* حسين الوادعي
لا تخلو المآسي البشرية من المصطادين في الماء العكر.
ففي عز مأساة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، موقعاً آلاف القتلى وملايين المتضررين، فضّلت بعض الأصوات حرف الاهتمام عن المأساة الإنسانية والحديث عن أن الزلزال غضب من الله بسبب معاصي الناس.
ولأن الزلزال ضرب دولة يعتبرها كثر من حملة الخطاب الديني، أرض الخلافة الموعودة، فقد عدلوا صحيفة الاتهام قليلاً ليصبح الزلزال رسالة من الله ليذكرنا بعظمته وقوته، بدلاً من الاتهام التقليدي بكونه عقاباً على المعاصي!
وتجاهل الخطاب الديني صور المساجد المدمّرة والمآذن المنهارة، لأنها لا تتناسب مع دعوى تذكير العباد بدينهم وربّهم. فكيف يذكرهم الله بنفسه ويهدم في الوقت نفسه المساجد ودور العبادة، التي سيعبدونه فيها؟
لكن على رغم هذه التعديلات المسيّسة، لم يخرج خطاب استثمار الكوارث والمآسي لترويج خطاب التوبة عن فكرته الرئيسة: تحقير الإنسان وتحويله الى عاص وغافل ينال ما يستحقه من فجائع.
يبدو غامضاً السبب الذي يدفع بعض المنتمين الى النوع الإنساني، إلى نسيان معاناة الضحية وتصويرها في موقف العاصي والمذنب الذي يعاقبه أو يحوّله الى مجرد عبرة لتذكير الناس بجبروته وقوته وتفوّقه عليهم.
المناطق السورية التي ضربها الزلزال، هي مناطق تجمع آلاف الأسر السورية النازحة والهاربة من جحيم الحرب الأهلية، والتي تعيش ظروفاً صعبة جداً من الهجرة والفقر والشتات. كما أن المنطقة التركية المنكوبة بفعل الزلزال، هي إحدى المناطق الفقيرة التي هرب إليها الأتراك للعيش فيها بعدما عجزوا عن العيش في المناطق الأكثر ازدحاماً وغلاء، وهنا يبدو السؤال المنطقي: لماذا يختار الله واحدة من أفقر المناطق وأكثرها ازدحاماً بالفقراء واللاجئين والمتضررين لكي يعاقبهم أو لكي يبرز قدرته؟
يبدو النقاش العقلاني لمثل هذا الخطاب عبثياً.
فالحجة التي يستند إليها الناطقون باسم الغضب الإلهي، يمكن دحضها بحجج بسيطة. لكن قوتها تكمن في أنها تتحدى بوقاحتها وسذاجتها، أبسط قواعد العقل. وليس هذا أسوأ. يبقى الأسوأ تضحيتها بأبسط مبادئ التعاطف الإنساني بذلك التعصب الهمجي الفوقية التي لا تعطي أي اعتبار أو قيمة للإنسان، وترى تناقضاً بين احترام الإنسان وتنزيه الإله.
تقتل الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير… الفقراء والأغنياء. إلا أنها ولأسباب عديدة، تقتل من الفقراء أكثر بكثير مما تقتل من الأغنياء. وتعصف بحياة الفقراء أكثر مما تعصف بحياة الأغنياء. وهذا يعود الى أسباب كثيرة.
فعندما يقع الزلزال في مدينة ما، فإن عدد القتلى يكون أكبر في المناطق لأنها الأكثر ازدحاماً بالسكان، كما أن نوعية البناء المتدنية وعدم تجهيز المباني بمعدات السلامة يؤديان إلى وفيات أكثر، بخاصة أن ضحايا الزلازل في غالبيتهم، يموتون بسبب انهيار المنازل أو المواد المتطايرة، فيما يكون الضحايا في المناطق الغنية أقل، لأن الكثافة السكانية أقل والبنايات أكثر قدرة على التحمّل.
ومن ينجو من الكارثة الطبيعية، ستختلف قدرته على التعافي بناء على وضعه الاجتماعي والمادي. فالفقير الذي يفقد بيته، سيظل مشرداً طوال حياته. والفقير الذي يفقد عمله، سيعاني لسنوات من الفقر والجوع والمرض. ومع انتشار الأمراض والأوبئة بعد الكارثة، سيموت الكثير منهم من تداعيات الكارثة وانتشار الأمراض الجسدية والنفسية.
هذه العوامل تجعل الكوارث الطبيعية الوسيلة المثلى لعقاب الفقراء وتدمير حياتهم إلى الأبد.
فأي عقاب إلهي يخطئ حتى في اختيار ضحاياه؟
تعبّر هذه الأقوال أفضل تعبير عن بؤس الخطاب الديني، الذي وجد نفسه معزولاً عن غالبية جوانب الحياة الإيجابية والمتقدمة، بعد أن تطورت معظم المجتمعات وصارت أكثر سلماً وأماناً وحرية، وأقل تعرضاً للأمراض والحروب. وهو وضع مثالي، وبالتالي لا يترك الخطاب الديني فرصة للتذكير بنفسه إلا من طريق الحروب والكوارث ومآسي الفشل الإنساني.
تضرب الزلازل الأرض منذ أكثر من 3 مليارات سنة، أي قبل أن تكون أشكال الحياة المعقدة حتى. وتضرب المنطقة الجغرافية نفسها المسماة بحزام الزلازل من دون غيرها، وغالبيتها تقع فيها دول، وتتحمل خمس دول العبء الأكبر من الزلازل ونتائجها الكارثية على البشر والممتلكات والبيئة. حقائق بسيطة لا تترك لأصحاب خطاب العقاب الإلهي مخرجاً غير تصوير الإله في صورة الإله العشوائي المزاجي الغاضب، الذي يضرب حيثما يشاء ووقتما يشاء من دون حكمة.
وهذه الصورة ليست صورة الإله الرحيم الذي يعبده الناس لرحمته، بل هي صورة “الإله العربي” الذي حلّله وفكّكه عبدالله القصيمي في كتابه “الكون يحاكم الإله”. تخيل العرب إلهاً له صفاتهم الأمية البدوية نفسها، فصوّروه منتقماً، ماكراً، غيوراً، متقلباً، غاضباً، متعصباً، نرجسياً، ومغرماً بمديح الناس وعبوديتهم له. فهل من المعقول، والكلام للقصيمي أيضاً، مطالبة الإنسان بأن يكون أكثر كمالاً من الخالق وأعدل وأحكم منه؟ ولماذا يصبح الإنسان ملعوناً لو قتل بريئاً أو امرأة أو طفلاً، بينما الإله يفعل ذلك كله من دون محاكمة؟
إذا ذهبنا مع المنطق الذي يلغي أي فعالية بشرية، ويقول إن كل شيء هو فعل مخطط من الله لعقاب البشر، بما في ذلك الحروب والكوارث والأوبئة، أليس أي ذنب يرتكبه الإنسان أو خطأ ترتكبه الطبيعية هو في حقيقته إدانة للصانع وصناعته؟
أليس أي عيب أو مرض يصيب المخلوق هو في حد ذاته اتهاماً للخالق باختلاق هذا العيب؟
هذه التساؤلات الفلسفية تبيّن خطر خطاب العقاب الإلهي، لأنه يضع الناس في مواجهة مباشرة صعبة بين إنسانيتهم وإيمانهم. وينزع عن الضحايا إنسانيتهم ومظلوميتهم ليحوّلهم الى مذنبين أو الى مجرد “عبرة” لا قيمة لها في حدّ ذاتها، لأن قيمتها تصبح فقط في الرسالة الإلهية القاسية الموجّهة الى الآخرين الذين لم يصلهم العقاب الإلهي بعد.
*كاتب وحقوقي يمني
*موسوعة درج