مصرع الرئيس الإيراني.. الأبعاد والتداعيات والسيناريوهات المحتملة
في التاسع عشر من مايو 2024، اُعلن أن مروحية من طراز بيل 212 تقل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان والوفد المرافق لهما قد تعرضت لحادث وانقطع الاتصال بها، وذلك أثناء تحليقها فوق منطقة جبلية وسط ضباب كثيف بالقرب من مدينة جلفا بنطاق محافظة أذربيجان الشرقية على الحدود مع جمهورية أذربيجان، وبعد مرور نحو عشرين ساعة، أُعلن رسميًا العثور على حطام الطائرة ووفاة جميع ركابها بما فيها الرئيس الإيراني.
تعرض هذه الورقة لأبعاد هذا الحادث ودلالاته والتداعيات المترتبة عليه، فضلًا عن السيناريوهات المحتملة لمستقبل المشهد السياسي الإيراني.
أولًا- ملابسات الحادث وتطوراته وتفسيراته:
كان الرئيس الإيراني في طريق عودته لمدينة تبريز عاصمة محافظة أذربيجان الشرقية لإطلاق مشروع نفطي بها على بعد نحو 130 كم من مدينة جلفا على الحدود مع أذربيجان، حيث كان عائدًا من افتتاح سد مائي على الحدود المشتركة مع جمهورية أذربيجان، وهو سد “قيز قلعة سي” على الحدود بين البلدين بمشاركة نظيره الأذري إلهام علييف. ولعل اللقاء الأخير بين الرئيسين الإيراني والأذربي لافتتاح السد، محاولة لتحسين العلاقات وتحقيق نوع من التقارب الإيراني الأذربي، خاصة في ضوء موقف الأولى من أذربيجان على خلفية علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل وتركيا.
فور الإعلان عن الحادث، شارك 73 فريقًا في عمليات البحث والإنقاذ، مستخدمين الكلاب المدرّبة والطائرات المسيّرة، كما فعّل الاتّحاد الأوروبي بناءً على طلب طهران، نظام الخرائط الخاصّ به لمساعدة إيران في العثور على مروحيّة رئيسي. وشاركت تركيا في عمليات البحث باستخدام مسيَّراتها المتطورة. وقد صعّبت تضاريس المنطقة الجبلية بالإضافة إلى الضباب والظروف الجوية السيئة عملية البحث التي استغرقت ساعات طويلة قبل أن تتمكن فرق الانقاذ من تحديد منطقة سقوط الطائرة المحتملة. وأرسلت السلطات الإيرانية إلى موقع الحادث “أكثر من 20 فريق إنقاذ مجهّزين بمعدّات كاملة، بما في ذلك طائرات بدون طيار وكلاب إنقاذ”، لكن مسيّرة الاستطلاع التركية “بيرقدار أكنجي” المزوّدة بتقنية الرؤية الليلية هي التي أسهمت في الكشف عن مكان وجود حطام طائرة رئيسي من خلال الإمكانيات المتوفرة لها من تقنيات التصوير المرئي واستشعار الأجسام الحرارية في مكان سقوط الطائرة، حيث أرسل الهلال الأحمر الإيراني والحرس الثوري فرق بحث وإنقاذ إلى منطقتين، حددت المسيّرة التركية “بيرقدار أكنجي” وجود مصدر حرارة فيهما بمحافظة أذربيجان الشرقية للبحث عن المروحية التي كانت تقل رئيسي، ثم التحق فريق إنقاذ روسي بعمليات البحث في تبريز عبر طائرة من نوع “بي- أو 105″، وبعد أكثر من 12 ساعة على بدء البحث، رُصد حطام المروحية المفقودة، لتُعلن السلطات الإيرانيّة العثور على المروحيّة التي كانت تقلّ الرئيس إبراهيم رئيسي ومسؤولين آخرين في منطقة جبليّة وعرة بشمال غرب البلاد، مؤكدة وفاة جميع من كان على المروحية المحطمة.
أما بخصوص موقع الحادث، فقد وقع في منطقة جبيلة بالقرب من قرية “أوزي” في غابات “أرسباران” في نطاق مدينة جلفا بأقصى شمال محافظة أذربيجان الشرقية، وهي المحافظة التي تقع على الحدود مع أذربيجان وأرمينيا، ويقع موقع الحادث على بعد 600 كم من العاصمة طهران، و527 كم من مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، وعلى بعد 1400 كم من العاصمة التركية أنقرة، وعلى بعد 520 كم و267 كم على التوالي من موقعي إرسال المعدات التركية ومسيرتها بمدينتي “أرضروم” و”فان”.
في المجمل هناك ثلاثة سيناريوهات/ فرضيات محتملة للحادث:
أولها الأحوال الجوية والطقس السيئ، وثانيها أعمال الصيانة وتهالك الطائرة، وثالثها عمل مدبر. وبالنسبة للسبب الثاني فهو محتمل بدرجة كبيرة، ولاسيما أن قطاع النقل الجوي في إيران قد شهد خلال العقد الأخير حوادث عدة، تمثلت في انحراف عدد من الطائرات عن المدرج في أثناء الإقلاع أو الهبوط، وسقوط عدد آخر بعد أن شبت النيران في محركاتها، واصطدام أخرى بقمة سلسلة جبال زاغروس وسط البلاد، إلى جانب الحوادث التي أصابت المروحيات التي تقل المسؤولين الإيرانيين. وأشار محللون إلى أن تلك الحوادث تأتي بسبب معاناة الأسطول الجوي الإيراني المتهالك، كما أجمعت بعض الأوساط الإيرانية على أن العقوبات الأمريكية المفروضة على قطاع النقل الجوي تشكل العامل الرئيسي في تكرار هذه الحوادث، في حين يرى آخرون أن مخاطر انعدام الرقابة وتهالك الأسطول الجوي لا تقل خطرًا.
فيما يتعلق بفرضية الطقس، فقد بدأت الشكوك تتزايد في ظل ما هو معروف مسبقًا حول أحوال الطقس سواء من جانب الجهات المختصة والمعنية بحماية الرئيس أو الطيار نفسه، ناهيك عن وصول الطائرتين المرافقتين له في نفس التوقيت لوجهتهما، كما يؤكد خبراء أن الضباب والغيوم والتضاريس قد لا تؤثر بقوة على مسار مروحية رئيسي لأنها مجهزة للهبوط حتى حال تعطل المحركين معًا، وهو أمر صعب، بل إنه في حال تعطل المحركين تعمل الطائرة بطريقة الدوران الذاتي وتستطيع عبره الهبوط بسلام. لكن إذا فقدت الطيارة شفرتيها فإنها بالتأكيد ستهوي بسرعة كبيرة جدًا وبقوة ارتطام مأساوية بحيث لا يخرج منها أية ناجين، فإذا ما أكدت التحقيقات هذه الفرضية يكون السيناريو واردًا.
واتساقًا مع هذا السيناريو، بدأت ملامح الإشارة لاحتمالات العطل الفني وليس أحوال الطقس القاسية مثلما أُعلن في البداية، وعليه أمر رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري بإجراء تحقيق في أسباب تحطم مروحية رئيسي.
وهناك تساؤلات عديدة تبحث عن إجابات منها مثل مجازفة الرئيس ركوب طائرة متهالكة في أجواء طقس صعبة للغاية، على الرغم من وجود بدائل روسية نظيرة، خاصة في ضوء ما تتطلبه الطائرات من تحديث نظمها الملاحية من قبل الشركة المنتجة، وهي في حالتنا شركة أمريكية في الأساس. ولماذا لم يستطع رجال الانقاذ تحديد الموقع الجغرافي لهاتف الرئيس أو هاتف ركاب الطائرة وهم قادرون على التقاط إشارات من هواتف الأقمار الصناعية الأخرى في المنطقة؟ وهناك من يتحدث عن مؤامرة داخلية من خصوم رئيسي، الذي كان المرشح الأوفر حظًا لخلافة خامنئي في ضوء تقدم عُمر الأخير واعتلال صحته. وهناك من يشير بأصابع الاتهام إلى منظمة “مجاهدي خلق” المعارضة والموجودة في المنفى والمحظورة منذ عام 1981 في إيران، حيث تصفها السلطات بـ “الإرهابية”. وثمة من يزعم أن الطائرة تعرضت لتشويش سيبراني مصدره إسرائيل، التي تمتلك وجودًا استخباريًا قويًا على الحدود الايرانية الأذربيجانية. وقد نفت إسرائيل تمامًا ومن دون سبب أو اتهام علاقاتها بسقوط طائرة الرئيس الإيراني. ومن أكثر الفرضيات إثارة للاهتمام، في هذا الخصوص، هو اتهام وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، الولايات المتحدة بالتسبب في سقوط مروحية الرئيس الإيراني؛ لأنها فرضت عقوبات على قطاع الطيران في إيران ومنعت إدخال قطع تحديث الطائرات.
في جميع الأحوال، يلاحظ أن النظام الإيراني قد تفادى منذ اللحظة الأولى إثارة الشكوك حول الحادث تفاديًا لاستغلال الوضع وإحداث فوضى داخلية، أو وضع النظام في موقف حرج والمطالبة بالبحث والاعلان عن المتورطين، ومن ثم الثأر للرئيس الإيراني، وهذا أمر يضع النظام في تحدٍّ صعب للغاية، ولا يستطيع مواجهته، وبالتالي فقد لجأ مباشرة إلى خيار تبريد الأجواء وإحالة الأمر للقدَر والظروف والبحث بهدوء لاحقًا عن أسباب الحادث ومعالجتها بالشكل الذي يراه مناسبًا بعد ترتيب المشهد الداخلي. وبشكل عام فإن الشواهد تقول أن النظام الإيراني ليس في عجلة من أمره فيما يتعلق بالبحث عن خلفيات الحادث وأسبابه، حيث يتعمد قادة النظام الإشارة من قريب أو بعيد للتشكك في دوافع الحادث، وهو ما يغذي بدوره التكهنات حول أسباب الحادث ومغزى تكتم النظام الإيراني، الذي يبادر عادة إلى اتهام أطراف معينة في كل واقعة بالمسؤولية عنها.
ثانيًا- أبعاد الحادث ودلالاته
يشير حادث سقوط المروحية الإيرانية ومقتل الرئيس ومرافقيه إلى تساؤلات حول ثلاث مسائل:
1 ـ تأثير العقوبات الأمريكية على القدرات الإيرانية، وما إذا كانت العقوبات أثرت على عمليات الصيانة وتوافر قطع الغيار للمعدات الأمريكية في إيران:
يعود تاريخ تصنيع الطائرة المنكوبة وهي من طراز “بيل 212” إيطالية الصنع وأمريكية إلى سبعينيات القرن الماضي، وهو ما يعني أن عمرها يقترب من الأربعين عامًا. وتعاني هذه المروحيات، التي تمتلك طهران منها 10 طائرات، وسقطت طائرة إيرانية من ذات الطراز في عام 2018، من عدم توافر قطع الغيار والصيانة في ضوء العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والدول الغربية على إيران، لتقليص قدراتها العسكرية، وبسبب ذلك تعتمد إيران في الأساس على التسليح الروسي، بالإضافة للصناعات العسكرية المحلية. وهو ما يثير علامة استفهام حول استخدام الرئيس الإيراني لطائرة متقادمة من طراز أمريكي، على الرغم من وجود بدائل روسية ذات سمعة عالمية كالطائرات من طراز (مي) بأنواعها المختلفة، وكذا الطائرات المروحية الروسية من طراز (كا) بأنواعها المختلفة، واللواتي يتم استخدامهن في أكثر من 45 دولة، ومعظمها طائرات متعددة المهام، خاصة الطائرة (كا 62) التي عُرضت في معرض “ماكس 2021″، التي يتم تصديرها وتستخدم في النقل المدني.
ورغم أن إيران تملك أحد أكبر الجيوش الإقليمية، فإن التقارير الدولية تُشير إلى نقص التجهيز والتدريب، وهو ما يعني أن الوزن الفعلي للجيش الإيراني في القتال الحديث ضد قوى عسكرية متقدمة تكنولوجيًا سيكون أقل بكثير مما تُشير إليه قوته نظريًا.
ومع خضوعها للعقوبات الدولية، يتراكم مخزون كبير من المعدات المتقادمة التي يعود تاريخها لسبعينيات القرن الفائت، والتي تم الحصول على الجزء الأكبر منها قبل سقوط حكم الشاه، ومنها الطائرة الرئاسية المنكوبة. وتُشير التقارير الدولية المتخصصة إلى افتقار إيران إلى منظومة طيران عسكرية متطورة، وهو ما كشفت عنه الحادثة الأخيرة، كما أن مخزونها غير الموحد من أنظمة الطيران والدفاع الجوي الروسية والأمريكية والصينية والمحلية يزيد -وفقًا لمراقبين- من تعقيد الخدمات اللوجستية وقابلية التشغيل والتدريب. وللتغلب على هذا التحدي تبذل إيران جهدًا كبيرًا لتطوير صناعتها العسكرية محليًا والاعتماد بشكل متزايد على تطوير قدراتها البحرية وفي مجال الحروب اللامتماثلة، مع الرهان على الطائرات المسيّرة، بطرازاتها المتعددة، حيث حققت إيران إنجازات عدة على هذا الصعيد، وباتت من الدول المصدّرة للمسيرات.
ولاشك أن سقوط مروحية الرئيس الإيراني ومقتله يسلط الضوء بقوة على تأثير العقوبات الدولية المفروضة على إيران، وعدم الاعتماد على البدائل الروسية على نطاق واسع، واستمرارية الاعتماد على المعدات الأمريكية المتقادمة، وذلك خاصة في ظل تعاقب الحوادث من هذا النوع في البلاد، إذ يربط البعض هذه “الظاهرة” بالعقوبات الدولية وخاصة الأمريكية، التي تمنع إيران من تحديث أسطولها الجوي منذ عدة سنوات. وقد أشرنا إلى تصريح وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف عن تحميل الولايات المتحدة مسؤولية وفاة رئيسي. وقد مُنعت إيران إلى حد كبير من شراء طائرات جديدة أو مكونات طائرات أو حتى أبسط قطع الغيار من الموردين الأمريكيين أو الأوروبيين منذ عام 1979.
2ـ مسألة كفاءة وتطور التكنولوجيات العسكرية
يرى مراقبون أن إيران قد حققت نجاحًا كبيرًا في الحفاظ على معداتها العسكرية القديمة قيد التشغيل – مثل الطائرة الرئاسية المنكوبة- وتحديث العديد من أسلحتها، وكذا إنتاج الاحتياجات التي تطلبها عمليات الصيانة محليًا، ولكن على الرغم مما يرُوج له بشأن قدرات إيران المتقدمة في تطوير طائرات مسيّرة، فقد أرسلت روسيا طائرتين متطورتين مع مروحيات خاصة غير معروفة العدد وفريق بحث وإنقاذ مكون من 50 فردًا “مزودين بالمعدات اللازمة ومناسبة لكل أنواع التضاريس ومروحية من طراز بي أو 105” وفقًا لما أعلنته موسكو، للمشاركة في مهمة البحث عن حطام الطائرة. كما طلبت إيران مساعدة تركيا، التي أرسلت بدورها -ضمن معدات أخرى- المسيّرة القتالية من طراز ” بيرقدار أكينجي”، ذات القدرات العالية والتي تطير على ارتفاعات عالية، وطورتها شركة صناعة الدفاع “بيكار” التركية، وتم إدراجها عسكريًا في 29 أغسطس 2021. وقد نجحت هذه الأخيرة في الوصول إلى موقع الحادث، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن مدى تطور القدرات العسكرية الإيرانية في التعامل مع الحوادث المشابهة.
3ـ مسألة الاستعداد المسبق وإدارة الأزمة في إيران:
كشف الحادث عن قصور كبير وتساؤلات حول خطط تأمين المسؤولين الإيرانيين ولاسيما رئيس الدولة، وفرق الطوارئ وإدارة الأزمة، وكذا القدرات اللوجستية وفرق التدخل المبكر، ومنظومات البحث والإنقاذ، والظروف الجوية الملائمة للطيران، ولاسيما طائرات المسؤولين رفيعي المستوى، وخاصة أن الطائرة المذكورة -نظريًّا- لديها قدرات متعددة المهام ومزودة بمعدات ومخارج طوارئ، كما أن لديها قدرات عالية على المناورة في الظروف الجوية القاسية، وهي التساؤلات التي تثير علامات استفهام حول القدرات الإيرانية. وتتفق هذه التساؤلات مع التقارير الدولية الصادرة في السنوات الأخيرة التي أشارت بوضوح أن هناك فجوة معتبرة بين القدرات الإيرانية نظريًا وبين قدراتها الفعلية جراء تقادم المعدات والحظر المفروض عليها الذي يقيد عمليات تطوير وتحديث قدراتها العسكرية والتكنولوجية، وما يؤكد ذلك عجزها عن إدارة عملية الإنقاذ منفردة واستعانتها بتركيا التي أرسلت طائرة متقدمة وفرق بحث وإنقاذ من مسافة 520 كم تقريبًا من موقع الحادث، وهي المسافة التي تقل قليلًا عن المسافة بين العاصمة طهران وموقع الحادث في نطاق مدينة جلفا.
ومع أن إيران حرصت تمامًا منذ لحظة وقوع الحادث إلى وصفه بألفاظ تعكس كونه حادثًا قدَريًا، ونأت بنفسها عن نظرية المؤامرة أو هكذا تظهر على الأقل، فإن الخبراء يرجحون أن يتجه التحقيق الإيراني للبحث في الأسباب المحتملة لسقوط الطائرة، ولاسيما أنها كانت ضمن 3 طائرات، وصلت اثنتان منها إلى تبريز، وبالتالي يرى البعض أن الأحوال الجوية لم تكن ذات تأثير أساسي في الطيران، وخاصة في ضوء القدرات المعروفة للطائرة المنكوبة بشأن الطيران في الظروف الجوية القاسية وقدراتها على المناورة، وكونها متعددة المهام.
ثالثًا: إدارة المرحلة الانتقالية وسيناريوهات المستقبل
هناك تداعيات عدة لوفاة الرئيس الإيراني، بعضها يتعلق بالوضع الداخلي حيث إن وفاة رئيسي وعبداللهيان يعد خسارة لجناح مهم داخل أجنحة الحكم في إيران، حيث كان رئيسي يعد أحد أقوى المرشحين لخلافة المرشد الحالي، الذي يعاني تدهورًا صحيًا متزايدًا، وبالتالي فإن غياب رئيسي يصب في مصلحة منافسين آخرين؛ منهم: مجتبى خامنئي نجل المرشد الأعلى (54 عامًا) وهو رجل دين مؤثر يسهم في إدارة مكتب والده، ومحمد باقر قليباف رئيس مجلس الشورى، وغلام حسين محسني ايجه رئيس السلطة القضائية، بالإضافة إلى الرئيس السابق حسن روحاني الذي يعد -تقليديًا- من الأسماء المطروحة لتولي منصب المرشد.
والأهم مما سبق أن غياب رئيسي قد يفجر صراعًا مكتومًا على السلطة داخل أوساط المحافظين الإيرانيين؛ باعتبار أن رئيسي كان دائمًا حلقة وصل مهمة بين القوى السياسية المتصارعة. والأرجح أن تهيئة المسرح للمرشد المقبل ستبدأ من انتخابات الرئاسة المقبلة، بمعنى أن موافقة مجلس صيانة الدستور على ترشح قاليباف لخوض الانتخابات ستعطي مؤشرًا مهمًّا على التوجهات الايرانية المستقبلية بالنظر إلى شخصية قاليباف المثيرة للجدل.
وسيكون للحرس الثوري دور حيوي في اختيار الرئيس الذي يتوقع أن يكون خليفة للمرشد، لاسيما بعد غياب رئيسي الذي كان شخصية مفضلة للحرس الثوري، بالنظر إلى أنه كان “رجل نعم” أو رجل التوافقات.
ويأتي الحادث وسط تحديات متزايدة للسياسة الخارجية الإيرانية، والأهم أن الحادثة لم تغيّب فقط الرئيس بل وزير خارجيته حسين عبد اللهيان، الذي يمسك بجميع ملفات السياسة الخارجية بشكل لم يتوافر لنظرائه السابقين في الحكومات السابقة، حيث كان موضع ثقة رئيسي، ولكن انتقال إدارة السياسة الخارجية بسرعة إلى محمد باقر كني سيحد من التداعيات السلبية بحكم خبرته في التعامل مع الأوساط الغربية تحديدًا من خلال إدارة مفاوضات الملف النووي الايراني، الذي يأتي منه غالبًا أكثر وزراء خارجية إيران في السنوات الأخيرة.
وعلى المستوى الدستوري، تنص المادة 131 من الدستور الإيراني على أنه في حالة وفاة رئيس الجمهورية، أو عزله، أو استقالته، أو غيابه، أو مرضه لأكثر من شهرين، أو في حالة انتهاء فترة رئاسة الجمهورية وعدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية نتيجة وجود بعض العقبات أو لأمور أخرى من هذا القبيل، يتولى المعاون الأول لرئيس الجمهورية أداء وظائف رئيس الجمهورية، ويتمتع بصلاحياته بموافقة القيادة. ووفقًا للدستور الإيراني أيضًا، يتوجب على هيئة مؤلفة من رئيس مجلس الشورى الإسلامي ورئيس السلطة القضائية والمعاون الأول لرئيس الجمهورية أن تعد الأمور ليتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال فترة 50 يومًا على الأكثر، وفي حالة وفاة المعاون الأول لرئيس الجمهورية أو لوجود أمور أخرى تحول دون قيامه بواجباته، وكذلك فيما إذا لم يكن لرئيس الجمهورية معاون أول، تعين القيادة شخصًا آخر مكانه. وفي هذا السياق، تم تشكيل لجنة مكونة من الرئيس المؤقت ورئيس البرلمان ورئيس السلطة القضائية لوضع الترتيبات اللازمة لانتخابات رئيس جديد للبلاد في غضون 50 يومًا هي إجمالي المدة الانتقالية.
وعليه، تولى النائب الأول للرئيس الإيراني محمد مخبر رئاسة الجمهورية، خلال المرحلة الانتقالية، ويتمتع بصلاحيات الرئيس، حيث حصل على مباركة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية. وينحدر محمد مخبر (68 عامًا) من منطقة دزفول في محافظة خوزستان بجنوب غرب البلاد. وقد تقلد مناصب مهمة في الدولة، من بينها إدارة صندوق “ستاد” للاستثمار في عام 2007، ويُعرف الصندوق باسم “هيئة تنفيذ أوامر الإمام”، وهو صندوق تأسس بموجب أمر من مؤسس الجمهورية الإسلامية سلف خامنئي وهو آية الله روح الله الخميني. ومن المعلوم أن محمد مخبر مقرب من المرشد الأعلى علي خامنئي، وقد عُيّن نائبًا أول لرئيس الجمهورية، في أغسطس من عام 2021 عقب الانتخابات الرئاسية.
رابعًا: اتجاهات النظام السياسي الإيراني بعد رئيسي (سيناريوهات المستقبل):
هناك عدة تحديات سوف تواجه الرئيس الانتقالي محمد مخبر، الذي أدرجه الاتحاد الأوروبي في عام 2010 على قائمة الأفراد والكيانات الخاضعة للعقوبات بسبب ما قيل عن الضلوع في أنشطة نووية وأنشطة للصواريخ الباليستية. وبعد عامين من ذلك التاريخ، أزال التكتل اسمه من على تلك القائمة. لكن في عام 2013، أضافت وزارة الخزانة الأمريكية صندوق “ستاد” الذي كان يديره مخبر و37 شركة أخرى يشرف عليها الصندوق في قائمة الكيانات الخاضعة للعقوبات الأمريكية. أما التحدي الثاني، فيتمثل في ضرورة إجراء انتخابات جديدة في غضون 50 يومًا؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى صراع شديد على السلطة. أمّا التحدي الثالث، فيتمثل في تحدي الاستقرار حيث الصدمة المفاجئة بوفاة الرئيس الإيراني من شأنها أن تقدم نفسها كاختبار للمرشد الأعلى خامنئي شخصيًا والذي عليه أن يُظهر أنه قادر على قيادة البلاد خلال هذه الفترة الانتقالية. خاصة وأن رئيسي كان يُنظر إليه على أنه المرشح المحتمل لخلافة المرشد الأعلى خامنئي، 85 عامًا، حيث “تمتع بخبرة هائلة؛ فهو رجل دين ورئيس قضاة سابق ورئيس سابق لمؤسسة ضخمة، بالإضافة إلى كونه رئيسًا. ولكن إذا تمكن خامنئي من تحقيق انتقال سلس، فإن الجمهورية الإسلامية سوف تظهر قدرًا من الاستقرار في وقت صعب.
وفي المجمل، أن وفاة الرئيس الإيراني رئيسي من شأنها أن تغير ميزان القوى بين الفصائل داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فبعد الانتهاء من المرحلة الانتقالية، من المرجح أن يتم اختيار رئيس البرلماني الإيراني محمد باقر قاليباف، لخوض انتخابات رئاسة إيران، خاصة وأنه قد ترشح للرئاسة عدة مرات، بدءًا من عام 2005. وكان قاليباف، الذي كان تكنوقراطيًا أكثر من كونه أيديولوجيًا، قائدًا في الحرس الثوري الإيراني خلال الحرب الإيرانية-العراقية.
كما أشارت تقارير أجنبية أن وفاة رئيسي من شأنها أن تفتح نافذة فرص غير متوقعة أمام بعض المسؤولين الإيرانيين بالإضافة لمحمد باقر، ومنهم مجتبى نجل آية الله علي خامنئي، الذي سيكون مرشحًا بشكل كبير لخلافة والده في منصب المرشد الأعلى، بعدما أصبح الطريق ممهدًا أمامه، وهو الترشيح الذي قد يأتي في إطار صفقة مع “باقر قاليباف”.
وقد حددت السلطات الإيرانية يوم 28 يونيو المقبل موعدًا لإجراء انتخابات رئاسية، بعد أن أفادت وسائل إعلام إيرانية- من بينها التلفزيون الرسمي يوم الاثنين الموافق 20 مايو أنه تمت الموافقة على موعد الانتخابات خلال اجتماع لرؤساء السلطة القضائية والحكومة والبرلمان، وذلك “بموجب الاتفاق المبدئي لمجلس صيانة الدستور”.
وفيما يتصل باتجاهات الانتخابات الإيرانية المحتملة، فتُشير التقديرات الدولية إلى أن عدد الأصوات الانتخابية المسجلة في قواعد البيانات الرسمية هي 59,310,307، بنسبة تصويت بلغت في آخر انتخابات 62,36%، وقد عُقدت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 16 يونيو 2021، وشارك فيها ما يقرب من 29 مليون ناخب، بلغت الأصوات الصحيحة ما يقرب من 25 مليون صوت، وما يقرب من 4 ملايين صوت باطل، وهي الانتخابات التي فاز فيها الرئيس الراحل سيد إبراهيم رئيسي بعدد 18 مليون صوت تقريبًا بفارق كبير عن أقرب منافسيه “محسن رضائي”، بحوالي 3.5 ملايين صوت تقريبًا، وعليه تكشف الانتخابات السابقة عن صعوبة وجود منافس حقيقي للمرشح الأوفر حظًا في الانتخابات.
أما على مستوى اتجاهات التيارات السياسية المتشددة والمحافظة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، فقد جرت في الأول من مارس انتخابات برلمانية لمجلس الشورى الإسلامي المكون من 290 عضوًا لمدة أربع سنوات، ومجلس الخبراء المكون من 88 عضوًا لمدة ثماني سنوات، الذي يُعين بدوره المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وكانت هذه الانتخابات أول انتخابات تجرى في البلاد منذ الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق في عامي 2022، و2023، التي أعقبت وفاة “مهسا أميني”، وقد أشارت تقارير دولية لوفاة 551 متظاهرًا جراء تلك الاحتجاجات على أيدي قوات الأمن.
وقد أسفرت الانتخابات التشريعية الأخيرة عن سيطرة التيارات السياسية المحافظة والمتشددة مرة أخرى على البرلمان ومجلس الخبراء، مع انخفاض نسب المشاركة الانتخابية، وهو ما فسرته تقارير دولية على ضعف ثقة الرأي العام في إيران في النخبة الحاكمة، ووفقًا للدستور الإيراني يجب أن يحصل المرشحون لانتخابات مجلس الشورى الإسلامي ومجلس الخبراء على موافقة مجلس صيانة الدستور المؤلف من 12 عضوًا، وهو المجلس المُعَيَّن نصفه من قبل المرشد الأعلى، وقد أشارت تقارير دولية إلى دور مجلس صيانة الدستور في تعزيز التيارات المحافظة والمتشددة في البرلمان من خلال رفضه لكثير من راغبي الترشح للبرلمان الذين لم يستوفوا معاييره للترشح.
وقد أشار وزير الداخلية الإيراني أن نسبة التصويت بلغت 41%، وهو المستوى الأدنى في تاريخ الانتخابات الإيرانية منذ الثورة، حيث كانت أقل نسبة هي 43% في انتخابات 2020، وكانت العاصمة من بين المناطق التي شهدت أدنى نسبة مشاركة انتخابية، تلاها المناطق التي تسكنها الأقليات الكردية والبلوش.
وتأتي أهمية الانتخابات التشريعية الأخيرة، ليس في سيطرة التيارات المتشددة على البرلمان، وإنما دورها المنتظر في اختيار المرشد الأعلى القادم للبلاد، ففي حالة وفاة خامنئي البالغ من العمر 84 عامًا، أو ترك منصبه قبل انتخابات مجلس الخبراء المقبلة في عام 2032، فإن المجلس الحالي الذي يسيطر عليه التيارات المتشددة سيختار خليفته، ومن ثم تُشير التقارير الدولية أن غلبة التيار المتشدد على الرئاسة والبرلمان إنما مثل تمهيدًا لحل مسألة خلافة خامنئي بين التيارات المحافظة والمتشددة فقط بعيدًا عن الإصلاحيين، وقد أشارت نتائج الانتخابات التشريعية إلى خسارة المحافظين التقليديين لصالح الفصائل السياسية الأكثر تشددًا، وشهد تيار “محمد باقر قاليباف” تراجعًا في الانتخابات الأخيرة، لعدة اعتبارات غير كونه من التيار المحافظ التقليدي، ومنها فضائح وقضايا أخيرة تورطت فيها عائلته، كما أن أبرز نتائج الانتخابات على مستوى مجلس الخبراء هو فشل آية الله صادق آملي لاريجاني في الاحتفاظ بمقعده، وهو رئيس المحكمة العليا السابق (2009-2019) والذي يشغل منصب رئيس مجمّع تشخيص مصلحة النظام منذ عام 2018، وهي الهزيمة التي رحبت بها التيارات المتشددة، حيث زعم مراقبون أنه تم إقصاؤه عمدًا لمنعه من عرقلة طريق الرئيس الراحل رئيسي لخلافة خامنئي كمرشد أعلى.
وبشكل عام، فإن ضعف قيادة رئيسي خلال فترة رئاسته يشير إلى أن غيابه لن يترك تأثيرًا ملحوظًا على القرارات الرئيسية المتعلقة بالسياسة الخارجية والداخلية على حد سواء؛ لأن خامنئي هو من يحدد هذه السياسات في نهاية المطاف باعتباره قمة هرم السلطة، أو لأن رئيسي نفسه كان رئيسًا مواليًا تمامًا للمرشد الأعلى في إيران، بيد أن رحيله المفاجئ سيعيد ترتيب أوراق التيارات المتشددة في شخصية خليفة المرشد الأعلى أكثر من ترتيب الأوراق بشأن شخصية رئيس البلاد، ومنصبه في حد ذاته، حيث إنه من المرجح أن يقوم الرئيس الجديد بدور معتبر في الإشراف على عملية استبدال المرشد الأعلى، وعليه تزايد حالة عدم اليقين المحيطة بشخص المرشد الجديد أكثر من حالة عدم اليقين بشأن شخصية رئيس البلاد.
|