×

  بحوث و دراسات

  عن تاثيرات جغرافيا الزمن على العلاقات الدولية



*د. محمد عبدالله يونس

*انترريجيونال للدراسات الاستراتيجية

في خضم التحولات المتسارعة التي تجتاح العالم، ووتيرة التغيير التي تبدو، في كثير من الأحيان، غير مسبوقة؛ يُطِل علينا الماضي برأسه من جديد ليؤكد حضوره الدائم في تشكيل وتوجيه مسارات الحاضر والمستقبل؛ ففي حين ينشغل المراقبون باستشراف التوجهات الناشئة والظواهر المستجدة على الساحة الدولية؛ تُذكِّرنا عودة بعض الشخصيات والتيارات التي توارت للخلفية مؤقتاً – مثل عودة ترامب مجدداً كمرشح رئاسي بفرص غير قليلة لتصدُّر السباق إلى البيت الأبيض، وصعود اليمين المتطرف والنزعات الشعبوية في الغرب – بأننا لا نستطيع فهم التحولات الراهنة بمعزل عن محددات وإرث الماضي.

ينطبق الأمر ذاته على الصراعات الإقليمية والدولية التي تبدو كحلقات متشابكة لا تنتهي من التصعيد والتهدئة دون نهاية حاسمة. وتجليات ذلك عديدة ولا حصر لها في أقاليم العالم المختلفة.

إن ظاهرة "استدعاء التاريخ" قد أصبحت اتجاهاً صاعداً في الأدبيات الأكاديمية والفكرية، بصفتها إطاراً تفسيرياً للظواهر الشديدة التعقيد التي تطبع المشهد العالمي. فسواء كنا نتحدث عن الخلافات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، أو الصراعات الإثنية والطائفية، أو أزمات الهوية والاندماج داخل المجتمعات؛ فإن جذور هذه القضايا تمتد عميقاً في تربة الماضي، وتستمد زخمها من تراكمات الذاكرة الجماعية والخبرات التاريخية للأمم والشعوب.

 

استحضار "منظورات التاريخ"

تبرز أهمية المنظور التاريخي في توفيره أداة تحليلية قوية لفهم التناقضات الظاهرية للتحولات الراهنة؛ فكيف يمكن تفسير تزامن موجات التقدم التكنولوجي المذهلة مع ظواهر الانغلاق الثقافي والتشدد الهوياتي؟ أو كيف نستوعب استمرار الصراعات الإقليمية العتيقة في عصر الترابط والاعتماد المتبادل الكوني؟ هنا يأتي الماضي ليلقي الضوء على التوترات البنيوية العميقة التي تحكم حركة المجتمعات والدول، والتي تستعصي على المنطق الخطي للتقدم والعقلانية، وهو ما يمكن تفسيره من خلال عدة اتجاهات:

 

1– تفسير التحولات الكبرى:

استحضار التاريخ في تحليل العلاقات الدولية لا يقتصر فقط على رصد أوجه الاستمرارية والتكرار، بل يمتد ليشمل أيضاً فهم آليات التغيير والتحول؛ فعلى مدى القرن الماضي، شهد النظام الدولي سلسلة من الانتقالات العنيفة ما بين التعددية والثنائية والأحادية القطبية، وصاحب ذلك تفجُّر حروب عالمية، وانهيار إمبراطوريات عريقة، وتغير جذري لمعالم الخريطة السياسية العالمية.

وفي كل مرحلة انتقالية، كان الفاعلون الدوليون يستندون – بوعي أو بغير وعي – إلى ذخيرة من التجارب والدروس المستقاة من محطات فارقة في التاريخ، سواء لإعادة إنتاج الأنماط السائدة، أو لتجاوزها والتكيف مع الوضع الجديد. وهنا يأتي دور التحليل التاريخي في فهم الدوافع والآليات وراء هذه التحولات، وكيف تفاعلت العوامل البنيوية والظرفية لتشكيل ملامح النظام الدولي في كل مرحلة.

ومن خلال تتبع المسارات التاريخية للتغيير، يمكننا استخلاص نماذج وأنماط عامة تساعدنا على فهم وتفسير التحولات الراهنة والمستقبلية، كما يتيح لنا ذلك تحديد العوامل المحفزة والمعيقة للتغيير، والكيفية التي تتفاعل بها هذه العوامل في سياقات مختلفة. ومن ثم، فإن الرجوع إلى التاريخ لا يعني الاستسلام لحتمية تكرار الماضي، بل هو أداة لاكتساب حكمة تراكمية تُمكنِّنا من صناعة مستقبل أفضل.

 

2– تحفيز التحركات الدولية:

 لا يقف تأثير التاريخ على العلاقات الدولية عند كونه مجرد سياق زمني يحتضن الأحداث والتطورات، بل يمتد ليشمل دوره كمحفز ومحرك أساسي للتفاعلات بين الدول؛ فالذاكرة التاريخية للأمم، بما تحمله من إرث نفسي وعاطفي وأيديولوجي، غالباً ما تُشكِّل الأساس الذي تُبنَى عليه التصورات والمواقف تُجاهَ الذات والآخر، وهو ما ينعكس بدوره على طبيعة العلاقات الثنائية والتحالفات الإقليمية والتوجهات الاستراتيجية للدول.

فعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم التوترات المستمرة بين اليابان وكوريا الجنوبية دون الرجوع إلى جذورها في فترة الاستعمار الياباني لشبه الجزيرة الكورية، وما خلَّفته من تعقيدات في الوجدان الجمعي. وهكذا فإن التاريخ لا يشكل فقط سياقاً استاتيكياً للعلاقات الدولية، بل يلعب دوراً دينامياً في تحفيز وتوجيه تفاعلاتها، سواء نحو التعاون والتكامل، أو نحو الصراع والتنافس.

 

3– تدعيم شرعية السياسات:

 غالباً ما تلجأ الدول إلى استدعاء أحداث وتجارب تاريخية معينة لتبرير سياساتها الخارجية وتأكيد شرعية مواقفها إزاء القضايا الدولية؛ فعلى سبيل المثال، تستند روسيا في تدخلها العسكري في أوكرانيا إلى روابط تاريخية وثقافية ورواية تاريخية كبرى للعلاقات الثنائية، بينما تدفع الصين بسيادتها على بحر الصين الجنوبي استناداً إلى حقوق تاريخية مورثة.

 

4– تفعيل القوة الناعمة والدبلوماسية العامة:

 تسعى الدول إلى توظيف إرثها التاريخي والحضاري كمصدر للجاذبية والتأثير في محيطها الإقليمي والدولي؛ فمن خلال الترويج لقِيَمها وإنجازاتها عبر التاريخ، تهدف الدول إلى تعزيز صورتها وكسب تعاطف وتأييد الرأي العام العالمي، وهو ما يتجلى في المنافسة بين القوى الكبرى على استضافة الفعاليات الثقافية والرياضية العالمية، أو في الجهود الدبلوماسية لإحياء طرق تجارية تاريخية كطريق الحرير.

 

5– استدعاء الدروس التاريخية:

يشكل التاريخ مخزوناً غنياً بالتجارب والنماذج التي يمكن الاستفادة منها في صياغة السياسات الخارجية وإدارة الأزمات الدولية؛ فمن خلال دراسة نجاحات وإخفاقات الماضي، يستطيع صُنَّاع القرار استخلاص الدروس اللازمة لتطوير عملية صنع القرار، وتجنُّب تكرار الأخطاء، وهو ما يتجلى في اهتمام العديد من وزارات الخارجية والمراكز البحثية حول العالم بتحليل الأحداث التاريخية وتطبيق نماذجها على القضايا المعاصِرة.

 

6– فهم الصراعات الممتدة:

 تُعَد بعض الصراعات الدولية المعاصِرة امتداداً لنزاعات تاريخية عميقة الجذور لم يتم حلها بصورة كاملة، وهو ما يجعل من التاريخ عاملاً معرقلاً لتسوية هذه الصراعات؛ حيث تتشابك فيه الحقوق المتنازَع عليها والمَظالم المتبادَلة والروايات المتضارِبة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، النزاع بين الهند وباكستان حول إقليم كشمير، الذي يعود إلى تركة الاستعمار البريطاني، وظروف تقسيم شبه القارة الهندية.

 

تفكيك "خرائط الماضي"

إن التاريخ لم يكن يوماً خطاً مستقيماً يسير بإيقاع ثابت، بل هو سلسلة متعرجة من التحولات المفاجئة والطفرات الثورية والانتكاسات المؤلمة، وهو ما يدعونا إلى التعامل بحذر مع مقولات "نهاية التاريخ" أو "صدام الحضارات" أو غيرهما من النبوءات القطعية حول مصير البشرية، والتسليم بأن المستقبل لا يخضع لحتميات جامدة، بقدر ما هو نتاج تفاعل دائم ومُعقَّد بين إرث الماضي ومتطلبات الحاضر وتطلُّعات المستقبل.

فالتاريخ، في جوهره، سجل حافل بالمفارَقات والتناقَضات؛ حيث تتعايش نزعات التقدم والانحسار، والتعاون والصراع، والوحدة والتجزئة في آن واحد، وهو ما ينعكس جلياً على مسار العلاقات الدولية التي تتأرجح باستمرار بين دورات من الاستقرار والاضطراب، والهيمنة والتعددية، والانفتاح والانغلاق. ولعل أبرز ما يميز اللحظة التاريخية الراهنة هو تسارع وتيرة هذه التحولات، وتداخل تجلياتها، بما يجعل فَهْم اتجاهاتها العامة وتداعياتها المستقبلية تحدياً شديد التعقيد.

لكن على الرغم من هذه الطبيعة الجدلية للتاريخ، فإن ثمَّة دروساً وحقائق ثابتة يمكن استخلاصها من سيرورته الطويلة، التي تُشكِّل بوصلة لإرشاد البشرية في مسارها نحو المستقبل. ومن أهم هذه الحقائق أن التعاون والتكامل بين الأمم والشعوب هما السبيل الوحيد لمواجهة التحديات المشتركة التي تُهدِّد وجودنا، كالحروب المدمرة، والأوبئة الفتاكة، والكوارث البيئية، والتطرف والإرهاب؛ فالتاريخ يخبرنا أنه كلما انكفأت الدول على نفسها، وتنكَّرت للمصير الإنساني المشترك، وقعت فريسة للنزاعات والاضطرابات التي عصفت بمكتسبات حضارية شيَّدتها أجيال متعاقبة. وعلى النقيض، فإن أزهى عصور الإنسانية كانت تلك التي سادت فيها روح التسامح والانفتاح والتلاقح الثقافي والمعرفي بين الحضارات والمجتمعات.

 

ختاما

 وفي إطار استشراف المستقبل، تناقش الزاوية المخصصة لهذا الغرض ظاهرة تنامي دور شركات الأمن الخاصة كلاعب دولي صاعد له تأثيراته المتشابكة على الصُّعُد السياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية والأخلاقية.

وفي نهاية المطاف، فإن الوعي بحضور التاريخ ليس دعوةً للاستسلام لقوة الماضي، بل هو فرصة لتجاوز إرثه الإشكالي، والاستفادة من دروسه في بناء مستقبل أفضل. إن استيعاب الدول والمجتمعات لتجاربها التاريخية يكفل التعايش مع إرث الماضي وإصلاح الذاكرة الجمعية. وحينها فقط، يمكن للأمم والشعوب أن تنظر إلى الأمام وهي متصالحة مع ماضيها، وقادرة على التعامل مع تحدياتها الراهنة بصورة متوازنة.

إن "التاريخ" – حسبما يقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي – "ملحمة عن كفاح الإنسان من أجل فهم قدره وتقرير مصيره". وعلى الدول والمجتمعات أن تدرك أن قدرها لا يخضع لقوانين حتمية، بقدر ما يتشكَّل وفقاً لما تتخذه من خيارات سياسية في الحاضر، في ضوء ما تستخلصه من حكمة الماضي، وتستشرفه من آفاق المستقبل.


26/06/2024