×

  شؤون دولية

  إيران- باكستان.. أسباب التصعيد العسكري وانعكاساته



*الباحث مصطفى شلش

 

*مركز الدراسات العربية الأوراسية (CAES)

شنت إيران ضربات على مقاطعة بلوشستان الباكستانية؛ مما أسفر عن مقتل طفلين، وإصابة آخرين، وفقًا للسلطات الباكستانية. وزعمت إيران أنها “استهدفت الإرهابيين الإيرانيين فقط على الأراضي الباكستانية، ولم تستهدف أي مواطن باكستاني”. وقالت وكالة تسنيم الإيرانية الإخبارية إن طهران استهدفت معاقل جماعة جيش العدل السنية المتشددة. أثار الهجوم غضب باكستان، التي وصفت الهجوم بأنه “انتهاك فاضح للقانون الدولي، ويؤثر في العلاقات الثنائية بين البلدين”. وردت إسلام آباد بعمل عسكري وصفته بـ”سلسلة من الضربات العسكرية الدقيقة والمنسقة جدَّا” على عدة مخابئ للانفصاليين داخل الأراضي الإيرانية، لتبدأ مرحلة من التصعيد العسكري غير المسبوق بين البلدين الجارتين، وتطرح معها عدة تساؤلات عن دلالات التصعيد العسكري وأسبابه، وما سيترتب عليه مُستقبلًا في العلاقات الإيرانية- الباكستانية.

 

أمن الحدود.. النقطة المحورية في العلاقات الإيرانية- الباكستانية

ظلت الحدود الباكستانية الإيرانية نقطة خلاف رئيسة بين البلدين. أثرت أنشطة المتمردين البلوش، سواء على الجانب الباكستاني أو الإيراني، في الوضع الأمني في مقاطعة بلوشستان الباكستانية، ومقاطعتي سيستان وبلوشستان الإيرانيتين، وكانت هذه الديناميكية سببًا في إشكالية علاقات الجوار، ومصدرًا لانعدام الثقة المتبادلة. وفي حالة إيران، كان مصدر القلق الرئيس متمثلًا في أنشطة منظمة جند الله (وهي منظمة انفصالية) وفرعها جيش العدل. وقد شاركت كلتا المجموعتين المسلحتين في عدد كبير من الهجمات ضد أعضاء الحرس الثوري الإيراني، وكذلك ضد المدنيين، واتهمت إيران إسلام آباد بتوفير ملاذات لهذه الجماعات المسلحة في بلوشستان الباكستانية، تضمن لها التسلل الآمن عبر الحدود بعد كُل هجوم.

لم تدعم باكستان قط المسلحين الذين يعملون ضد إيران بأي صفة رسمية، لكن المتمردين استفادوا من مساحات واسعة من الأراضي الحدودية الإيرانية الباكستانية غير الخاضعة للحكم نسبيًّا، التي تصادف أنها كانت أيضًا ملاذات للتهريب. لكن بعد هجوم زاهدان عام 2007، استدعت السلطات الإيرانية السفير الباكستاني، وقدمت احتجاجًا رسميًّا. واستجابت باكستان لمخاوف إيران، وسلمت لها عبد الحميد ريجي، شقيق عبد الملك ريجي، وزعيم جماعة جند الله. وخلال عام 2009، اجتمع مسؤولون أمنيون من البلدين في كويتا، عاصمة بلوشستان الباكستانية؛ مما مهد الطريق للتعاون في قضية أمن الحدود. وفي عام 2010، قبضت إيران على زعيم جند الله، عبد الملك ريجي، الذي ادعى المبعوث الباكستاني في طهران أن باكستان أدّت دورًا مهمًّا في القبض عليه.

وقعت كثير من الحوادث المماثلة الأخرى التي عرّضت أمن الحدود للخطر، لكن هذه الحالات أدارها الجانبان سياسيًّا، وأظهرت أن القيادة الباكستانية كانت مستعدة للعمل جنبًا إلى جنب مع إيران بشأن هذه القضية. ومع تغير الحكومة، وتولي حكومة الرابطة الإسلامية الباكستانية زمام الأمور، كان هناك شعور عام داخل باكستان بأن حكومة مرتبطة بقوة بالمملكة العربية السعودية قد تعني بداية فصل جديد من التوترات مع إيران، وذلك على خلفية العلاقات المتوترة بين الرياض وطهران. وبالفعل، شهد عام 2014 واقعة اختطاف جنود تابعين لحرس الحدود الإيراني، وزعمت طهران أن الحراس محتجزون داخل باكستان؛ مما أدى إلى تدهور نظام إدارة الحدود، وتحويل المنطقة الحدودية إلى منطقة أعمال عسكرية، وشهدت أعمال قصف أدت إلى مقتل جندي باكستاني، واعترضت إسلام آباد على هذا من خلال إلغاء زيارة كانت مُقررة للرئيس الإيراني السابق حسن روحاني للبلاد، لتبقى قضية أمن الحدود من أبرز العوامل المؤثرة في العلاقات الإيرانية- الباكستانية.

 

الطائفية.. الصراع السني- الشيعي عبر الحدود

جَنّدت إيران الشيعة الباكستانيين في الحرب الأهلية السورية؛ للقتال إلى جانب نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وقد جنّدَ الحرس الثوري الإيراني هؤلاء المقاتلين تحت راية لواء زينبيون، واستقطبهم من المناطق القبلية على طول الحدود الباكستانية- الأفغانية،  لاسيما منطقة باراتشينار؛ فهي ذات أغلبية شيعية، وتحيط بها المناطق القبلية السنية التي ظلت معقلًا لحركة طالبان، وقد شهدت باراتشينار عددًا كبيرًا من الهجمات الإرهابية ضد السكان الشيعة.

ومع أن الدولة الباكستانية شنت عدة هجمات عسكرية ضد طالبان، وطردتهم من معاقلهم الرئيسة في المناطق القبلية، لكن بقى شعور الشيعة في باراتشينار أن الدولة لم تفعل ما يكفي لحمايتهم، ولم توفر لهم موارد كبيرة لتحسين الوضع الأمني. وقد استغلت إيران هذه المظالم فيما يتعلق برواية “التهديد الذي تتعرض له المقامات الشيعية” في سوريا؛ مما أدى إلى تجنيد هؤلاء الشيعة في الصراع السوري. ولم تكن الدوائر الأمنية الباكستانية موافقة على هذه التطورات؛ لأن هذا النوع من التجنيد يؤدي إلى تجنيد المسلحين السنة، ويزيد تفاقم الصراع الطائفي في البلاد، بل يمكن استخدام الجماعات المُقاتلة الشيعية داخل باكستان كوكيل إيراني؛ لذا حظرت السلطات الباكستانية جماعة أنصار الحسين، وهي المنظمة التي زُعم أنها متورطة في حملة التجنيد هذه في المناطق القبلية.

لقد ظل تسييس المسألة الطائفية في باكستان موضوعًا متكررًا في السياسة الوطنية، وقد استفادت باكستان من الصراع السُني- الشيعي مُنعكسًا في توتر العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران، وتبنت إسلام آباد سياسة مدروسة ومرنة للتعامل مع كلا البلدين على حدة، علمًا بأنه منذ عام 1979 استقبلت باكستان- بمساعدة الأمريكيين- الجهادييين القادمين من المنطقة العربية، واستفادت من دعم السعودية المالي والسياسي، وعقب سقوط حكومة طالبان في أفغانستان في أعقاب الغزو الأمريكي، تعاونت باكستان مع طهران لإدارة الأوضاع الأمنية داخل البلاد لحماية مصالحهما، بالإضافة إلى ضمان أمن الأقلية الشيعية، ومواجهة خطر أي دعوة انفصالية عن الأراضي الباكستانية، لا سيما من قبائل البشتون.

ولا تستطيع باكستان أن تتحمل خسارة المملكة العربية السعودية؛ حيث يعمل عدد كبير من الباكستانيين، وهناك تجارة بقيمة تفوق (3.5) مليار دولار بين البلدين، وأعلنت المملكة استثمار 20 مليار دولار في باكستان عام 2019، لكن لا يمكن استعداء إيران كذلك؛ لذا كان قرار البرلمان الباكستاني رفض الطلب السعودي إرسال قوات كجزء من التدخل العسكري السعودي في اليمن. ولتهدئة الغضب السعودي، أعلنت إسلام آباد انضمامها إلى التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب (IMAFT).

 

العامل الهندي.. مخاوف باكستان من إيران

إيران دعمت باكستان في حرب عام 1971 ضد الهند، لكن نشأ انعدام الثقة والعداء الشعبي لسببين؛ الأول: التطورات التي أعقبت الثورات الإيرانية، وأعطت بُعدًا طائفيًّا بين البلدين (سُني- شيعي). ثانيًا: تعتقد إيران أن باكستان ترعى الجهاديين البلوش لإرضاء الغرب والمملكة العربية السعودية، في حين ترى باكستان أن السياسة الإيرانية أصبحت تدعم أنشطة الهند ضدها.

في عام 2017، قتل جيش العدل واختطف جنودًا إيرانيين، وهددت إيران بضرب ما وصفته “الملاذات الآمنة للمتشددين” داخل باكستان، لكن هذا التهديد الإيراني جاء في وقت كانت فيه باكستان منخرطة في صراع حدودي منخفض الحدة على طول خط السيطرة في كشمير، حيث اندلعت اشتباكات بين القوات الهندية والباكستانية. واعتبر الرأي العام الباكستاني أن طهران انحازت إلى الهند، ولم يكن هذا التهديد بعمل عسكري إلا مُساندة لنيودلهي، وقوض هذا التهديد الإيراني الاتفاق الذي تم التوصل إليه خلال المفاوضات بين مسؤولين إيرانيين وباكستانيين لتعزيز أمن الحدود من خلال تشكيل لجنة أمنية مشتركة.

وقعت إيران والهند اتفاقية تصدير عام 2016، كما زار رئيس الوزراء مودي طهران في العام نفسه، ووقّع اتفاق مشروع تطوير ميناء تشابهار، واستثمرت الهند 85 مليون دولار، وتحملت نفقات سنوية تصل إلى 23 مليون دولار لتحصل على عقد إيجار للميناء عشر سنوات، وهذا يعني أن الهند ستحصل على فرصة للتواصل مع منطقة آسيا الوسطى التي تشترك في الحدود مع أفغانستان.

وبجانب تطوير ميناء تشابهار للتجارة مع أفغانستان، شيّدت الهند شبكة مواصلات حديثة متعددة الاستخدامات في مدينة تشابهار الإيرانية، على بعد نحو اثنين وسبعين كيلومترًا فقط من ميناء جوادار الباكستاني، ومشروع الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني، بالإضافة إلى خط سكة حديد تشابهار- زاهدان بالقرب من الحدود الأفغانية، وكان الهدف من هذه المشروعات تقليص نفوذ الصين، وزيادة مكانة الهند في المنطقة، ونقلت نيودلهي القمح إلى أفغانستان من خلال ميناء تشابهار منذ عام 2017، كما أنها تبني منطقة تجارة حرة حول هذا الميناء.

وقد زار الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني الهند في عام 2018، ووقع على كثير من اتفاقيات تطوير مناطق التجارة الحرة والمناطق الصناعية مع الهند، وفُعِّلَ قانون تشجيع الاستثمار الأجنبي وحمايته (FIPPA) لتوفير الحماية للاستثمار الأجنبي وفقًا لقواعد منظمة التجارة العالمية ولوائحها؛ لجذب مزيد من الاستثمار، وكل هذا كان في ضوء رد الهند على الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني، لكن خطورة التقارب بين طهران ونيودلهي أنه يُحيد باكستان في أثناء وصول الأخيرة إلى أفغانستان، كما يسمح للهند بمد خط أنابيب للغاز تحت البحر من ميناء تشابهار إلى ساحل ولاية غوجارات، وذلك بعد أن انسحبت من مشروع أنابيت (IPI) عام 2009؛ مما يعزز برامجها الاقتصادية، ونفوذها في منطقة جنوب آسيا.

 

مستقبل العلاقات الباكستانية- الإيرانية

فيما يتعلق بباكستان، فإن تصعيد الهجمات الأخيرة إلى مواجهة عسكرية شاملة مع إيران غير مُحتمل، فالبلاد مُقبلة على إجراء انتخابات مهمة، في ظل حالة استقطاب داخلية غير مسبوقة على خلفية الإطاحة برئيس الوزراء السابق عُمران خان، كما تشهد إسلام آباد أزمة اقتصادية طاحنة؛ لذا لا تستطيع معها أن تتحمل التورط في صراع طويل الأمد مع طهران. بالإضافة أن الحدود الباكستانية الهندية والأفغانية تشهد حالة من الاضطراب؛ ومن ثم فإن فتح جبهة ثالثة سيكون عبئًا ثقيلًا على الجيش الباكستاني.

أما إيران فتُعاني جهدًا عسكريًّا مفرطًا؛ فوكلائها في الشرق الأوسط يخوضون مواجهات مفتوحة من سوريا، والعراق، واليمن، وجنوب لبنان، وغزة، ضد إسرائيل، كما أن هناك جهدًا دوليًّا تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز الحضور العسكري الغربي خصوصًا، والدولي عمومًا، بالقرب من المناطق البحرية الإستراتيجية لطهران؛ مما يهدد أمنها القومي، وقد ينقل المواجهة إلى أراضيها في أي لحظة؛ ومن ثم فإنه ليس من مصلحة الجيش الايراني أن يفتح جبهة على الحدود الباكستانية في حين سيركز كل جهوده لإسناد حلفائه في الخارج، ومحاولة تجنب أي مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.

 لذا من المتوقع أن تكتفي إسلام آباد وطهران بهذه الدرجة من التصعيد، على أن يتحرك كلا البلدين بعيدًا عن الآخر، حيث ستميل باكستان إلى تعزيز علاقاتها مع الصين، وتركيا، والمملكة العربية السعودية، في حين من المتوقع أن تنفتح إيران أكثر على الهند.

*مركز الدراسات العربية الأوراسية (CAES)، مؤسسة بحثية مستقلة، متخصصة بشؤون أوراسيا. والمقصود بها روسيا و «جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق» والأحزمة المحيطة بها (الصين، تركيا، إيران، أفغانستان، باكستان، الهند، بنغلاديش) وعلاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.


21/01/2024