×

  مرصد الاسلام السياسي

  التعصب والاستعلاء الديني: تزيين التطرف بالأدلة



*إبراهيم غرايبة

يُخطئ من يظنّ أنّ منظومة التعصّب والعنف والتطرّف والكراهية هي أفكار وجماعات ساذجة ومعزولة، والحال أنّه جنون تنساق إليه الأمم والجماعات في عمليات طويلة ومتراكمة من التفكير "المنطقي" المستند إلى أدلة صحيحة أو مقولات تحظى بالإجماع والقبول، فالتعصّب الديني في حقيقته متوالية من الأفكار والمواقف والمشاعر القائمة على منطق مستمَّد من حقائق ومعتقدات تحظى بالقبول والإجماع. 

وعلى سبيل المثال، ليس ثمّة اختلاف بين "داعش" وسائر المسلمين على الأدلة والمصادر التي يعتمد عليها هذا التنظيم العنيف؛ بل المرعب أنّ هذا الإنتاج للتعصّب والتطرّف والخروج من العالم والخروج عليه في منظومة متماسكة وجذابة هو أخطر ما أصاب عالم الإسلام المعاصر، فقد انتشر هذا "الفكر" وتحوّل إلى مناهج تعليمية وتطبيقية متبعة بين فئات واسعة من المسلمين، ولم يعد مقتصراً على جماعة أو تنظيم، وفي اللحظة التي يتاح فيها لأتباعه فرصة لتطبيقه، فإنّهم يندفعون بحماس وشغف إلى الجنون والدمار.

يسوق سيد قطب مجموعة من الأدلة والمقدّمات المنطقية المؤسسة لجماعات وأفكار تعلن الحرب على العالم، فهو يقرّر أنّ الإسلام منهج حياة شامل، ويقابل الإسلام الجاهلية، فإمّا إسلام، وإمّا جاهلية، إذن المجتمعات التي لا تتمثل هذا الشمول أو تخلّ به ليست إسلامية، بل هي مجتمعات جاهلية؛ إذ يقول تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون"، فما ليس حكم الله هو حكم الجاهلية، وهكذا تنتفي صفة الإسلام عن مخالفة حكم الله. والإسلام منهج رباني من عند الله، وفي ذلك فإنّ المستقبل لهذا الدين، والمسلمون وفق هذه الحقيقة مكلفون بإنقاذ البشرية الحائرة المعذَّبة التي حطّمها البعد عن الإسلام، ويجب عليهم أن يحطّموا كل عائق يحول بين الناس وبين الإسلام.

ويقول في كتاب "المستقبل لهذا الدين": "والناس إمّا أن يعيشوا بمنهج الله هذا بكليته، فهم مسلمون، وإمّا أن يعيشوا بأيّ منهج آخر من وضع البشر، فهم في جاهلية لا يعرفها هذا الدين؛ الجاهلية ذاتها التي جاء هذا الدين ليحطّمها، وليغيّرها من الأساس، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله. والناس إمّا أن يعيشوا بمنهج الله بكليته، فهم في توافق مع نواميس الكون، وفطرة الوجود، وفطرتهم هم أنفسهم، وإمّا أن يعيشوا بأيّ منهج آخر من صنع البشر، فهم في خصام مع نواميس الكون، وتصادم مع فطرة الوجود، ومع فطرتهم هم أنفسهم، بوصفهم قطاعاً في هذا الوجود، تصادم تظهر نتائجه المدمّرة من قريب أو من بعيد".

 

 

هذا المضي في بناء وتزيين اتجاهات شاذة ومخيفة بناء على أدلة متفق عليها دفع على مدى التاريخ والجغرافيا أمماً كثيرة إلى الجنون والدمار. النازية مثلاً التي أنشأت على مقولة التميز والأفضلية دولة متقدمة علمياً وتكنولوجياً، وحشدت فلاسفة ومفكرين وعلماء، ومضت في الحروب والإبادة، وأشعلت حرباً عالمية راح ضحيتها أكثر من (60) مليون إنسان، وفككت أو قسّمت دولاً، وهجّرت وشرّدت عشرات الملايين، وما زال العالم حتى اليوم يعيش في متواليات ونتائج هذا الجنون، لكنّه جنون وقفت وراءه منظومة واسعة من العلم والصناعات والجيوش والجامعات والمدارس! 

يقول سيد قطب، ولا يختلف معه مسلم: "إنّ الإسلام منهج حياة بشرية واقعية بكلّ مقوماتها، منهج يشمل التصوّر الاعتقادي الذي يفسّر طبيعة (الوجود)، ويحدد مكان (الإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني، ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر، كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمدّ منها، والنظام السياسي وشكله وخصائصه، والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته، والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته، والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته".

لكنّ صحة هذا الكلام أو موافقته لا تعني أنّه دين نزل من السماء يجب اتباعه وتطبيقه في جميع الأحوال، ولا يعني أبداً أنّ ما تواضع المسلمون على اتباعه وبنائه من مؤسسات ومناهج وتطبيقات ليس "إسلامياً"، أو أنّه كفر وجاهلية، حتى لو كان يخالف الإسلام بقدر من الأقدار أو في موضع من المواضع، كما أنّها مناهج وتطبيقات ليست واحدة أو موحدة، بمعنى أنّ الصواب لا ينطبق إلّا على فهم واحد أو تطبيق واحد للدين؛ إذ إنّ معظم، إن لم يكن جميع المناهج والتطبيقات المتبعة في عالم المسلمين اليوم، تستند إلى فهم الدين وضرورة تطبيقه، أو عدم التناقض معه، وحتى عندما تكون مخالفة للإسلام أو يُظنّ أنّها مخالفة، فإنّ ذلك لا ينفي صفة الإسلام عن أصحابها، فالخطأ ليس كفراً، وليس جاهلية أيضاً.

والحال أنّنا ننشئ خطاباً "إسلامياً" من خلال المعالجة المنهجية للنصوص الدينية، لكنّ هذا الخطاب ليس هو الإسلام، وإن كان مستمدّاً منه، وليس أيضاً مناقضاً للإسلام، كما أنّه ليس خطاباً واحداً، وإنّما خطابات متعددة ومتنوّعة، وكلها تنتمي إلى الإسلام أو عالم الإسلام، والعبارة الدقيقة لوصفها أنّها خطاب أو خطابات المسلمين، ولا يملك أحد أن يحكم عليها أنّها ليست "إسلامية"، أو أنّها "جاهلية"، أو يجب محاربتها والخروج عليها.

وفي المقابل فإنّ "المنهاج الإسلامي" حتى في صورته التي تدعو إليها جماعات الإسلام السياسي لا يمنح صفة الإسلام لدولة تتبعه أو تطبقه. هل تصبح روسيا أو السويد مثلاً دولة إسلامية إذا طبقت "أحكام الإسلام"؟ إنّ إطلاق حكم بالإسلام أو الكفر على أمّة أو جماعة أو دولة هو حكم غير صحيح، إلّا على سبيل الفهم الإنساني، ولكنّه ليس حكماً دينياً، فالإسلام يكون أو لا يكون باعتقادات وأعمال لا يمكن تصورها إلّا للأفراد. إذ كيف تشهد دولة أو أمّة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله؟ وكيف تؤمن أو تكفر بالله؟ وكيف تصلي وتصوم وتحج؟ ربما يكون لا بأس بوصف الدول والأمم والمجتمعات بالإسلام أو عدم الإسلام، لكنّه وصف إنساني، وليس دينياً. وإطلاق عبارة إسلامي على الدول والأمم والمجتمعات هو استخدام معاصر، ولكنّ الوصف السائد في التراث الإسلامي "دار حرب"، أو "دار سلم"، أو "دار إيمان"، أو "دار كفر"، وهي أيضاً أوصاف وتسميات إنسانية، تشبه ما نقوله اليوم دول صديقة أو دول معادية.

وعودة إلى سيد قطب؛ إذ يقول: "نحن نعتقد أنّ المستقبل لهذا الدين باعتباره منهج حياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض. المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات (الإنسان) الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنسانية. وهذا الدين -بهذا الاعتبار- ليس مجرّد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كلّ مجالاتها الواقعية، إن صحّ أنّ هناك ديناً إلهياً يمكن أن يكون مجرّد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية، وليس مجرّد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين، فتكون لهم صفة هذا الدين. وليس مجرّد طريق إلى الآخرة لتحقيق الفردوس الأخروي؛ بينما هناك طريق آخر أو طرق أخرى لتحقيق الفردوس الأرضي، غير منهج الدين، وغير نظم وتنظيمات الدين".

لكنّ هذا الفهم والاستنتاج مبنيّ على التجربة "الإسلامية" أو تجربة المسلمين الواقعية والتاريخية، والتي يعتبرها سيد قطب منحرفة عن الإسلام منذ وفاة (مقتل) عمر بن الخطاب، بل إنّ الأمّة المسمّاة إسلامية (وهذا تعبير سيد قطب حرفياً) خرجت من الإسلام منذ القرن الـ4 الهجري/ الـ10 الميلادي، ولا يستند هذا الفكر إلى نصوص دينية واضحة تدعو إلى ذلك على نحو لا يحتمل الخلاف والجدل، ولو كان مثل هذه النصوص موجوداً، لما اختلف واقتتل الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين، فلم تخلُ التجربة الإسلامية من الاقتتال العنيف والمدمّر، ولم تخلُ أيضاً من الانحراف عن الإسلام، أو الخطأ في فهمه وتطبيقه.

لا بأس بطبيعة الحال أن يكون "المنهج الإسلامي" تصوّراً إنسانياً وتطبيقاً حضارياً منتمياً إلى الإسلام، لكنّ ذلك لا يُنشئ أوصافاً وأحكاماً بالكفر والإيمان أو الحلال والحرام، فليس حراماً إلّا ما حرّمه الله بالقول الواضح الذي يعرفه ويؤمن به جميع المسلمين.

*كاتب أردني

*موسوعة الحفريات


17/08/2022