×

  قضايا كردستانية

  إشكالية ثقافتي الاختلاف والتأصيل



*أ . د . دانا أحمد مصطفى

في التاسع من نيسان عام 2003، سقط صنم رئيس النظام المباد (صدام)، ولم يكن ذلك الحدث عابراً أو عاديا، بل كان بمثابة زلزال هز  المشهد السياسي والإعلامي في المنطقة والعالم أجمع، ودفع بالعديد من المراقبين التنبؤ بحدوث تغييرات لاحقة، ستكون جذرية ودراماتيكية، والعراق يكون مركزها بطبيعة الحال.

وقد علمنا الـتاريخ وخصوصاً في جانبه الظاهراتي، إن ما يحدث على الأرض سيؤثر في ما يتجلى في العقل، بقدر ما يتأثر به.

 على هذا، رأينا أن تكون العلاقة بين ما نعيشه على أرض الواقع وما نتصوره في عقولنا، علاقة جدلية، وإلا فإن هوة ستظهر بين بنية الواقع المتجسدة في المكان وبنية الخطاب المتجسدة في الزمان أو التأريخ.

وإن ردم تلك الهوة سيكون على حساب إحدى البنيتين، والنتيجة ستكون كارثية كما حدث في الماضي.

وإنَّ قراءة أبعاد هذا التأسيس السياسي في مجمل العلاقات الفكرية والايديولوجية على جميع الأصعدة، تتطلب استنطاق الأحداث والرؤى تأريخياً وفكرياً وحضارياً وتحويل أهميته المادية والكمية منظومة من القيم المعنوية والنوعية، مما يستدعي البحث عن أطياف أصنام أخرى سقطت بسقوط ذلك الصنم، ولربما لم تسقط بعد.

 نقول (أطياف أصنام) لأنها لم تكن أصناما مادية أو سياسية واضحة المعالم، بل أصنام ثقافية ورمزية وأيديولوجية اتخذت طابعا هيولانياً، مفذت العقول وما زالت، ومهدت الأرضية لإقامة ذلك الصنم.

وإن معاينة تلك الأصنام الثقافية، وتحديد بناها وهياكلها الرمزية، ونقدها، وتفكيك خطاباتها.. أصعب بكثير من معاينة صنم الدكتاتور الذي مثَّل وبشكل واضح أمام مرأى العراقيين، لأكثر من ثلاثة عقود.

 لأن تلك الأصنام الطيفية تمركزت في العقول، والسطور، والثقافات، بعقود وربما بقرون، وإن تشخيصها، من الناحية الثقافية والفكرية، يتطلب مشوارا طويلا وشاقا، والمضي بخطى حثيثة ومسؤولة تكون في مستوى هذه المرحلة الهامة، بكل تداعياتها وخطورتها.

إن ما يحدث اليوم، يوسع آفاق الامكانات والفرص بقدر ما يؤذن بإشكاليات وتحديات تستدعي التحضير لها بجدية وروية، لأن ما يحدث لم يوجد شرخاً في الخطاب المادي والسياسي المباشر للقضية العراقية، بقدر ما أوجد شرخاً في منظومة المعاني والرموز التي طالما أغرقت الثقافة العراقية والعربية بشكل عام في جعجعة من الخطابات التوهيمية القائمة على خلط الأوراق، ولفت الانتباه نحو أعداء وهميين.

من هنا فلا عجب أن رأينا العديد من الرموز الثقافية العربية وهي تقف في مواجهة الأحداث العراقية، سلبيا، رغم ميولها واتجاهاتها المتعارضة، من أصحاب الخطابات التقليدية أصحاب الخطابات الحداثوية، ومن دعاة المشاريع الأصولية دعاة المشاريع العلمانية، ومن منظري الايديولوجيات القومية منظري الايديولوجيات الاشتراكية.

 ورأينا كيف شتت، ولا تزال، الحملات ضد مشاريع التغيير في العراق وضد طموحات الحالمين بعراقٍ يقبل التعددية والتنوع الثقافي والايدولوجي، عراق خالٍ من الدكتاتورية وثقافتها، تارة باسم حماية الهوية الدينية وتارة باسم حماية الهوية القومية، طورا باسم الأصالة والماضي وطورا باسم الحرية والمستقبل.

لكن جمع هذه الخطابات المختلفة من حيث اللفظ والمؤتلفة من حيث المعنى، أظهرت مدى مرضية هذه الثقافة الموغلة في الازدواجية الأخلاقية والشيزوفرينيا الفكرية، والتي تعاني منذ عقود وقرون إثر مرض عقلي/ أخلاقي عضال، سماه اللغويون بإشكالية اللفظ والمعنى، وسماه فلاسفة اليونان قبل ألفي سنة بالسفسطة، وصوره أحد الفلاسفة الأخلاقيين في هذا القرن بالحالة التي يحدث فيها انشطار بين المظهر والجوهر، ووصفها مفكر معاصر بمعضلة الحجب اللغوي، أي تلك الحالة التي تقوم فيها اللغة بحجب الحقائق بدل أن تقوم بإضاءتها.

وبإزاء هذا الخطاب، الذي ينتج اللفظ الفارغ من المعنى، هناك خطاب ينتج الصمت المشحون بالمعنى.. ويلج كلاهما في تحالف قائم على الإظهار والإخفاء: إظهار ما هو ظاهر بالفعل، وإخفاء ما يفتقر الإظهار والإضاءة، ولعل تناول القضية الكوردية، في الساحتين الفكرية والاعلامية العربيتين، وكيفية التعاطي مع أبعادها الخطيرة على الأصعدة السياسية والفكرية والإنسانية البحتة، خير دليل على مدى فاشية ذلك التحالف بين الملفوظ والمسكوت عنه في الثقافة والفكر العربيين، فعدا الجعجعة المنطوقة التي أنتجتها ماكنة اللفظ في الثقافة العربية لتشويع القضية الكردية، وحتى الإنسان الكردي، وتصويره في صورة الباغي أو الخائن أو الخنجر المزروع في الخاصرة وغيرها من الألفاظ، التي تزخر بها ثقافة اللفظ والجرس، رأينا كيف دخلت ماكنة إنتاج الصمت في تحالف مع ماكنة إنتاج اللفظ، وكيف قامت الأولى بالتستر على ما تحجبه الثانية؟!

فإذا كانت مأساة حلبجة، واستخدام الأسلحة الكيمياوية ضد ساكنيها المدنيين، قد جرى تناولها من قبل ماكنة اللفظ بالتشويه المعتمد من خلال إظهار الضحية في صورة الجلاد، والجلاد في صورة الضحية. فإن فاجعة الأنفال التي راح ضحيتها مئة واثنان وثمانون ألف مواطن كردي عزل، تم قتلهم جماعيا ودفنهم في مقابر صحراوية، قد قابلته ماكنة الحجب بصمت رهيب، لعله كان أكثر خطورة من الجعجعة اللفظية، التي حاولت تشويه فاجعة حلبجة!.. لكننا، ومع ذلك لا نكون منصفين لو لم نعترف بأن الثقافة الكوردية ذاتها، مصابة هي الأخرى بذات الداء، وان الخطاب الكوردي أيضا جزء من الخطاب الشرقي العاجز عن معاينة الاختلاف وبناء الجسور الثقافية بين أصحاب الرؤى المغايرة.

ولا نكون منصفين أيضا لو لم نعترف بعمق وإنسانية الجانب المضيء من الثقافة العربية التي تمثلها أقلام تقوم بتفكيك ونقد الواقع الثقافي العربي بشكل تدفع بالثقافة الكوردية أيضا مراجعة ذاتها وتشخيص نقاط الضعف في خطابها، بشكل يخدم الثقافتين والخطابين معا نحو بناء مستقبل شفاف يسمي الأشياء بأسمائها.

ولكن بعد انقشاع الغيوم وأفول الأصنام، يمكننا القول: إننا أمام زمن جديد وحقبة جديدة، زمن على كل مثقف وكاتب أن يسهم في بنائه من جديد، منطلقا من قيم الإخاء والتسامح وحب الحياة والإنسانية، وكل القيم النبيلة التي شوهها النظام البعثي البائد في نفوس العراقيين، بغية إرساء أسس سليمة لثقافة سليمة، غير قمعية، غير مشوهة، ثقافة من أجل الحياة لا الحروب، ثقافة من أجل الإنسانية لا الأيديولوجيات، ثقافة تحرر إنسان وادي الرافدين من كوابيس النظام البطريركي، لكي يحتضن الحياة من جديد بروح حرة غير مستعبدة.

وفي هذا الزمن، زمن ما بعد الأصنام، وزمن ما بعد الأنفال، وما أحوجنا نحن الكرد والعرب استئناف الحوار من جديد، بهدف التواصل والتفاهم ومد الجسور بين ثقافتينا منطلقين من إيماننا بالحوار والانفتاح الثقافي والحضاري.

إننا وإذ ندعو حوار صادق بين المثقفين والساسيين والمفكرين الكرد والعرب وأصحاب الرؤى المختلفة في زمن ما بعد الأصنام الايديولوجية والثقافية، نؤمن بأن الحوار بين العرب والكرد ومثقفيهم وسياسييهم ومفكريهم بشكل خاص، لا يمكن أن يتم دون الاعتراف المسبق بحق الاختلاف كحق طبيعي يُولَدُ بولادة الانسان.

وإنَّ الاتفاق بين العرب والكرد وشراكتهم في بناء العراق المنشود، لا يلغي حقيقة الاختلاف بين القوميتين، لأن الاتفاق الحقيقي يُولّدُ من الاختلاف. وإن المعنى الحرفي التي اختارها الشعب الكردستاني، من خلال برلمانه الشرعي، صيغة للتعايش بين شعب كردستان والشعب العربي في العراق.. هو (الاتحاد).. وهناك فرق بين مفهومي (الوحدة) و(الاتحاد)، مفهوم الوحدة الذي رفعه الوحدويون العرب قائم على التوحيد، فصيغة (التوحيد) المشتقة من فعل (وَحَّدَ) تفتقر فاعل ومفعول، أي جهة عالية وجهة دانية، وهذا ما نرفضه. أما في صيغة (الاتحاد) المشتقة من فعل (اتَّحَد) فالجميع فاعلون، والعلاقة بين الفاعلين هي علاقة الطرف مع الطرف وليست علاقة الطرف مع المركز أو علاقة العالي مع الداني.

 لذلك نؤمن بضرورة التعامل مع الشعب الكوردي باعتباره طرفاً وشريكاً في العراق، وإنَّ الشراكة لا تتم الا بإقرار جميع الحقوق للطرف المقابل. وإنَّ تجربة الشعبين الكردي والعربي في صيغ علاقاتهم مع بعض خلال العقود الماضية في العراق، أثبتت أن الوحدة الاجبارية والالحاقية لا تؤدي إلا مزيد من الانقسام والانشطار، أما الاتحاد الاختياري فهو الصيغة المُثلى للتعايش، وأن هذا الاتحاد الاختياري لا يتم الا بعد إرجاع الحقوق لأصحابها، وإزالة جميع الآثار التي خلفها النظام البعثي المباد، وخصوصاً في المناطق المتنازع عليها، وتعويض جميع المتضررين الأحياء وذوي المتضررين الأموات، الذين راحوا ضحايا لتلك الممارسات الشوفينية، التي تخل بقيم الشراكة والتعايش السلمي بين القوميات.

إن الشعب الكردي الذي ذاق الأمرَّين على يد البعثيين الشوفينيين طوال تأريخه المعاصر، وارتكبت بحقه جرائم بشعة كقصف أبنائه بالأسلحة الكيمياوية وإبادة عشرات الآلاف منهم في حملات الأنفال للتطهير العرقي، والذي تمكن بفضل انتفاضته الميمونة عام 1991 والحماية الدولية بعد هجرته المليونية المناطق الحدودية من تحرير جانب كبير من أرض كردستان وتشكيل برلمانه وحكومته الإقليمية…

لم يزل يختار التعايش مع الشعب العربي في العراق، ذلك إيماناً منه بأن الشعب العربي لم يكن مسؤولا عن تلك الجرائم. عليه، فإن على الشعب العربي أيضا، ومثقفيهم على وجه الخصوص، الإقرار بجميع الحقوق القومية للشعب الكردي، سبيلا نحو التعايش الحقيقي الذي ننشده، هذا ما ننتظره من المثقفين العرب، خاصة ان هناك أسماء في الثقافة العربية سطعت في جبهة الدفاع عن الشعب الكردي، والدفاع عن الخصوصية أينما وجدت، من أمثال: محمد مهدي الجواهري، عبدالوهاب البياتي، علي حرب، شوقي بزيع، نصر حامد أبو زيد.. وغيرهم ممن أنصفوا بحق قضية شعب كردستان، وقضية الإنسان والحياة بشكل عام بعيداً عن النعرات الشوفينية القومية الضيقة، وبعيداً عن توهيمات نظرية المؤامرة التي راح الشعب الكردي ضحيتها قبل الآخرين.


15/02/2024