسم

 

*مركز تريندز للاستشارات

 في الذكرى السنوية الأولى لحدث 25 يوليو 2021 انتظم في تونس استفتاء على دستور جديد اقترحه رئيس الجمهورية قيس سعيد، وقد أفضت عملية الاستفتاء إلى إقرار هذا الدستور الذي يدخل حيز النفاذ لحظة إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن النتائج الرسمية النهائية للاستفتاء ونشره في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) للجمهورية التونسية. وفي ضوء ذلك تدخل تونس مرحلة جديدة قوامها نظام سياسي جديد يمنح رئيس الجمهورية سلطات واسعة تسمح له بتنفيذ سياساته وتوجهاته، وتنهي بصفة قانونية ورسمية المنظومة السياسية التي وضعتها حركة النهضة منذ فوزها في انتخابات 23 أكتوبر 2011 وسيطرتها على مقاليد السلطة، وقد تمت مأسسة تلك المنظومة في دستور 27 يناير 2014. ولم يكن من الممكن من الناحيتين السياسية والقانونية بعد حدث 25 يوليو 2021 وما صاحبه من مظاهرات ضد حكم حركة النهضة الإبقاء على تلك المنظومة الدستورية دون تغيير.

 تطرح مرحلة ما بعد الاستفتاء أسئلة حارقة حول مدى قدرة الدستور الجديد على الاستجابة لمطالب فئات اجتماعية متعددة ومتنوعة للتخلص من منظومة الإسلام السياسي في تونس بما تعنيه تلك المنظومة من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وبما أفرزته من واقع متردٍّ في مختلف الصعد. وهل أن خروج تونس من جبة الإسلام السياسي كما جسدته حركة النهضة رهين هذا النص الدستوري الجديد أم أن الأمر يحتاج إلى وضع سياسات في مختلف المستويات لا تتيح فقط فك الارتباط مع منظومة الإسلام السياسي وتحجيم دور أدواته التنظيمية، وبخاصة حركة النهضة التي يبدو اليوم أنها تعاني حالة من الإنهاك، وإنما احتواء تغلغله تربوياً وثقافياً واجتماعياً أيضاً، بما يمكّن من تحصين الأجيال اللاحقة من تأثيراته الأيديولوجية.

 تحاول هذه الدراسة تقديم أجوبة على هذه الأسئلة من خلال عنصرين اثنين؛ يهتم الأول باستجلاء معالم الدستور الجديد والظروف التي جرى فيها الاستفتاء عليه. ويعالج العنصر الثاني وضع حركة النهضة في ضوء هذا العامل الجديد ويتساءل عن مستقبل الإسلام السياسي وشروط التخلص من أدواره من الناحيتين التنظيمية والأيديولوجية.

 

أولاً: خصائص الدستور الجديد وظروف الاستفتاء عليه

 لعله من المفيد التذكير في البداية بأن حدث 25 يوليو 2021 شكل منعطفاً تاريخياً فارقاً في مستوى حضور الإسلام السياسي في تونس بعد تجربة الحكم التي امتدت على مدى عقد كامل سواء في دلالته الاجتماعية من حيث فشل حركة النهضة في الهيمنة الأيديولوجية على المجتمع بانكشاف زيف شعاراتها التي لم تعد قادرة على إقناع الفئات الاجتماعية وتلبية حاجاتها على تعددها وتنوعها، أو في دلالته السياسية من حيث أن القرارات التي اتخذها رئيس الجمهورية منذ ذلك التاريخ قد أسهمت في إبعاد حركة النهضة عن مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، فأصبحت معزولة اجتماعياً وسياسياً فضلا عن خضوع قياداتها للملاحقة القانونية في عدد من القضايا من خلال فتح ملفات المحاسبة. وهو ما جعلها تبدو في وضع إنهاك ومحشورة في زاوية هامش المناورة فيها ضيق ومحدود.

 ويبدو أن تلك الإجراءات على أهميتها لم تكن كافية لوضع نقطة النهاية لفترة حكم الحركة الإسلاموية في تونس، فقد كان الأمر يحتاج إلى مأسسة من خلال وضع منظومة دستورية جديدة تكون بديلاً للمنظومة التي وضعتها حركة النهضة على مقاسها، وهو ما تجلى في الخطوة التي أقدم عليها رئيس الجمهورية قيس سعيد بطرح دستور جديد على الاستفتاء الشعبي.

* اشتمل الدستور الجديد على توطئة وأحد عشر باباً موزعة إلى 142 فصلاً، ولئن حافظ في باب الحقوق والحريات على ما جاء في دستور 2014 تقريباً، فإنه تضمن تعديلات أهمها في الباب الأول وخصوصاً في الفصل الخامس منه الذي ينص على أن ” تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظل نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض، والمال، والدين والحرية”، وفي البابين الثالث والرابع المتعلقين بالوظيفتين التشريعية والتنفيذية إذ نص الدستور الجديد في مستوى النظام السياسي على العودة إلى النظام الرئاسي الذي أصبح يقوم على الوظائف لا السلطات، وعلى تحمل رئيس الجمهورية الوظيفة التنفيذية وضبط السياسة العامة للدولة وعلى أن الحكومة مسؤولة عن تصرفها أمامه، وعلى إنشاء مجلسين نيابيين هما مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم ويضطلعان بالوظيفة التشريعية. إضافة إلى الأبواب المتعلقة بالوظيفة القضائية وبالمحكمة الدستورية وبالجماعات المحلية والجهوية والهيئات الدستورية التي لم يستبق منها سوى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وإنشاء المجلس الأعلى للتربية والتعليم. وقد استحوذ الفصل الخامس والفصول المتعلقة بما سماها الدستور الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية على اهتمام الرأي العام، ودار النقاش بين النخب السياسية والفكرية حولها طيلة الفترة التي سبقت الاستفتاء باعتبارها تثير قضايا خلافية وتعكس روح المشروع السياسي والاجتماعي الذي يحمله رئيس الجمهورية ولها انعكاسات على السياسات والتوجهات التي ستسير فيها تونس دولة ومجتمعاً في مختلف الميادين في المستقبل المنظور.

 تميزت الظرفية التي تم فيها الاستفتاء على هذا الدستور بحالة من الاستقطاب والتنازع بين ثلاث جبهات أساسية، الأولى هي جبهة الداعمين لمشروع الرئيس سعيد السياسي والذين يرون في الرئيس ومشروعه سبيل الخلاص من الواقع المتردي الذي تهاوت فيها الدولة في العشرية الماضية، وهم بذلك لم يصوتوا بالموافقة على الدستور أو تأييداً للرئيس سعيد فقط وإنما تطلعاً إلى وضع نقطة النهاية على مرحلة حكم حركة النهضة بكل ما خلفته سياسياً واقتصادياً أيضاً، والثانية هي جبهة الداعمين لمسار 25 يوليو القاضي بالتخلص من الإسلام السياسي ولكنهم لا يتفقون مع الرئيس في مشروعه السياسي، وفي بعض الفصول الواردة في الدستور وخصوصاً منها الفصل الخامس، والفصل المتعلق بالسلطات الممنوحة لرئيس الجمهورية ويخشون أن تكون مؤشراً على الانحراف من النظام الرئاسي إلى النظام الرئاسوي الذي قد يعيد إنتاج الاستبداد، والثالثة هي جبهة المعارضين للمسار ومخرجاته برمته، ولئن كان موقفهم موحداً في الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء فإنهم يتفرقون إلى مجموعات غير منسجمة ولهم قراءات متباينة لمسار 25 يوليو، ولا تنسيق بينهم إلى حد الآن وهم بالخصوص ثلاث مجموعات؛ مجموعة جبهة الخلاص الوطني التي تضم أساساً حركة النهضة ومجموعة من الشخصيات المقربة منها وهي تتبنى خطاباً جذرياً يعتبر ما حدث انقلاباً وإيذاناً بعودة “الدكتاتورية” وهو أمر منتظر بحكم أن ما حدث في 25 يوليو 2021 قد أخرج الحركة الإسلاموية من الحكم، وأن الإجراءات المتتابعة التي اتخذها الرئيس سعيد منذ ذلك التاريخ إلى حد وضع الدستور الجديد حشرتها في زاوية رد الفعل وتصب في اتجاه تغيير المنظومة السياسية التي وضعتها، ومجموعة الحزب الدستوري الحر، إضافة إلى مجموعة تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية التي تضم التيار الديمقراطي والحزب الجمهوري والتكتل من أجل العمل والحريات.

 وقد أسفرت النتائج الأولية المعلنة من طرف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن مشاركة نحو 30.5% من الناخبين المسجلين (بواقع 2.830.094 ناخباً) وبلغت نسبة المصوتين بنعم على الدستور 94.6% (بواقع 2.607.884 ناخباً). واستمرت حالة التنازع بين هذه الجبهات الثلاث بعد إجراء الاستفتاء وإعلان النتائج، سواء حول عدد المشاركين أو نسبة المصوتين بالموافقة على الدستور وانعكاسات ذلك على شرعية الرئيس ومشروعية مشروعه أو حول مدى شرعية العملية نفسها من الأصل. ولعله من المهم التنبيه من خلال نتائج الاستفتاء، إلى فئة واسعة تمثل ما يقارب 50% من الناخبين الذين قاطعوا المشاركة في هذه العملية دون أن يكون لهم موقف سياسي معارض للدستور أو لمشروع رئيس الجمهورية كما هو شأن الأحزاب والقوى التي دعت إلى المقاطعة والتي بلغت نسبتها 21 %، وتضم هذه الفئة نسبة هامة من الشباب، وهؤلاء تحركهم احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية بالأساس بقطع النظر عن المسائل المتعلقة بالدستور والتشريعات، وبعيداً عن التجاذبات الحزبية والسياسية والأيديولوجية.

 وهكذا لئن وجدت القرارات التي اتخذها رئيس الجمهورية في 25 يوليو 2021 قبولاً لدى فئات واسعة في المجتمع باعتبارها تمثل استجابة لتطلعاتها آنذاك في إنهاء المنظومة السياسية التي تتحكم حركة النهضة في مفاصلها وآليات سيطرتها على أجهزة الدولة الحكومية والأمنية والقضائية والإعلامية، فضلاً عما وجدته من تأييد لدى طيف من النخب، ولاسيما المعارضة منها للإسلام السياسي – فإن الدستور الجديد سواء في بعض مضامينه أو في طريقة وضعه التي لم تأخذ بعين الاعتبار تشريك أكثر ما يمكن من النخب ومنظمات المجتمع المدني قد أحدث انقساماً داخل الجبهة المؤيدة لمسار 25 يوليو.

 

 وفي المحصلة تبدو تونس في مرحلة ما بعد الاستفتاء ودخول الدستور الجديد حيز التنفيذ الذي أصبح أمراً واقعاً مقبلة على جملة من التحديات يمكن أن نشير إلى أبرزها في النقاط التالية:

*التحدي الاقتصادي والمالي، إذ تعاني البلاد من أزمة طاحنة منذ عدة سنوات وزادتها تأثيرات جائحة كورونا وتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية استفحالاً، وتشهد المالية العمومية صعوبات جمة في مستوى قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها المالية، من حيث تسديد أجور الموظفين وخدمة الدين الخارجي. وتحتاج الحكومة إلى عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهو الأمر الذي يعرف تعثراً رغم سلسلة اللقاءات والمحادثات بين الجانبين.

*التحدي الاجتماعي جراء تأثيرات الأزمة الاقتصادية والمالية، فقد نفَّذ الاتحاد العام التونسي للشغل (وهو أكبر المنظمات النقابية في تونس) إضراباً عاماً في القطاع العام في 16 يونيو 2022 للمطالبة بتحسين أوضاع الموظفين في المؤسسات والمنشآت العمومية، ومن المتوقع أن ينفذ إضراباً آخر في الوظيفة العمومية. وتجد الحكومة صعوبة في التفاوض مع النقابات المطالبة بالزيادة في الأجور من ناحية والإيفاء بالتزاماتها مع صندوق النقد الدولي الذي يطالبها بتجميد الزيادات وإيقاف الانتدابات في القطاعات الحكومية وترشيد الدعم للفئات المتوسطة والفقيرة وإصلاح وضع بعض المؤسسات العمومية التي تكبد ميزانية الدولة خسائر إضافية من ناحية أخرى؛ وهو ما قد ينذر باضطرابات اجتماعية ولاسيما في ضوء ارتفاع معدل التضخم وغلاء الأسعار وازدياد نسبة البطالة.

*التحدي السياسي المتمثل في تأمين الانتقال بسلاسة من المنظومة السياسية التي كانت تسيطر عليها الحركة الإسلاموية إلى المنظومة السياسية البديلة وفق القواعد التي وضعها الدستور الجديد، وفي تشريك أكثر ما يمكن من القوى السياسية والجمعياتية والنخب الفكرية ضمن هذه المنظومة وتبديد مخاوفها حول النزوع إلى الاستبداد والتسلطية، وفي إدماج القوى الشبابية والمهمشة لتصبح قوى فاعلة في الاختيارات السياسية وفي إنتاج الثروة وتوزيعها توزيعاً عادلاً، وفي المحافظة على المكتسبات المتعلقة بتحديث المجتمع وبالحقوق والحريات الفردية والعامة وتطويرها؛ والغاية من ذلك ألا يبقى الدستور الجديد والمنظومة المتولدة عنه دستوراً ومنظومة للرئيس ومؤيديه فقط بل دستوراً ومنظومة جامعَيْن لمختلف الأطياف.

 *تكشف هذه التحديات أن مرحلة ما بعد الاستفتاء وحصول الدستور الجديد على الشرعية الانتخابية مرحلة محفوفة بالصعوبات على كافة الواجهات داخلياً وفي ظروف إقليمية ودولية متقلبة ومضطربة، وهو ما يجعل المهمة عسيرة، وتتطلب قدراً عاليا من الحكمة ومن القدرة على إدماج وتشريك القوى والنخب سواء كانت مؤيدة أو معارضة في إطار نظام ديمقراطي. وبقدر النجاح في هذه المهمة يكتسب الدستور الجديد مشروعية أكبر، وهو ما يجعله بديلاً لمنظومة الإسلام السياسي يحظى بالمقبولية والاستمرارية، وقد يحتاج ذلك إدخال تعديلات عليه يتم الاتفاق عليها، وهو أمر متيسر في ضوء الشروط المرنة الواردة في الباب العاشر الخاص بتنقيح الدستور.

 

ثانياً: أي مستقبل للإسلام السياسي في تونس؟

 يعالج هذا العنصر تبعاً للبعدين الرئيسيين للإسلام السياسي، وهما البعد التنظيمي والبعد الأيديولوجي، قضية مستقبل هذا التيار في تونس من زاويتين؛ زاوية مستقبل هذا التيار من الناحية التنظيمية، وزاوية مستقبل هذا التيار من الناحية الأيديولوجية.

 فمن الزاوية الأولى بات من الواضح في تونس اليوم أن حركة النهضة باعتبارها ممثلة الإسلام السياسي الإخواني من الناحية التنظيمية قد تراجعت مكانتها وتقلص حضورها وفقدت قدرتها التأثيرية والاستقطابية في المجتمع، إضافة إلى استبعادها سياسياً من أجهزة الدولة وأنهى الدستور الجديد من الناحية القانونية قواعد المنظومة التي كانت تهيمن عليها وبها توجه سياسات الدولة وتفرض سلطانها على مؤسساتها وتتحكم في المشهد السياسي.

 ولم تستطع حركة النهضة منذ حدث 25 يوليو 2021 رغم المجهودات التي بذلتها داخلياً وخارجياً، سواء من خلال تعبئة الشارع أو التنسيق والتحالف مع القوى السياسية والمدنية والنقابية الوازنة أو عبر التواصل مع القوى الدولية أن تحدث اختراقاً يتيح لها العودة إلى المنظومة السابقة أو أن تحول دون المسار السياسي الذي سلكه رئيس الجمهورية. ويشير واقع الحال إلى أنها في حالة من العزلة السياسية والاجتماعية، إضافة إلى ما تواجهه قياداتها وعلى رأسها راشد الغنوشي من قضايا، وهو ما قد يثير التساؤلات حول وجودها قانونياً وشرعياً في الساحة السياسية التونسية، وقد يتعزز هذا الأمر في ضوء تمسك الحركة الإسلاموية برفضها الدستور الجديد والقواعد القانونية التي ستتولد عنه ولاسيما قانون الأحزاب وقانون الانتخابات. ومن السيناريوهات الممكنة في هذا الإطار في صورة ما أصبح وجودها القانوني على المحك أن تلجأ إلى تأسيس صيغة تنظيمية بديلة أو أن تخرج من تحت عباءتها تنظيمات جديدة على غرار ما فعله بعض المستقيلين منها في الآونة الأخيرة، إذ أنشأ بعض القياديين المستقيلين حزباً جديداً يحمل اسم “العمل والإنجاز”، برئاسة عبد اللطيف المكي.

 ويبدو أن مستقبل حركة النهضة في تونس في مرحلة المنظومة السياسية النابعة من الدستور الجديد باعتبارها ممثلة للإسلام السياسي الإخواني من الناحية التنظيمية مفتوح على احتمالات متعددة بحسب موازين القوة داخلياً وخارجياً من ناحية، ومآلات القضايا المرفوعة ضدها من ناحية أخرى، ولعل أقرب هذه الاحتمالات أن الإسلام السياسي قد يعمد إلى اتخاذ أشكال تنظيمية بديلة ويعمل على عدم تكرار تجاربه السابقة في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين أو تجربة جماعة الإخوان المصرية بعد انهيار تجربة حكمهم في صيف 2013؛ بمعنى تجنب الدخول في مصادمات مع السلطات القائمة بما يجعل قضيته تتحول إلى ملف أمني وقضائي والسعي إلى أن يحافظ على حضوره في الحقل السياسي، باعتباره مكوناً من مكوناته وممثلاً لفئة من المجتمع، وإن اقتضى الأمر القيام بمراجعات وفق قواعد المنظومة الجديدة في انتظار أن تتهيأ فرص لاستعادة ثوبه الأصلي وهويته القديمة الراسخة، مستفيداً من قدرته على المناورة والمخاتلة.

وفي واقع الأمر، فإن التحولات في طبيعة الجيل الجديد لحركة النهضة بعد 2011 من جهة ظهور طبقة برجوازية إسلاموية مسيطرة على القيادة المتنفذة داخل الحركة وحريصة على مصالحها الاقتصادية مع مراكز القوى الحاكمة اقتصادياً ومالياً وسياسياً – هذه التحولات جعلت الحركة تفقد عمقها الاجتماعي في الطبقات المتوسطة والفقيرة، وهو ما أدى إلى أن تكون هذه الطبقة المتحكمة في الحركة الإسلاموية أقل ميلاً إلى النضالية وإلى خوض تجربة الصدام مع الدولة، كما كانت تفعل الأجيال السابقة، وأصبحت أكثر حرصا على البقاء في ظلال مساحات العمل السياسي والمعارضة القانونية المتاحة.

 وأما من الزاوية الأيديولوجية، وهي الزاوية الأكثر أهمية باعتبار ما تشكله الأيديولوجيا بمقولاتها وشعاراتها من مخزون له طاقة على الاستقطاب والجذب خصوصاً في الأوساط الاجتماعية التي تعاني الهشاشة فكرياً أو مادياً ويسهل خداعها بالخطابات المغلفة بالشعارات الدينية البراقة – فإن مستقبل الإسلام السياسي في تونس يبقى رهين عدة عوامل لعل أبرزها ثلاثة عوامل أساسية: يتعلق العامل الأول بمصير شبكة من الجمعيات والمنظمات الناشطة في المجتمع المدني والتي يكمن دورها في الترويج لأيديولوجيا الإسلام السياسي بطريقة ناعمة من خلال الدورات التكوينية والدروس والتدريبات، ومنها على سبيل المثال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وأما العامل الثاني فيتصل بمتابعة مصادر التمويل وتجفيفها، وهو أمر كفيل بالحد من قدرة الإسلام السياسي على التحرك والتمدد، ولاسيما في الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة. وأما العامل الثالث، وهو أكثر العوامل حسماً، فيتعلق بوضع سياسات إصلاحية في البرامج التربوية والتعليمية والثقافية، وبمتابعة الخطابات الدينية وفق رؤية تجديدية وتنويرية في المساجد وفي الوسائط الإعلامية. ولعل السؤال الملح في هذا المضمار هو: هل ستتجه سياسات الدولة التي سيرسمها رئيس الجمهورية باعتباره المسؤول عن ذلك حسب الدستور الجديد إلى وضع برامج إصلاحية تحديثية لمناهج التربية والتعليم تتيح للناشئة أن تكتسب القدرات والمهارات اللازمة لتفكيك الخطابات الإسلاموية والتعامل معها نقدياً من جهة، وأن تتسلح بالأدوات المعرفية الضرورية التي تجعلهم ينخرطون في قيم العصر الحديث باقتناع ونجاعة واقتدار من جهة أخرى؟ ويستمد هذا السؤال مشروعية طرحه في ضوء ما يعتبره البعض جمع رئيس الجمهورية بين تشبثه بالجمهورية وبمبدأ أن الدولة لا دين لها من جهة، ونزعته الدينية المحافظة من جهة أخرى.

 وفي المحصلة يبين استشراف مستقبل الإسلام السياسي في تونس من الناحيتين التنظيمية والأيديولوجية أن القطيعة مع هذا التيار لا تنحصر في مستوى اتخاذ إجراءات قانونية أو محاسبة قضائية أو تغيير دستور فحسب، وإنما تقتضي تغيير العقليات وتثوير الأفكار والقيم من أجل تحصين النشء والأجيال القادمة من الانجذاب إلى الأيديولوجيا الإسلاموية تحت أي صيغة تنظيمية كانت، وهو أمر يستدعي رؤية واضحة ثاقبة وإرادة سياسية ومشاركة من النخب الفكرية والثقافية والإعلامية.

 

خاتمة

 يمثل الاستفتاء على الدستور الجديد خطوة مهمة في مسار 25 يوليو 2021 الهادف إلى القطع مع المنظومة السياسية السابقة وإرساء منظومة سياسية بديلة. ولعل النقطة المتعلقة بمستقبل الإسلام السياسي عموماً وحركة النهضة خصوصاً وكيفية التعامل معها من الناحيتين التنظيمية والأيديولوجية من أكثر النقاط التي تستقطب الاهتمام وتثير الخلاف بين النخب السياسية والفكرية.

 

ونشير فيما يلي إلى أبرز النقاط التي يمكن أن نخلص إليها في هذا المضمار:

*يبدو من الضروري تجاوز حالة الانقسام التي صاحبت عملية الاستفتاء وقيادة عملية سياسية إدماجية في أفق الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في ديسمبر 2022، إضافة إلى العمل على المحافظة على أساسيات النظام الديمقراطي وعلى منظومة الحقوق والحريات المكتسبة.

*يوفر النجاح في هذه العملية السياسية الشروط المناسبة للتعاطي مع استحقاقات الأزمة الاقتصادية والمالية وتفادي تداعياتها الاجتماعية، خصوصاً في ظل تعثر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وفي ظل الانعكاسات المحتملة لهذا الاتفاق – إن حصل – على الطبقات الأكثر هشاشة.

*إن الإسلام السياسي من الناحيتين التنظيمية والأيديولوجية في حالة تراجع منذ 25 يوليو 2021 سياسياً واجتماعياً، وهو يسعى لتفادي الأسوأ من خلال فتح ملفات المحاسبة القضائية. غير أنه من المهم أن ندرك أن حالة التراجع لا تعني بالضرورة الأفول، لاسيما وأن لهذا التيار مخزوناً من التجارب في التعامل مع الأزمات وحالات الانحسار والإنهاك واستثمارها في أدبيات الابتلاء والمظلومية.

*إن إحداث القطيعة مع منظومة الإسلام السياسي لا يقتصر على وضع دستور جديد فقط وبخاصة إذا تضمن فصولاً مثيرة للجدل على غرار الفصل الخامس، وإنما يتطلب اتباع سياسات شاملة في مختلف الصُّعد تهدف من الناحية الاستراتيجية إلى وضع الإسلامويين تحت الضغط لأجل فرض القيام بمراجعات جذرية تؤدي إلى الخروج من الإسلاموية من جهة، وإلى القطع في إطار وسائل التنشئة الاجتماعية مع المقولات الأيديولوجية للإسلاموية، بما يحولها إلى أيديولوجيا هامشية غير قادرة على الاستقطاب، وبما يحصن الأجيال القادمة من الوقوع تحت تأثيراتها من جهة أخرى.

*باحث غير مقيم - متخصص في الحركات الإسلاموية - تونس


15/08/2022